أرشيف المجلة الشهرية

فواز حداد الروائي الساخر

بقلم: شادية الأتاسي – العربي القديم  

ليس سهلاً أن تكتب عن عالم فواز حداد الروائي، عالم ممسوس بإشكاليات إنسانية عن الحياة والمتغيرات والبشر. يربكني أحياناً أسلوبه السردي الساخر، سهل وممتنع، صارم وطري، هادئ وصادم، وهو يكتب سردية الزمن السوري المعاصر، وهي سردية صعبة ومتشعبة، موضوعها مسيرة الإنسان السوري، بطله الأول والأهم.

الصوت القادم من قلب دمشق، يكتب عن الحياة، الحياة وهي تبدّل أطوارها، في زمن يتمدد من عهد لعهد، نحو هذا العصر المضطرب، الذي نحن فيه اليوم، مصحوباً بتلك النقلات من  صراعات وانقلابات وتقلبات، في فترات لم تخلُ من محاولات  للنهوض والصعود، ومن انحدارات كارثية.

لا يكتب فواز حداد، ليؤرخ أو يوثق هذا العالم المتشعب، هو ليس مؤرخاً، هو ببساطة روائي، روائي ساخر، يملك  خيالاً يفيض حيوية وخلقاً وابتكاراً. الخيال الذي يبني على معطيات الواقع، هو المعادل للإبداع، بل إنه يستعير أحياناً دور الحكواتي، مشحوناً  بسخرية لاذعة، يتقنها ويعرف كيف يستخدمها، فهو يدرك جيداً، أنه لابد من بعض نداوة وطراوة، تخفف من إيقاع  قسوة عالمه الهادر بالألم – يرشّ على الموت سكراً- وهي تقنية محيّرة، فأنت لا تدري، إن كان عليك أن تبكي أو أن تضحك، أو حتى تقهقه أحياناً. يذكرنا هذا بحكاية الفارابي الشهيرة، حين  دخل على مجلس الخليفة، فأبكى الجميع ثم أضحكهم، ثم نيّمهم، لكنك في روايات فواز حداد لن تستطيع أن تنام، فالألم الذي يختزنه عالمه، يتحدى العمق الإنساني لديك، يورّطك، لا يدعك تهدأ وتسترخي.      

اتكأ حداد في رحلته الروائية على مدى أكثر من ربع قرن، ونحو سبعة أو ثمانية عشر عملاً روائياً على رصد التاريخ السوري، وما حفل به من صراعات وتقلبات، بالتركيز على متتاليات فوضى النهوض والصعود والانحدار، بدءاً من  (موزاييك ١٩٣٩)، و(تياترو  ١٩٤٩)، مروراً بـ (الولد الضال)، و(عزف منفرد على البيانو)، و(المترجم الخائن)، و(جنود الله)، و(مرسال الغرام).

رغم سلاسة السرد الذي تتسم به رواياته، إلا أنه السهل الممتنع،  فخلف كل جملة يختبىء معنى ولغز، هذه شيفرة فواز حداد السحرية، وسره الجميل، يحفّز ويستفزّ، ويثير في القارئ أقنية التنبه، ليبقى  متيقظاً متوتراً، يلتقط اللمحة الذكية، والنقلات النوعية الملغومة، والتماهي بين الحقيقة والخيال، وتفهم كل أنواع الشكوك إزاء كل المسلمات المعتادة. وينسحب فجأة، تاركاً له عبء البحث والتقصي، وغواية التوغل في متتاليات عالمه السردي الشيق.

مرسال الغرام

 في رواية (مرسال الغرام) 2004، مزيج غني من التضادات والتناقضات، الواقع والفانتازيا، الألم والسخرية من الألم، العشق والانتقام، عالم البسطاء والمسحوقين، وعالم المال والفساد والوصولية.
يتمظهر البناء الروائي لهذه الرواية، في أحداثها المتشابكة، واستحضار زمنين متباعدين، وقصة داخل قصة، ضمن خطين دراميين، يسيران بشكل متوازٍ، كل خط له عناصره وأدواته، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ويمس وحدة وروح الرواية. 

القاهرة في الأربعينات، العائلة المالكة وفضائحها، أم كلثوم الفنانة العظيمة، سيدة الصالونات، إشعال نار الحب والغيرة والذل، بين أحمد رامي والقصبجي، ليقدما لها أجمل القصائد، وأحلى الألحان، لتتربع ملكة وحيدة متوجة على عرش الفن، ثم علاقتها مع عبد الناصر الابن البار والقوي لمصر، هزيمة حزيران، وما تلاها من أحداث.

الأحداث مشبعة بالدلالات والرموز والجرأة، في وضع النقاط على  الحروف، وإظهار أن هذين الزمنين المتباعدين، زمن أم كلثوم، وأحمد رامي، والقصبجي، والزمن الحاضر، ليس بغريب أحدهما عن الآخر، تربطهما المصائر الإنسانية ذاتها، ونوازع الكيد والحب والانتقام، وكأنما أراد أن يقول، قد يتغير الزمن، لكن الإنسان، وطبائعه، ومخاتالاته، ودخائله لا تتغير.

الأهم هو المسار الذي جارى خط الرواية منذ البداية، وكان موجوداً دائماً كخلفية لا تغيب، الزمن السوري تحديداً، حيث كل شيء يُباع ويُشرى، بدءاً من الإنسان والضمير والحب والأحلام والعلم والفن والمبادئ، وليس انتهاء بالأرض والوطن والمصير. يبدأ الإنسان بريئاً، ثم يتلوث ويتخبط في مستنقع الأيديولوجيات المستعارة. مجتمع الرشاوي والمخبرين، مجتمع رجال المال والسلطة، والصفقات المشبوهة، والمشاريع المموهة، السهرات والنساء والجنس، والدهاليز الخفية، والفخاخ المنصوبة في كل درب. متاهات ودهاليز وأقنية وأقبية، ودوائر ندور فيها، ثم العودة إلى لُبّ المشكلة: الفساد.

يغلق الكاتب الخطوط المتشابكة، خطاً وراء خط. من هو الخاسر، ومن هو الرابح، ومن هو المنكسر؟ ماتت أم كلثوم في الرواية، وبقي عشاقها مخلصين لفنها وصوتها الخالد. وحده الأعمى تلك الشخصية المحايدة المخيفة، التي بقيت  عصية على الفهم والتطويع بقي متفرجاً، مفتح  البصيرة، لا يخسر، ولا يربح، ولا ينكسر. هل كان هو القدر المتلاعب بالبشر؟

تفسير اللاشيء

بدءاً من العام ٢٠١٢، شكلت أحداث الثورة والحرب مشروعه الروائي الجديد، تحديداً من رواية (السوريون الأعداء 2014)، ثم تتالت كل من (الشاعر وجامع الهوامش)، و(تفسير اللاشيء)، و(يوم  الحساب)، وأخيراً (جمهورية الظلام). أخذت كل واحدة منها  جانباً من الحدث السوري، طرح  فيه رؤاه الواقعية، حول ثنائيات الحرية والثورة، والمنفى والوطن، والبقاء والرحيل، والانتصار والهزيمة.   

يشكل عنوان روايته  اللافت (تفسير اللاشيء 2020) مدخلاً لها، تدور حول عوالم المثقفين الهشة والثقافات الهشة، ترسم سورية في عهدة ثقافة ومثقفين، تتلاعب بهم تيارات الفكر المعاصر، ما يظهر عجزهم عن المشاركة في ثورة، كانوا يحلمون بها، وفرصة لأن يفعلوا لا أن يتواروا.

تضعنا أمام إشكالية نفسية معقدة، في استعمال فكرة التلاشي في عالم يصيغه الموت والخراب، باللجوء إلى تحويل الوجود إلى لا شيء، هرباً من المواجهة، ونشدان الأمان يتجلى بالتخلي عن كينونة الإنسان، والاختباء في لا شيء من هباء.

يختار فيها شخصيات مثيرة للجدل، للإشارة إلى الثقوب السوداء الناخرة في عالم يتهاوى. صاروف الأستاذ الجامعي، رجل الأفكار الإشكالية، المثقف الصدامي الحانق، يعيش خوفه الداخلي، يلوذ بأمان مصطنع، ليحمي نفسه من السقوط في مجريات ما يحدث من قتل وتعذيب. يبدو رغم ضجيج انتقاداته مقموعاً في داخله، انعكاساً لمناخ القمع الشامل الذي لم يستثنِ أحداً، وإذا كان قد تغلب عليه بالاعتصام بالصمت، ومخاتلة واقع رث، والاستعاضة عنه بفلسفة هانئة وغوص في مجاهيل الكون، إلى حد تصغيره إلى ثقب أسود، يخفي ويلات زمن لا يمضي بقدر ما يترسخ، يتذرع به مثقف، بات خاملاً وعاطلاً عن العمل، يسوّغ  فقط ترهات يومية.

لا يتوقف  حداد عند عالم المفكر المثقف فقط، بل يتجول في عوالم  متاهة وزواريب الفن، في رحلة لا تقل عن كوميديا سوداء، في مسارب الفن القادر على إرضاء كل الأطراف، وتسويغ ما لا يُسوّغ، والحديث عن كل شيء ولا شيء، من الكلاسيكية إلى مدارس الفن الحديث، فالحداثة تكمن في انقلاب مفاهيم الفن إلى ضدها. وإذا كان قد ارتد إلى التجريد؛ فلأنه يتسع لكل ما لا يتسع له الفن، ما يسمح  له بالانحياز إلى جميع الأطراف، النظام والثورة والمعارضة والميليشيات بأنواعها.

لا يتردد حداد أن يحيلنا إلى المُنظّر السياسي الأشد ذكاء من الأستاذ الجامعي، والأكثر وصولية وادعاء وإمعاناً في الزيف، للسياسة دورها، وللتاريخ دوره، تاريخ لا يأبه بالحقيقة والعدالة، يفسره المُنظّر كما يشاء، يصنعه في مكمنه بين الدخان -أقتبس من الرواية: “يشعل فيه حرائقه، بينما النيران مندلعة حولنا، وآخذة طريقها إلينا، لن تنطفئ، قبل أن تأتي علينا جميعا”، ينزع المُنظّر عن التاريخ، صفة العدالة والأخلاقية، يضعنا أمام تاريخ مجحف بالبشر، أمام تاريخ يكتب نفسه بمعزل عن هراء دموع الضحايا، ولو كانت حقائق”. أقتبس أيضاً: “لا مكان للشعب ولا للإنسانية، في دورة التاريخ، الحقيقة الوحيدة، القوة هي التي تتحكم بالعالم، ذلك هو التاريخ”.

يوم الحساب

 في رواية (يوم الحساب)، الصادرة عام 2021 بعنوانها الصادم ،وربما المرعب، يفتح فواز حداد الباب لتساؤلات حول ماهية الحقيقة والعدالة، الدين والسياسة. يوم الحساب بالمفهوم الديني، يشير إلى القيامة، ربما القيامة هنا تعني قيامة سورية من أحزانها، أو نهاية سورية وانزياحها إلى المجهول، وقد تكون تفكيك مفاهيم تجذَّرَت في العمق من المأساة السورية، آن لها أن تنجلي أو  أن ترحل.

ما حدث خلال العشرية الأخيرة، وصدى الصراع على الأرض بالنار والدمار، هو الفضاء العام للرواية، وهكذا وكما في كلّ رواياته، يفتح خطوطاً عدّة، ويطرح أسئلة وجودية وفلسفية ودينية عميقة، ويترك للحدث حرية الحركة، وللشخصيات حرية التعبير عن نفسها، وللقارئ غواية التوغُّل في متتاليات عالمه السردي، ثم يعود ليجمع الخطوط، في حبكة واحدة لرواية هي رواية سورية الوطن الممزَّق.

يتداخل جوّ السرد الحكائي، ما بين حسّان راوي الرواية المحبَط وشخوصها، بالاتكاء على واقع مأساوي بدأ يتجذَّر، مع التدرُّج في الحدث الدرامي، وما يضفيه حداد من طرافة سوداء على مواقف تتتالى، تُسهم بنقل هذه الأجواء المؤلمة إلى القارئ، بلغة متوتّرة وتفاصيل سخية.

يتوغَّل حداد في تلافيف أحد أبرز التابوهات المحرَّمة، التي تجذَّرَت في الواقع السوري، يلج منها إلى أحد أكثر المواضيع إشكالية، الأديان وصراع “الأقليات”، وما يتفرّع عنها من إشكالات، وما تشكّله من صراع لا يهدأ حتى يتفجّر، يلج منها ليضع العلوي، والسنّي والمسيحي في خندق واحد.

الأرضية التي تُبنى عليها الرواية، هي البحث عن مصير جورج أيقوني المسيحي، الذي ترك دراسته في باريس، وعاد لينخرط في الثورة، ثم اختفى. يحرك قضية اختفائه قدوم الأستاذة الجامعية رحاب الفرنسية من أصل سوري إلى دمشق، لتجديد البحث عنه، بعد أن فقدت الاتصال معه، وتطلب المساعدة من حسان المعارض من شباب التنسيقيات، الميت الحي، المتواري وراء بطاقة شهيد. المتهيّئ للرحيل والهجرة عن وطن فقد إيمانه به.

وبين هذا الحدث ونهاية الرواية مياه كثيرة تعبر تحت الجسر.

البحث عن مصير إنسان، في أتون المعمعة السورية، أشبه بالبحث عن قشّة في وادٍ ذي زرع، لكن حجّة رحاب قوية، فهي عاشقة أوّلاً، وتريد الحقيقة والعدالة ثانياً. لم يكن هناك من حلّ غير اللجوء إلى الأم المسيحية أم جورج التي تلجأ بدورها إلى الكنيسة، والأب جبرائيل باعتباره راعي المسيحية والمسيحيين، همُّه الأول حماية الكنيسة، وتجنيبها عاقبة أي هفوة قد تزجّ برعاياه في أتون معركة خاسرة، باعتبارهم أقلية دينية تحظى بحماية السلطة السياسية.

لم يكن سهلاً إقناع “أبونا” الراهب المتشدّد من طرف، والبراغماتي من طرف آخر، الحائر بين التزمّت الديني والانفتاح الإنساني، الذي يعتقد ويردد  أنّ ما يحدث ما هو إلّا “انتفاضة مسلمين”، الكنيسة لا شأن لها بها، لكنَّ الأم المكلومة التي لا تدري عن مصير ابنها سوى أنه “غاب في الظلام” لم تتراجع، استخدمت كلّ أساليب الأمّهات، أنذرت بغضب الرب، بل شبّهت نفسها بأم المسيح، تحمل صليبها وتتألّم، لم يستطع “أبونا” المهدّد بغضب الرب الصمود، ومواجهة عذابات أمّ مروَّعة بفقد ولدها، انصاع في النهاية لمشيئة أم جورج، وبدأ مهمته الصعبة.

رحلة صعبة في متاهة أمكنة محرَّمة، قصور وأقبية ودهاليز، خاض فيها “أبونا” داخل حقول ألغام خطرة، مضنية ومكلفة، تأرّجح فيها بين الشك والدهشة والفضول، وتفكيك أكاذيب، وفتح ملفّات، ومواجهة أسئلة شائكة لا جواب لها، رحلة استنزفت الكثير من الجهد والذل والوسطاء والمال والدموع، ليعود بخفّي حنين، خالي الوفاض.

المرأة موجودة بقوّة في رواية حداد، أم جورج، ريما، ورحاب، الأم والحبيبة والصديقة، وجودهن القوي يحرّك أحداث الرواية، فأم جورج: الشخصية المحورية والأم المفجوعة، من خلالها يطرح الروائي الكثير من الأسئلة الوجودية الشائكة، الشكّ والإيمان، الحساب على الأرض أم في السماء، الجنة والنار، الموت وما بعد الموت، الموت المسيحي والموت الإسلامي، كل تلك الأسئلة تتلاشى في لحظة أمام مشهد إنساني مؤثّر تنتصر فيه الأمومة بحسّها المرهف السليم على كل المنظومات الدينية والطائفية الأرضية، وعلى مشاعر الأثرة والأنانية، إذ تدرك الأمّ في لحظة الانصهار في الألم، أنّها لا يمكن أن تنعتق منه إلّا بالتضحية، وأن لا شيء، يساوي إقلاق راحة روح فلذة كبدها في رقادها الأخير، في لحظة امتزاج رفات الجسدَين الشهيدَين جورج المسيحي، وأحمد المسلم في تراب واحد، فمصيرهما واحد في النهاية، وحسابهما هناك في السماء.

ثم ريما الثائرة العقلانية التي تنحاز إلى مقولة الوطن أوّلاً والحب ثانياً، لا تتنازل عن أحدهما، وإن كانت تناور بينهما، فتُشهر العاشقة سلاحها الناعم ودهاءها الأنثوي لإقناع حبيبها حسان، المعذَّب بين شجاعة رحيل موجع بلا عودة عن وطن، فقد إيمانه به وخيار البقاء مطلوباً ومتخفّياً، ومواجهة ذلّ التخفّي والانكسار والشقاء اليومي، يعبّر عنه قائلاً: “أيها الوطن أنت لست أكثر من وهم شاق وعذب”. رحاب: المرأة التي تبحث عن الحقيقة وتعمل على توثيقها، غادرت سورية طفلة صغيرة، لا تذكر منها سوى الشوارع الرطبة الضيقة، والظلال الحالمة للمآذن، وأقارب كبار رحلوا عن الدنيا. يطرح الروائي من خلالها، الموضوع المؤرّق: ما الذي يعنيه الوطن؟ فهي تارةً تؤمن أنّ “الوطن ليس إلّا مصادفة، قد يكون هنا أو هناك، لا مبرّر لجعله قدراً، لئلا يصبح مثل الموت قدراً، لا يمكن تجنبه”، وتارة تعتقد أنّ “الحنين مرض السوريين”، لكن يبدو أنّ العدوى أصابتها عدوى حنين الأوطان. هي لن تغادر جاءت لتبقى، تقول: “هذه بلدي، لقد اكتشفت سوريتي، ولن أتخلّى عنها”.

رواية يتملّكها أملٌ جارف إلى وطن لجميع السوريّين، وشغف إلى مآل يحضن آلامهم، ويحصن آمالهم على حد سواء، ليس هناك أقلية ولا أكثرية، لا فرق بين سومر العلوي، وحسان السنّي، وجبرائيل المسيحي، هي صرخة تدعو السوريّين للنجاة بأنفسهم.

جمهورية الظلام

 “إذا كنت تعتقد أنك متوهم، فهل كل هذا الدمار والموت كان متخيلاً”، بهذه الجملة المحيرة يختم حداد روايته الأخيرة (جمهورية الظلام  2023)، وهي  استمرار لمشروعه الروائي الذي  بدأه في  رواية  (السوريون الأعداء). بالتأكيد أنها ليست الرواية التي يمكن أن تقرأها قبل أن تنام، فهي رواية متعبة، ويمكن القول: إنها قاسية، يناور ويدور بها وبنا، في دوامة التناقض المضني بين الواقع والخيال، يورطنا بالشك، ولا يريد أن يهبنا نعمة الراحة،  فهو يتناول هنا جانباً ونبضاً مختلفاً، يضعنا أمام إشكالية نفسية معقدة، أفرزتها بلا شك المحنة السورية.

الضمير المرن، وعلاقته بالمثقف، المثقف الانتهازي تحديداً!

لن ألخص الرواية، ولن أفكك تقنياتها، إن فعلت، فأنا أمتهن عذابات ورؤى وشجون وأحلام  ليالي الروائي الطويلة. هذا النوع من الروايات لا يُلخّص، وإنما يُقرأ، يُعاش،  يُشعر به، وإلا كيف لي أن ألخص كل هذا العري الإنساني الفاضح، إلى  مجرد مجتزأ يفتقد إلى حرارة السرد والتفاصيل والدهشة والدموع! كيف يمكنني أن أفعل ذلك، وأنا أجول في عالم مقروح، تُسحق  فيه إنسانية الإنسان في الأقبية المعتمة، وخلف صليل الأبواب الحديدية الموصدة، وحيث  تنظر العيون على اتساع حدقاتها، إلى خلاص الموت، على أنه الحلم المشتهى. أما كيف يصبح الموت هو الحلم المشتهى؟ عليك أن  تطرح  قبلاً السؤال المرعب: 

إلى أي حد، يمكن أن يكون الإنسان  وحشاً؟  

لا يطرح فواز حداد في روايته هذه  أسئلة مباشرة، إنما يستفز الأسئلة في داخلك، ويترك لك حرية الإجابة، ولا يدعوك لأن تتريث، لتتأكد إن كان ما يرويه حقيقياً أم  محض خيال. أنت حر، في مساحتك الحرة المطلقة كقارئ، لا شأن له، فيما إذا ارتفع مستوى الأدرينالين في دمك، أو تسارعت نبضات قلبك رعباً أو ألماً أو غضباً، فهو على يقين من أنك، وأنت تتوغل في هذا الإيقاع السردي الساخر، ستشعر  أنك جزء من الرواية، أو أن إيقاعها سيصبح جزءاً منك، فهذه الحكاية ربما  تكون  حكايتك، أو حكاية أي  شخص تعرفه أو سمعت به.

ماذا عن الضمير، ماذا  يعني، كيف يكون؟ تلك هي المسألة.

سؤال إشكالي يتطلب منك  قدراً من الشجاعة النفسية،  لتجرؤ على الإيغال  في هذا العالم المقروح، بأنات المحتضرين، وصراخ المركولين، وخراء المسهولين. 

الضمير هنا  ليس كما نعرفه، ليس كما أكده جيمس هنري في كتابه فجر الضمير “اللحظة التي  سمع بها الصياد أول مرة همساً داخله يؤنبه”.

أقتبس من الرواية: “إذا كان الضمير قد ورد في كتب الفلسفة والروايات، كأمر مفروغ منه، لكنه خطير في عالم ينبذه، وأقولها لك لم أكن معدوم الضمير، ولا ينقصني في عالم يخلو منه، لقد استعدته مما يشبه العدم، إنه بالتحديد ضمير مرن، يأخذ بالحسبان ظروف الزمان والمكان، إنه يريحني لكنه لا يطمئنني”،

إنه بالتحديد ضمير مرن!

هكذا يصف المحقق سامر /أقل المحققين بطشاً/ أو أقلهم  سوءاً، الضمير “الضمير المرن”. لقد وجد نفسه في مستنقع هذا العالم الغامض بالصدفة، أو نتيجة خيباته في الأيديولوجيات المثالية التي رافقت شبابه المبكر، أو بسبب ماضيه الفقير البائس. ليس مهماً،  المهم الآن أنه في هذا الأتون، ضابط تحقيق في فرع أمني كبير، يواجه  اختباراً خطيراً، يفاوض معتقلاً على حياته مقابل عمالته. قال له: “اقبل بما أعرضه عليك، واختم اعترافك بالندم”، ومع أن جواب المعتقل كان حاسماً  “لا تحاول معي”، أراد إنقاذه، فأرسله للقبو لاقتلاع أظافره، افترض ضميره المرن، أن يكون هذا  العقاب هو الأقل فظاعة، الذي قد يؤجل  مصيره المحتوم. لكن المعتقل المنهك من سادية التعذيب،  سخر من فرضيات المحقق، انتحر! “رآه في الزنزانة رقم ١٥ مكوّماً على الأرض، قميصه ممّزق، محطماً بلا أظفار، الدماء تخثرت على أصابعه، آثار الهراوات على جسده”.

لا جدوى لاجترار حياة انتهت، لا داعي لإطالتها.

إلى أي حد يمكنه المضي في هذا العالم، أو العكس النكوص عنه؟ بقي هذا السؤال يحاصره، يؤرق ضميره المرن، وما بين هذه المسافة الواسعة بين النأي والجذب، كثير من المياه تعبر تحت الجسر، تجري أحداث الرواية.

أعتقد أن التحدي الأصعب الذي واجه الروائي، هو التوغل في رسم البعد النفسي لشخصيات جمهوريته المظلمة، جمهورية تعني أن هناك  ناساً وبشراً، أن هناك حياة كاملة تُعاش، بكل ما فيها من خيبات، وأفراح وشهوات وحب وأحلام  وسلطة ومصائر.

إلى أي حد تمادى في الولوج إلى عمق هذه الشخصيات؟

إلى أي حد استطاع أن يقترب من التباساتها وتناقضاتها، أن يلمس  ألمها، ووحدتها، وحشيتها واستبدادها، حنانها ووداعتها، ضعفها وشهواتها؟ هل استطاع أن يمس ذاك  الخيط الرفيع الذي يفصل  بين الخير والشر؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال الوجودي المحير، لكن كاميرا فواز حداد المشاكسة، لا تنفك  تدور، تلتقط  مشاهد مرعبة،  ومسارات مؤلمة، ومصائر تنتهي بالجنون أو الموت. ربما تعطي أجوبة، أجوبة عرجاء، مثلها مثل الضمير المرن، فما بين مشاهد  الجوع والاحتضار والأنين، وحقن الموت في مشفى الظلام، والمعتقل  المسهول الذي تغوط  في ثيابه، فضُرب حتى الموت، هناك ثمة عشب، وهناك  ثمة غيم ونشيج مطر. فالمقدم الحزين القادم من بيئة السلطة ذاتها، المغرم بالعمليات الاستشهادية، الذي يحمل رؤى ساذجة لواقع شديد القسوة، والذي أصبح  فجأة رئيساً للفرع 650 الجديد، المختلف  في تخصصه، وفي طبيعة زواره  من الأدباء والمثقفين، هاله أن يرى معتقليه  يوشكون أن يموتوا جوعاً، فهو يملك ضميراً، ضميراً أعرجَ أو مرناً  لا فرق، ما كان منه إلا أن قام  بالسطو على  ما تبقى من بغال وكلاب وقطط  وحمير، تركها  أصحابها هرباً إلى أمكنة آمنة، وأقام لهم  حفلة شواء فاخرة، حيث استدعت رائحة الكباب المشوي والخبز المسقسق  بالدهن مع زبادي السلطة المتبلة بالرمان إلى ذاكرة المعتقلين المذهولين من هذا الرخاء المفاجىء الذي هبط عليهم، ذكريات (سيارين)  يوم الجمعة  في بساتين الغوطة وعلى  ضفة بردى، رائحة الأراكيل،  البطيخ  في النهر البارد، التراشق  بالماء على ضفة بردى، ذكّرتهم أنهم كانوا في يوم ما  بشراً.

واقع أم تخيل!

منذ البداية، وما بين المسافة من  تداخل الجو الغامض، الذي كانت تجري فيه أحداث الرواية، مع الكثير من الإشارات والإيماءات، كانت الشخصية الهامشية الغامضة التي اكتفى بحرفي ف. ح  اسماً لها، تسير في الظل، تظهر فجأة من حيث لا تدري، ثم تختفي من حيث لا تدري أيضاً، “لم تكن خيالاً شريراً، كان فاعل خير لا وجود له، وإن كان يظهر في الوقت المناسب، بموعد ودون موعد” عليمة وحكيمة، تحلل وتستنبط مصائر وتشير وتدل.

ولقد فعل فواز حداد، لعب لعبته الذكية، ورّطنا بين الواقع والمتخيل، حين فاجأنا بحضوره الواقعي في الرواية، فكان هو ف. ح ذاته.

لكن هل فاجأنا حقاً؟

يجيب بتساؤل مماثل:

“هل تظن أن  الرواية على تضاد مع الواقع، لو كانت كذلك، لما كانت الحياة”.

وإني أتساءل في النهاية: هل كان كل هذا الرعب والألم  متخيلاً؟

أعترف أنني أتمنى أن يكون كذلك، كي أتنفس الصعداء قليلاً.

_________________________________________

من مقالات العدد الخامس عشر من (العربي القديم) الخاص بالروائي فواز حداد   أيلول – سبتمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى