طرابلس المضطهدة بين زمنين بين مقال العطري وقراءة محيي الدين اللاذقاني
في تشرين الأول/ أكتوبر 1950 أضربت طرابلس لمدة ثلاثة أيام احتجاجاً على دعوات مقاطعة سورية التي انتشرت في لبنان، بسبب قيام رئيس الوزراء السوري خالد العظم بفصل إدارة الجمارك التي كانت مشتركة بين سورية ولبنان، بعد رفض الجانب اللبناني تداول رئاسة الجمارك المشتركة بين اللبنانيين والسوريين والإصرار على جعلها محصورة باللبنانيين فقط، والإصرار على تغليب مصالح التجار والمستوردين اللبنانيين على مصالح السوريين، وقد كتب رئيس تحرير مجلة (الدنيا) الدمشقية الأسبوعية الأستاذ عبد الغني العطري مقالاً حول إضراب طرابلس. نعيد نشره مع تعقيب الدكتور محيي الدين اللاذقاني حول الحدث والمقال والمدينة التي لازالت مضطهدة
المدينة المضطهدة
بقلم: عبد الغني العطري
أضربت بالأمس طرابلس ثلاثة أيام، بعد أن كبتت شعورها طويلاً، وانتظرت طويلاً “عطف” وشفقة الحاكمين عليها. وقد أعطت طرابلس في إضرابها درساً قاسياً لدعاة القطيعة مع سورية، وصفعتهم صفعة أفقدتهم فيها الصواب، وما ذلك إلا لأن طرابلس تشعر بشعور سورية، وتتألم لألمها. وقد أثبتت الظروف والمناسبات أن طرابلس هي المدينة المضطهدة في لبنان، التي ضمت إليه بالرغم منها ومن إرادة أبنائها وزعمائها.
إن شعور طرابلس كان ومازال مع سورية، وإن حب الطرابلسيين لسورية والسوريين حب جارف، لم يستطع المستعمر ولا الحكومات اللبنانية المتعاقبة أن يطفئوا جذوته. ومازال الطرابلسيون ينتظرون يوم الخلاص للالتحاق بسورية، والعودة إلى الأم التي حملت طرابلس اسمها، فسميت “طرابلس الشام” وجاء فريق من اللبنانيين “المستعمرين” فغيروا سنة الله وسموها “طرابلس لبنان”… “ولن تجدوا لسنة الله تبديلا”.
إن إضراب طرابلس ليس إلا مناسبة واحدة من المناسبات الكثيرة التي أبت فيها هذه المدينة المناضلة إلا أن تعرب عن تعلقها بالوحدة السورية، ولو رجعنا إلى السنوات الماضية واستعرضنا حوادثها وأحداثها، لرأينا طرابلس قد وقفت إلى جانب سورية عشرات المرات، وطالبت بالانضمام إلى سورية مئات المرات، فكان الحاكمون في لبنان يتجاهلون هذه الصيحات المتوالية، ويمعنون في اضطهاد طرابلس، وخنق حرية أبنائها الأحرار، وميولهم الصادقة إلى الوحدة.
إن سورية تلتفت اليوم إلى إخوانها في طرابلس وتنحنى أمامهم شاكرة هذه العاطفة الكريمة، وهذا الحب الذي لم تزعزعه صروف الزمن، وتضرع إلى الله أن يلهم الحاكمين تلبية رغبات شعوبهم في الاستقلال التام والوحدة الشاملة.
مجلة (الدنيا) الدمشقية العدد (179) 27/10/ 1950
طرابلس “المضطهدة” بين زمنين
بقلم: د. محيي الدين اللاذقاني
مع النزوح الأخير من الجنوب اللبناني، وتوزع طوابيره بين سوريا، والمدن اللبنانية، تميزت طرابلس الشام بمجموعة من اللافتات الترحيبية بنازحي الجنوب، ومعظمها يجري على هذا المنوال، مرحباً بكم في شارع عمر بن الخطاب، وأهلاً بكم في شارع عائشة أم المؤمنين، ونرحب بكم في شارع معاوية بن أبي سفيان، وأهلاً وسهلاً بكم في شارع يزيد بن معاوية.
طرابلس المضيافة لم تقل لضيوفها أنتم غير مرحب بكم، ولم تطردهم، كما فعلت مناطق لبنانية أخرى، لكنها قالت لهم بكل تهذيب: انظروا من يلم شتاتكم في هذه المحنة، غير المدينة التي تحترم كل الشخصيات الإسلامية التي كنتم تلعنونها، وتتقربون بشتمها إلى الملالي، والسلطات الإيرانية التي يجمعكم معها وحدة المذهب.
وفي هذه الأزمة وغيرها تكتشف كم كان الصحافي الدمشقي العتيق عبد الغني العطري محقاً، حين أطلق عليها صفة “المدينة المُضطهدة” فتركيبتها السكانية مع سوريا قلباً، وقالباً في كل العهود، بينما الأنظمة اللبنانية المتعاقبة، باستثناء سنوات الوصاية، كانت على عداء ضمني أحياناً، ومكشوف أحياناً أخرى مع سوريا، والسوريين، مهما كان النظام الذي يحكمهم.
لقد كتب العطري صاحب مجلة “الدنيا”، وأبرز صحافيي سوريا قبل مرحلة الانقلابات العسكرية مقاله عن المدينة المُضطهدة، مطلع خمسينيات القرن الماضي، حين أضربت المدينة ثلاثة أيام احتجاجاً على دعوات مقاطعة سوريا التي انتشرت بين اللبنانيين، حين قرر رئيس الوزراء السوري – آنذاك – خالد العظم أن يفصل الجمارك السورية عن الجمارك اللبنانية، بعد رفض اللبنانيين تداول رئاسة الجمارك بين الدولتين، وأصروا أن تكون الرئاسة دوماً للبنانيين.
ولم يُضرب وقتها من المدن اللبنانية غير طرابلس التي سبق، واحتجت على إلحاقها بلبنان، لشعورها أنها مدينة سورية، وهذا ما فعلته عشرات، بل مئات المرات – بحسب العطري – فطرابلس الشام، كما كان اسمها قبل أن يحولوه إلى طرابلس لبنان سورية الهوى والانتماء، وكانت كذلك عبر التاريخ، حتى حين حكمها بنو عمار، وهم أسرة شيعية تابعة للدولة الفاطمية بالقاهرة.
ولم تعمر دولة بني عمار في طرابلس طويلاً، فمن سوء حظها أنها ولدت بجوار الزنكيين في دمشق، حين كان يجري التحضير لحملات عسكرية، وخطط سياسية أخرى للإطاحة بدولة الفاطميين التي أصر صلاح الدين على القضاء عليها، قبل أن يتجه لمواجهة الصليبيين في بيت المقدس، كي لا تكون شوكة في خاصرته. وبحسب علماء الأنساب، فإن بني عمار الذين حكموا طرابلس في مرحلة أفول الدولة الفاطمية لم يكونوا من العرب، بل من الأمازيغ المنحدرين من قبيلة كتامة البربرية التي اعتمد عليها الفاطميون في الإطاحة بدولة الأغالبة في تونس، قبل وصول جوهر الصقلي إلى مصر.
ويستغرب الزائر لطرابلس هذه الأيام أن تبدو المدينة عامرة بالآثار المملوكية كالقاهرة، أو أقل قليلاً، وما ذاك إلا لمبالغة الذين حكموها بعد بني عمار في محو آثارهم، كما فعل المماليك بآثار الدولة الفاطمية في القاهرة، فقد اختفت آثار المذهب الشيعي من المدينتين، وتم نسيان الفاطميين، وكأنهم لم يكونوا.
وعن طرابلس بالذات، حول هذه المسألة يقول محسن الأمين في كتاب (أعيان الشّيعة): “طرابلس أو أطرابلس، بالهمزة، مدينة في ساحل بحر الشّام، كان أهلها شيعة في عصر الشّيخ الطّوسيّ في القرن الرّابع وما بعده، ثمّ انقرض منها التّشيّع بالعداوات والضّغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشّيعية”.
ونظراً لأن طرابلس تحتفي بتلك الحقب المملوكية التي ازدهرت المدينة خلالها، يقذفها الذين لا يحبونها بمختلف التهم التي تثبت مقولة العطري، بأنها مُضطهدة فعلاً حتى اليوم، فهي عندهم “تورا بورا”، أو “قندهار”، أو أي صفة أخرى تقترن بالإرهاب.
إن مشاكل لبنان كله، بما فيها طرابلس تعقدت أكثر من أي وقت مضى في زمن الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، فمنذ وصول الجنرال غورو إلى دمشق، مطلع عشرينات القرن الماضي، اقتطع من دمشق أربعة أقضية “البقاع، وبعلبك، وراشيا، وحاصبيا”، وألحقهم بما سماه لبنان الكبير، ولم يتم السماح باستقلال لبنان، إلا بعد الاتفاق على الصيغة التي بلورها بشارة الخوري مع رياض الصلح، وتقضي بألا يطلب المسيحيون حماية فرنسا، وأن يتخلى المسلمون عن طلب الالتحاق بسوريا، ومع الزمن تغيرت الأولويات الفرنسية، فلم يعد المسيحيون أصحاب الحظوة عند فرنسا، بل الشيعة في زمن ماكرون الذي يظهر في السياسة الدولية، وكأنه موظف عند ملالي طهران، يركض لأجلهم في كل الاتجاهات.
وليس غريباً في هذه الأيام، ونتيجة لذلك الإسفاف السياسي الفرنسي، أن يقال إن ماكرون أكثر حرصاً على حزب الله من إيران، فهو الذي حماه من كشف دوره في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وما زال حتى هذا التاريخ يدافع عن إرهابه، بعد أن صار العالم كله يعرف أن الإرهاب تربى، وترعرع برعاية إيرانية في الجنوب اللبناني، وليس في طرابلس المدينة المُضطهدة في كل العصور.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024