رواية (الصاعدون إلى النعيم) لموسى رحوم عباس: داعش تنظيم مصنوع وضحاياه أبرياء

ياسر الظاهر – العربي القديم
إن قراءة نص روائي غني بالرؤى السياسية والاجتماعية والتاريخية ليس بالأمر اليسير ولاسيما حين يكون كاتبه متمكنا من أدواته الثقافية والفنية وذو رؤية عميقة للواقع الذي نعيشه ….
رواية (الصاعدون إلى النعيم) للدكتور موسى رحوم عباس من الأعمال الروائية التي تحتاج إلى قارئ ملم بتاريخ المكان الذي تدور فيه أحداثها، وكذلك أن يكون مطّلعاً على الواقع الذي عاشته شخصياتها في ظل سيطرة ما سمي بتنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة في الشمال الشرقي من سورية والعراق سنة ٢٠١٣ ومتخذا من مدينة الرقة عاصمة له في محاولة لإعادة مجد الخلافة الإسلامية الزائل، وعلى دراية بالحراك السياسي والاجتماعي لحزب البعث والأحزاب اليسارية الموجودة على الساحة السورية آنذاك …
تسرد الرواية سيرة خمس شخصيات كانت من ضحايا تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة حيث قطع التنظيم رؤوس أربعة منهم دون ذنب يستدعي هذا القتل العنيف،
ويرتبط الراوي بثلاثة منها بعلاقة وهم طبيب النسائية إسماعيل العبد الله وممرضه حمو شيخ نبي وأبو المعتز سائق باص نقل داخلي ولاحقا سائق تكسي عمومي والرابعة بصلة قربى وهو ابن خالته سيفان الحاج أمين ابن الأرمني الناجي هو ووالدته من مذابح الأرمن في بدايات القرن العشرين، أما الخامسة
فهو ابن أستاذ الجامعة المتدين العقلاني السوي في تفكيره وسلوكه الهادي السعيدي تونسي الجنسية الحاصل على الإقامة في مرسيليا للدراسة في الجامعة
والذي يتعرف من خلال زملائه العرب على فتاة شيعية مرتبطة بالمخابرات الفرنسية تسلمه لهم بعد أن تعرف كل شيء عنه، فيتهمونه بالتخطيط للقيام بعمليات إرهابية في فرنسا ثم يحكمون عليه بالسجن خمس وعشرون سنة وبعد مدة فصيرة من سجنه يفاوضونه للتعامل معهم أمنيا فيرسلونه إلى الرقة بمهمة تصوير ما تقوم به داعش من أعمال وإرسالها لهم لنشرها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي…
يسرد لنا الكاتب سيرة كل شخصية منذ نشأتها وحتى لحظة ملاقاتها لحتفها، ولكن النصيب الأكبر من السرد يخصصه للحديث عن سيرة حياة سيفان وعائلته حيث تعدّ تلك السيرة محوراً لأحداث الرواية
تبدأ الرواية من حدث صادم ومؤلم للقارئ وللراوي بآن واحد وهو مشهد الرؤوس الجديدة المفصولة عن أجسادها المعلقة على أسوار دوار النعيم في مدينة الرقة، وبعد التمعن بوجوهها يكتشف إبراهيم علي الجارح أن ابن خالته وثلاثة من أصدقائه كانوا من بينها….
ومن هنا يبدأ الراوي إبراهيم باستذكار سيرة كل واحد منهم بمن فيهم الشاب التونسي الذي ذهب للدراسة بباريس ليعود من بعدها مصورا خاصا لتنظيم الدولة ولكن بتجنيد من المخابرات الفرنسية وبالقوة حيث ساومته على مدة سجنه خمس وعشرون سنة بتهمة ملفقة من قبلها أو الذهاب بمهمة إلى الرقة لصالحها، حيث تم ذلك بمساعدة العميلة الإيرانية للأمن الفرنسي فاطمة الزهراء التي تعرف عليها في مرسيليا .
يقبل الشاب التونسي بالمهمة مقابل إسقاط التهمة عنه ومنحه جواز سفر فرنسي، وبالفعل يعود إلى فرنسا بعد طرد قوات التحالف لداعش من سوريا سنة ٢٠١٧، إلا أن إحساسه بالظلم يدفعه لتأليف كتاب يفضح فيه الدور الفرنسي في دخول داعش إلى سورية واختراقها لهم وحقيقة داعش وأفعاله في سورية، فيغتاله الفرنسيون لأنه قال الحقيقة، كما اغتال المتطرفون أباه الأستاذ الجامعي في جامعة تونس بسبب اعتداله ورفضه لجميع أشكال التطرف،
أما سبب مقتل الطبيب إسماعيل العواد وممرضه حمو شيخ نبي فهو رفضهما لإجراء عملية إجهاض لإحدى زوجات أمير داعش في المنطقة، وأبو المعتز الذي كان سائقا لسيارة تكسي عمومي في الرقة الذي استخدمه بعض قادة داعش من ضباط النظام السوري وإيران وميليشياتها كسائق يقوم بإيصالهم إلى مدن سكنهم في سورية والموصل ولبنان مما جعلهم مكشوفين أمامه وخشية أن يكون شاهدا على اختراقهم لتنظيم الدولة في يوم ما.. قاموا بإعدامه ليموت سرهم بموته.
وأما لسيفان الشيوعي قصة مثيرة وغريبة الذي حصل على منحة للدراسة في الاتحاد السوفييتي في نهاية السبعينات من القرن الماضي فيذهب إلى موسكو و بسبب انتقاداته للحزب الشيوعي وما يقوم به من تجاوزات وتناقضات في روسيا و دمشق يتم طرده من البعثة الدراسية فيرجع إلى دمشق ليغير دينه من الإسلام إلى المسيحية الأرمنية عائدا إلى ديانة أبيه الأرمني ليستفيد من ميزات الدين والاسم الأرمنيين فقط ،وليس حبا بالدين وهو الماركسي العتيق وخاصة حين وجد انعكاسات ذلك على حياته حين أقام في لبنان كصحفي ومترجم في المجلات والصحف والفلسطينية…
وعندما يشتد المرض بوالده الراقد في فراشه بالرقة يطلبه ليراه، فتقوده منيته ليلقى سيف داعش بانتظاره ليفصل به رأسه عن جسده ويعلقه على أسوار دوار النعيم عقوبة له على ارتداده عن دينه .
وبعد موت أبا سيفان يهاجر إبراهيم وزوجته أنوشكا ابنة خالته وشقيقة سيفان وولدهما وعند عبورهما بالسفينة نحو الضفة الأخرى للفرات يتذكر قريته كسرة مريبط التي غمرتها مياه الفرات من أجل إنشاء بحيرة سد الفرات مكانها ، ورغم أن النظام قد ابتنى قرية أخرى وسماها بذات الاسم السابق للقرية الغارقة ،لكن الذكريات لا تغرق وتظل عالقة بأذهان من عاشوا أحداث ذلك المكان.
لقد اختار الروائي شخصياته من عدة شرائح اجتماعية وتركها تتحدث عن تجربتها الحياتية بحرية محاولا عدم إقحام الراوي في سياق سردها السيري، ولكنه أحيانا كان يستعين به لإضافة فكرة أو إضاءة حدث ما لم تتمكن الشخصية من عرضها للقارئ بشكل واضح…
لقد استطاع الكاتب في روايته من رسم شخصياته بطريقة تدل على حرفنة فنية دون مبالغة أو تهويل لتحمل كل منها رؤية ما للواقع الاجتماعي والسياسي السوري قبل الثورة ٢٠١١ وبعد قيامها مضيئا لنا انعكاساتها على جزء جغرافي واسع في شرق وشمال شرق سورية، متوقفا عند تنظيم الدولة الإسلامية المسيطر على هذا الجزء من البلاد الذي استمر منذ سنة ٢٠١٣ وحتى قيام التحالف الدولي بطرده من الرقة في نهاية صيف عام سنة٢٠١٧ورصده غير المباشر لعقيدته حاول أن يعيد من خلالها مجد الخلافة الإسلامية الزائل، كما بينت لنا السير الذاتية لأبطاله الخمسة وأهم الدول التي شغّلت التنظيم في المنطقة لنكتشف من خلال شخصية أبي المعتز سائق التكسي العمومي أن ضباطا من النظام السوري والإيراني وعبر مليشيا حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي، كانوا من ضمن قيادات داعش في سورية وكذلك كان لفرنسا دور كبير في استمرار داعش في المنطقة حفاظا على مكاسب ومصالح لها في سوريا، وهو ما تحقق إذا لاتزال متواجدة في شمال شرق سورية حتى هذا اليوم، وما شخصية الشاب التونسي الذي جندته للتصوير في الرقة إلا إشارة ذكية من الكاتب لتأكيد هذه الرؤية، وكذلك حاول الروائي أن يؤكد بل يقدم للقارئ دليلاً قوياً على أن التنظيم لا يمثل القيم الإسلاميّة الصحيحة والحقيقية فيما فعله من قتل عنيف بحق الشخصيات كإعدامه للطبيب وممرضه لأنهما كشفا زيف معتقداتهم من خلال طلبهم منهما إجهاض إمراه وهو أمر مخالف للدين والقانون، وكذلك انتقامهم من سيفان المعارض الحقيقي اليساري للنظام والمنتقد علنا لسياسته وسياسة الروس ومواقفهما الفارغة والشعاراتية تجاه شعبيهما وقضايا الشعوب الأخرى والمنتسب إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري المحظور حيث لم يستطع النظام القبض عليه سابقا واعتقاله فأمر أتباعه ممن مثلوا دور داعش لقتله بحجة الارتداد عن دينه….
لقد قدّم لنا الروائي الدكتور موسى رحوم عباس بهذا العمل وثيقة تاريخية للأحداث السياسية في مدينتي الرقة ودمشق وبعض بلدان العالم كروسيا وفرنسا ولبنان واستنبول وتونس من خلال تواجد بعض شخصياته في تلك الأماكن، وأن يفكك ماهية تنظيم الدولة والدول التي وقفت وراءه سواء إن كانت غايتها اختراقه لتحرفه عن غايته أو ليكون مطية لها في تبرير تدخلها في سورية ومحاولة إحباط همم الشعب السوري وتعطيل محركات ثورته العظيمة على النظام المجرم بعد أن تكون قد لوثته بجرثومة الإرهاب التي لاتزال معظم دول التحالف الدولي تستخدمها كرتاً أحمر في وجه كل من يريد طرق مرمى التحرير في سورية.
ورغم عدد صفحات الرواية القليل (١٤٠صفحة) فقد عبرت بلغة اقتصادية ومكثفة استخدمها الكاتب بحرفية عن أفكار الكاتب العديدة، والرؤى العميقة للواقع، كما أضفت الاقتباسات الشعرية والأمثال الشعبية جمالية على النص مما خفف على القارئ بعضاً من حزن وألمّ على مصير الشخصيات الخيالية والواقعية المغدورة.