يونيو 7, 2025
براء الجمعة – العربي القديم لم يكن الحج يومًا عبورًا في المناسك، بل عبورًا في النفس.لكن حجّ السوريين بعد التحرير، كان شيئًا آخر… ساروا بأقدام حرة إلى البيت الحرام، لا تعيقهم موافقة أمنية، ولا يُثقل ظهورهم جوازٌ محكوم بالاستبداد. خطواتهم على أرض الحرمين كانت أثقل من مجرد خطوات، كانت تحمل سنوات من الانتظار، وأرواحًا علقت على حــدود مغلقة، وأحلامًا تكسرت على صخرة “ممنوع من السفر”. كل خطوة كانت تمحو سنة من سنوات القهر، وكل نفس كان يستنشق عبق الحرية التي طال انتظارها. حين لامست أقدامهم أرض الحرم، ارتعشت أرواحهم كما يرتعش طائر حبيس عاد إلى فضائه بعد طول سجن، وســــــالت دموعهم كما يسيل نهر كُسرت سدوده.في طوافهم الأول بعد عمرٍ من القيد، لم يطوفوا بالكعبة وحدها، بل داروا حـــــول جراحهم، واستحضَروا من غاب، وبكَوا من بقي. كانت الكعبة في أعينهم وطنًا آخر يحتضن أوجاعهم دون تمييز، ويستمع لهمساتهم دون رقيب. في كل شوط، كانوا يدورون حول ذاكرة وطن، حول صور أحبة فقدوهم، حول أزقة مدنهم وأماكنهم التي تاهت منهم في زحمة المعاناة. لمست أيديهم الحجر الأسود فارتعشت، كأنها تلمس جزءًا من وطن مفقود، كأنها تستعيد لمسة أم أو أب أو طفل غيّبته سنوات العتمة. كان الطواف دورانًا في فلك الذكريات، وكانت الكعبة مركزًا لكون من الأوجاع والآمال، تجذب إليها كل ما في صدورهـــم من ثقل، وتمنحهم خفة الروح التي نسوها.سَعَوا بين الصفا والمروة، وبين المنفى والوطن، بين الدمع والأمل، بين ماضٍ خذلهم ومستقبل يتلمّس النور. كان السعي رحلة بين ضفتين، كما حياتهم المعلقة بين واقع مرير وحلم عنيد. هرولوا كما هرولت هاجر، لكنهم كانوا يبحثون عن ماء الحياة لوطن عطشان، عن بصيص أمل في صحراء اليأس. في كل شوط، كانوا يقطعون مسافة بين ذاكرتين: ذاكرة الألم التي أثقلتهم، وذاكرة الأمل التي تدفعهم للأمام. كانت أقدامهم تلامس الأرض، لكن أرواحهم كانت تعبر مسافات شاسعة، تقفز فوق حدود وسجون وحواجز، تســـعى بين جغرافيا الوجع وجغرافيا الحلم.وفي عرفات، وقفوا كما لم يقفوا من قبل، بقلوب مكشوفة للسماء، لا تخشى سوى خالقها. رفعوا أكفًا ثقيلة بالدعاء، لم تعد تخاف من عيون المخبرين، ولا من تقارير الواشين. دعوا لمن سبقهم إلى الله شهداء، ولمن ما زال في الخيام، ولمن تشرد في بقاع الأرض. كان الوقوف بعرفة وقوفًا بين يدي التاريخ، يسألون الله أن يكتب لهم صفحة جديدة، نقية كبياض ثيابهم.…