فنون وآداب

نصوص أدبية || عناقيد الغوطة تعتصر دماً

فؤاد عزام

“علوا الصوت علوا الصوت يا منعيش بكرامة يا أمَّا منموت”…

 خفت صوته وعلا صوت الرصاص، مترافقاً مع ارتطام دفتي الباب بالجدار الذي احتمى خلفه بعد هروبه، مثل باقي المتظاهرين ظهيرة أحد أيام شهر آب من عام 2012.

تلوَّن الجدار بالأحمر، سالت قطرات منه على ساق العريشة، وتكوم في حضنها وخبأته. نزف دمه في حوضها كنبيذ روته به يوماً حين كان يسقيها،  فتناثر حنينها بين أوراقها حلما وعناقيد.

حل المساء ثقيلا على علاء لكن أشياءه التي أخَته باتت على أكتاف واحد من شبيحيْن يعفّشان غرف الدار من محتوياتها بينما أحدهم رمى بكتب كانت في طنجرة نحاس.

صفعهُ الكتاب حين قذفه الشبيح نحو حوض العريشة، ولكن علاء تلقف صفحاته التي غطت وجهه وقرأ: “الرؤية العقلية النقدية في فلسفة ابن رشد”.  بينما ارتعشت شفتاه، وهما ترددان حرية حرية.

لَوّنَ نزفُ الحلق بالأحمر وجه المنصور الذي كان أحرق كتب الفيلسوف، فيما اتباعه ما زالوا يرددون نحنا جنودك يا منصور ويتقافزون على أثاث المنزل يتفاخرون.

رمى شبيح عقب سيكارته على كتب بجانب مسطوح قديد خير الغوطة الصيفي، وسرعان ما التهمت النار يباسه، ففتحت داخل علاء جروح تاريخ سار مع صمديات عتيقة بدت قامتها بالأفول إلى الباب الخارجي ليتناولها شبيح آخر.

اعتصرت شفتا علاء دماً حين حرك جسمه المصاب، كلاهث خلف عصور جديدة يريد أن ينتشل بعض الكتب من النار كما انتشل يوسف كتب ابن رشد حين أحرقها المنصور.

استعرت النار أكثر وكان لهيبها أقرب إلى الشبيح الذي اصطدم بعمود سقالة العريشة فانهارت عليه وعلق بين أخشابها وأسلاكها، حاول التخلص منها لكن النيران كانت أسرع إليه، حينها رأى علاء مختبئا في حوض العريشة، وهو مصاب، بينما صاحبه تركه وأقلع بسيارته مبتعدا. 

صرخ الشبيح مستنجدا: “مي مي…. عم اشعل”، حاول علاء الوقوف متجاوزا إصابته ومازالت الكتب تشتعل، و دمه يسقي العريشة والعناقيد يقطر منها دماً لوّن الكتب المتناثرة. ثمة حفل يمتزج فيه الماضي بحاضر يريد النزوح إلى الكرم والبيدر.

نجح علاء بتشغيل مضخة البئر التي بجانبه، فنفثت المياه غزيرا من خرطوم ضخم ووجهه على الشبيح، فأطفأت النار المشتعلة فيه، إلا أنه أشعلها بعلاء إذ وجّه مسدسه نحوه:

“مهما ساويت الأسد أو نحرق البلد”.

سقالة العريشة الكبيرة تغطي أرض الديار، وصوت الرصاص يعتصر عناقيدها دما وعلاء يتمتم: الكرم قريب من الدار، بساتين عروس الشام ما تزال بفستانها الأخضر الموشح بالمشمش والتفاح والرمان.

زر الذهاب إلى الأعلى