موعد غرامي وتجمع لرايات المقاومة
بقلم: د. علي حافظ
سافرتُ مرة، من حلب إلى دمشق، بمهمة عشقية، أيام حرب تموز بين إسرائيل، وحزب الله عام 2006، حيث وصلت مبكراً إلى هناك، وكان عليّ الانتظار، حتى يحين موعد المهمة المنتظرة…
ومن أجل أن يمر الوقت سريعاً ذهبت إلى أحد المطاعم الشعبية، لتناول الفطور، ومن ثم رحت أتسكع، هكذا لا على التعيين من شارع إلى شارع، ومن زقاق إلى زقاق وسط المدينة، ثم تابعت طريقي باتجاه “مقهى الروضة”، لكنني سرعان ما سمعت أصواتاً عالية تنبعث عبر الميكروفونات من مكان ليس بعيداً عن تواجدي.. توقفت مباشرة، لأصيخ السمع، وإذا بها مزيج من الأغاني الوطنية والقومية، والأناشيد الدينية الحماسية تأتي من جهة ما، ليجذبني مغناطيس سمعي الذي التقط نغمات نوطاتها مباشرة، ويحول بوصلتي نحوها.. مشيت، وأقدامي تقودني من تلقاء نفسها، حتى رأيت نفسي في “ساحة يوسف العظمة”.. هناك وقف التمثال البرونزي الشاحب، لأول وزير دفاع سوري، وقد أغمد سيفه مستسلماً أخيراً لمَن يحتل دمشق اليوم!
أخذ الناس يتجمعون هناك، حيث رفع بعضهم رايات مختلفة الألوان إضافة إلى أعلام فلسطين و”حزب البعث”، لترفرف في أجواء المكان: صفراء، خضراء، سوداء، حمراء، وسوداء داخلها دائرة بيضاء عليها زوبعة حمراء…
وقفت متأملاً المشهد السوريالي المتشكل أمامي، وأنا أحاول جاهداً معرفة أصحاب تلك الرايات التي لا نراها علناً في سورية إلا فيما ندر. رحت أفكّ رموزها وألغازها شيئاً فشيئاً: الصفراء لـ “حزب الله”، والخضراء لـ “حركة حماس”، والحمراء للحزبين الشيوعيين البكداشي (نسبة إلى أمينه العام الأبدي خالد بكداش)، والموحد الذي يضم كوكتيلاً غريباً عجيباً من شتى الألوان اليسارية، والسوداء ذات الزوبعة لـ “الحزب القومي السوري” الذي يمثله جناح عاصم قانصوه القريب من دمشق، والمنشق عن الحزب الأصلي، والسوداء لم أعرف في البداية لمن تتبع، أو تمثل، وبعدما اقتربت من حامليها أكثر عرفت أنها لـ “حركة الجهاد الإسلامي” الفلسطيني…
أخذ الحشد يكبر، ويكبر أمام ناظري، بينما رحت أنظر، بين الحين والحين، إلى عقارب الساعة بفارغ الصبر متمنياً أن تسرع قليلاً، حتى يحل موعد عشقي المؤجل…
تركت الحشد، في النهاية، وتوجهت نحو “ساحة الميسات”، وفي ذهني تدور الكثير من الأفكار والأسئلة، التي ما لبث أن قطعها صوت مألوف:
– مرحباً رفيق!
توقفت، ونظرت نحو صاحب الصوت مذهولاً، سرعان ما عرفت أنه صديقي آزاد الكردي الشيوعي العتيد، ومعه مجموعة من الشباب لم أعرف أحداً منهم، ثم أجبت:
– أهلاً وسهلاً آزادي!
– هل تعرف أين يتجمع رفاقنا من أجل الاعتصام؟
أي رفاق؟ أي تجمع؟ أي اعتصام؟ – أجبت، وعلامات الدهشة بادية على وجهي.
ابتسم غير مصدق أنني لا أعرف، ثم أردف متفاجئاً:
– آسف، نسيت أنك لم تعد من الشيوعيين منذ فترة طويلة… اليوم عندنا اعتصام تضامناً مع الجنوب اللبناني، ويجب أن يشارك به رفاقنا المقدامين!
قاطعته هنا متسائلاً:
– المقدامين؟
– عفواً القادمين من كل المحافظات السورية… أنت تعرف أنني كردي وأحياناً (بخربط) بالعربي… حسناً، ألم ترَ أحداً منهم في طريقك؟
لا… لم أرَ!
صمتُ برهة، ثم سألته مبتسماً بعد ذلك:
– من كل سورية؟
– تقريباً!
– عظيم، في الحقيقة، وأنا أتمشى رأيت أعلاماً سوداء، ربما كانوا رفاقاً من الحزب الشيوعي السوداني، أو الصومالي، أو الإريتري؟
صمت قليلاً، ثم سأل مندهشاً:
– أي حزب شيوعي سوداني صومالي (ما بعرف شو)؟
أجبته:
– شاهدت أعلاماً سوداء بجانب الأعلام الحمراء فقلت في نفسي لابد أنهم رفاق من السودان، أو الصومال، أو إريتريا!!
نظر إليّ مستغرباً، ولم يبتسم رغم معرفتي بحسه الفكاهي… ما لبث أن تركني، وتابع سيره مستعجلاً نحو الحدث الجلل، كي يلحق بالركب، ولا يتأخر عن المشاركة في التجمع الأسطوري، فقد شغل حينها منصباً في “اللجنة الفرعية للحزب الشيوعي الموحد” على ما أعتقد!
سرت في طريقي، وأنا أضحك من كل قلبي، لأنني لم أقل له إن أصحاب الأعلام السوداء كانوا من حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي شاهدت فيها أعلاماً سوداء خالصة، قبل أن أراها ثانية مع قدوم “أخوة المنهج”، ولاسيما الدواعش!
نظرت إلى الساعة، لأعرف أن وقت موعدي المنتظر قد حان.. أسرعت خطاي نحو مكان الموعد في منطقة “ركن الدين”، لأن حركة المرور توقفت، ولم تعد سيارات السرفيس تذهب إلى هناك، بسبب إغلاق المكان خصيصاً وتكريماً للاعتصام الممانع، وإذ بي أرى مجموعة من الشباب الملتحين الذين يرتدون القفطانات الغامقة، والمعتمرين عمامات بيضاء، تخرج من “جامع أبي النور” التابع لـ “مجمع كفتارو”، وتسرع الخطى، نحو مكان التجمع.. ابتسمت، وأنا أفكر كيف يمكن للنظام الأسدي أن يجمع كل هذه المتناقضات السياسية، والحزبية والفكرية والدينية في بوتقة واحدة، ومن ثم يقدمها من باب المقاومة والممانعة؟!