حيان محمود: الطبيب الذي ضمد الجراح وبقي جرحا مفتوحا في ذاكرة سلمية
اختار أن يكون صوتاً للمظلومين وعوناً للمحتاجين، ولهذا السبب استهدفه النظام
نوار الماغوط – العربي القديم
مدينة سلمية، المعروفة بتنوعها الثقافي والفكري، لم تكن فقط شاهدة على التضحيات الجسيمة، خلال الثورة السورية، بل مثلت نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه سوريا المستقبل من تعايش مجتمعي وتسامح. رغم محاولات النظام السوري المستمرة تمزيق النسيج المجتمعي، عبر إذكاء الفتن الطائفية، بقيت سلمية، بأطيافها المختلفة، رمزًا للوحدة بين أبنائها.
عائلة الشهيد حيان محمود مثال حي على هذا التداخل المجتمعي، إذ تجمع أفرادها بين انتماءات طائفية ودينية متنوعة، من السُنة، العلويين، الإسماعيليين، مما يعكس صورة حقيقية لسوريا الموحدة التي يتطلع إليها الجميع.
حيان محمد محمود، المولود عام 1986 في سلمية، كان شاباً طموحاً نشأ في كنف عائلة متعلمة ومحبة للعلم. درس الطب وتخصص في جراحة القلب، وأثبت جدارته في مجاله، على الرغم من إمكانياته المهنية، اختار حيان البقاء في سوريا والعمل لخدمة أبناء وطنه في ظل الظروف الصعبة.
اعتقال حيان من مشفى المجتهد بدمشق
في 16 يوليو/تموز 2012، وبينما كان حيان يعمل في مشفى المجتهد بدمشق، اقتحمت قوة أمنية تابعة للنظام السوري المشفى واعتقلته، دون مبرر أو تهمة واضحة، فقط مجرد تقرير من زميل ينتمي للطائفة العلوية الحاكمة، كان يسكن معه في المستشفى من جبلة، هذا الاعتقال كان بداية لرحلة من الألم والغموض، ومنذ ذلك الحين، انقطعت أخباره عن عائلته، ورفض النظام الإفصاح عن مصيره، تشير شهادات بعض الناجين من السجون السورية إلى تعرض حيان، كغيره من المعتقلين لتعذيب وحشي.
يقول حسان محمود شقيق حيان، عندما سألته هل مازال مصيرأخيه مجهولاً؟
“بالنسبة لحيان حسم مصيره، من سنتين طالعنا بيان من النفوس، وفي البيان متوفى، وهناك شهادة لشخص كان مسجوناً معه، وأكد خبر الوفاة …هلق نحنا صرنا بفلك آخر ..هو الحصول على رفاته، ومعرفة المقبرة الجماعية التي دفن فيها”.
ومن الجدير ذكره أن الأستاذ حسان محمود، وهو خريج جامعة حلب كلية الاقتصاد، وحاصل على شهادة الماجستير في الإدارة، وكان يعمل في دار الأوبرا بدمشق مدير الشؤون الإدارية والقانونية، واستقال منها سنة 2007 احتجاجاً على ممارسات الفساد، وحسان هو أحد مؤسسي تنسيقية مدينة سلمية، لعب دوراً بارزاً في النشاط الإعلامي والسياسي للثورة السورية. وكما هو معروف، كانت التنسيقيات في بداية الثورة، تمثل العصب الأساسي للحراك الشعبي، حيث قادت المظاهرات، ونظمت العمل الميداني والإعلامي، مما جعل أعضاءها في مرمى الاستهداف المباشر من قبل النظام السوري.
في الوقت الذي كان النظام يلاحق ناشطي التنسيقيات، ويضعهم على قوائم المطلوبين، كان يقوم بإطلاق سراح بعض المعتقلين من الإسلاميين المتشددين، وبدت هذه الخطوة، وكأنها جزء من استراتيجية متعمدة، للتعاون بين النظام والإسلام السياسي، بهدف تحويل مسار الثورة السلمية إلى صراع دموي يعزز رواية النظام، بأنه يواجه “إرهاباً”، وليس حراكًا شعبيًا مشروعًا.
تحدث حسان محمود، شقيق حيان، في مناسبات عدة عن شقيقه بفخر وحزن، واصفاً إياه بأنه كان إنساناً ملتزماً بقيم الإنسانية، شجاعًا في مواقفه، ومتفانيًا في عمله كطبيب. قال حسان في أحد تصريحاته:
“حيان لم يكن مجرد أخ أو طبيب، بل كان مثالاً للإنسان النبيل الذي يحمل هموم الآخرين قبل همومه، اختار أن يكون صوتاً للمظلومين وعوناً للمحتاجين، ولهذا السبب استهدفه النظام”.
رحلة حسان محمود في ألمانيا لتحقيق العدالة
بعد مغادرة سوريا بسبب التهديدات الأمنية، استقر حسان في ألمانيا، حيث بدأ العمل على توثيق قضية شقيقه حيان، والسعي لتحقيق العدالة. من خلال منظمات حقوق الإنسان والمحاكم الأوروبية المختصة بجرائم الحرب، حيث لعب دورًا في تقديم الأدلة والشهادات في محكمة كوبلنز الألمانية التي حاكمت بعض مسؤولي النظام السوري. ركز حسان جهوده على محاسبة المسؤولين عن اعتقال وتعذيب شقيقه.
في هذا السياق، كشف حسان عن اسم الضابط المسؤول عن اعتقال حيان، وعن تفاصيل عملية الاعتقال، ومن خلال منظمات معنية بملاحقة مجرمي الحرب السوريين، قُدمت أدلة وشهادات بشأن الانتهاكات التي ارتكبها الضابط، هدف حسان من هذا المسعى، ليس فقط محاسبة المسؤولين، بل تسليط الضوء على الجرائم التي تعرض لها آلاف السوريين.
محكمة كوبلنز: بداية العدالة للسوريين
محكمة كوبلنز، مثلت بارقة أمل للسوريين في تحقيق العدالة، فهي أول محكمة دولية حاكمت مسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، استهدفت المحكمة مسؤولين رفيعي المستوى، مثل أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب، الذي ارتكب انتهاكات واسعة النطاق. هذا النجاح شجع منظمات حقوقية على مواصلة جهودها لملاحقة الجناة، مما أسس لثقافة جديدة من المحاسبة، كما لعب الشهود السوريون، ومن بينهم شقيق حيان، دورًا محوريًا في تقديم الأدلة، وتثبيت التهم متحدين الخوف من الانتقام.
قضية الشهيد حيان محمود، ليست مجرد قصة شخصية، بل تمثل نداءً للسوريين جميعًا للعمل معًا من أجل بناء سوريا ديمقراطية تعددية.
على السوريين التكاتف، لمواجهة خطاب الطائفية، وتعزيز قيم العيش المشترك.
للمجتمع الدولي: دعم المبادرات القضائية الدولية لتعزيز المحاسبة والعدالة.
للقوى الوطنية: التعاون من أجل إعادة بناء الهوية السورية على أسس العدالة والمساواة.
إن ذكريات الشهداء، مثل حيان محمود، وجميع أبناء سلمية الذين قدموا أرواحهم، من أجل الحرية والكرامة، ستظل منارةً تهدي الأجيال المقبلة إلى طريق سوريا التي نحلم بها: سوريا العدالة، والتعددية، والسلام.
_________________________________________
من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024