أرشيف المجلة الشهرية

نعمان عبد العال: الطبيب الثائر الذي غرد للحرية في مدينة جبلة

خاطر بحياته لعلاج المتظاهرين المصابين والجرحى وقام بتحويل عدة مساجد إلى مستشفيات ميدانية، لإسعاف الجرحى من أهالي المدينة

 ناصر الحموي – العربي القديم

وأخيراً تحررت مدينة جبلة، وفتحت أبواب النصر، انتصرت إرادة الشعب الحر، وتعالت هتافات الفرح والبهجة، ففي ساعات الصباح الأولى من اليوم التاريخي الذي زف إلى العالم خبر سقوط النظام، وفرار بشار الأسد، هب شباب المدينة للتعبير عن فرحتهم، وتمزيق صور الحاكم المستبد، وهم يستنشقون لأول مرة نسائم الحرية التي طالما حلموا بها، منذ اندلاع الثورة السورية. لم ينسِهم الفرح العارم بالانتصار بزوال الطغيان، الشهداء الذي بذلوا حياتهم في سبيل هذه اللحظة الفارقة التي طال انتظارها، وفي مقدمة هؤلاء الشهيد الدكتور نعمان عبد العال الطبيب الفارس، والطائر الغريد الذي قاد الحراك الثوري السلمي في جبلة.

كان من أوائل الناشطين الذين خرجوا ينادون بالحرية، حيث شكل انخراط المدينة الباكر في الحراك، صدمة قوية للنظام، لاعتبارها تقع تحت السيطرة القوية  لحاضنته الرئيسية في الساحل، بالإضافة إلى أنها المعقل الرئيسي لكبار القادة العسكريين والأمنيين، الذين شكلوا الدائرة الضيقة المحيطة المقربة المحيطة ببشار الأسد، بينهم ابن خالته عاطف نجيب المجرم المتمرس، الذي اعتقل أطفال درعا، وتسبب بإشعال الثورة السورية، لكن رغم ذلك، كانت جبلة من أوائل المدن الثائرة التي لبت نداء حوران، كما كانت مظاهراتها هي الأولى التي رفعت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وفي طليعة المظاهرات التي أدانت التدخل الإيراني وميليشيات حزب الله، مستندة إلى يقظة أهلها المبكرة في مكافحة حركة التشيع، التي مارستها إيران في المدينة منذ العام 2008، وذلك من خلال الهتاف “لا إيران ولا حزب الله بدنا ناس تخاف الله”.

عندما تعرضت بانياس المدينة المجاورة، كان شباب جبلة قد خاضوا أول محاولة لكسر الحصار عنها، حيث برز الناشط ملهم طريفي ورفاقه في إيصال المساعدات للمناطق والقرى المحاصرة، وقاد سيارة محملة بالمؤن الغذائية، رغم كل المخاطر المحدقة به، أما الدكتور نعمان عبد العال، فقد خاطر بحياته لعلاج المتظاهرين المصابين والجرحى، فخلال اقتحام قوات الأمن وشبيحة النظام السوري لمدينة جبلة في الرابع والعشرين من إبريل 2011، وقيامهم بإطلاق النار على الأهالي والسكان العزل، قام الدكتور نعمان بمساعدة ومؤازرة من صديقه الاختصاصي الفيزيائي زكريا العقاد، بتحويل عدة مساجد إلى مستشفيات ميدانية، لإسعاف الجرحى من أهالي المدينة الذين تعرضوا لنيران الشبيحة، عند خروجهم من المساجد، وتمكن من إنقاذ أرواح العديد من المصابين بإصابات خطيرة، بل قام هو وصديقه بالاتصال بالقنوات الفضائية، مثل قناة الجزيرة، وبي بي سي بأسماء مستعارة، لنقل الصورة الواقعية لما تتعرض له المدينة من بطش وقمع، وأساليب وحشية، اتبعتها السلطات الأمنية خلال عملية الاقتحام، بهدف القضاء على الثورة الشعبية التي تطالب بإسقاط بشار الأسد، وهو الأمر الذي جعله على رأس المطلوبين.

  اضطر د. نعمان عبد العال للتخفي بعيداً عن أعين أجهزة الأمن ومخبريهم، متجاهلاً في البداية دعوتهم للمثول أمامهم للتحقيق معه، ثم ليسلم نفسه بعد إقناع أحد الوسطاء له بالاستجابة لتعهدات الرائد سامر سويدان، رئيس فرع الأمن السياسي باللاذقية الذي نكث بوعده وغدر به، حيث حوله إلى سجن اللاذقية بعد عملية إذلال مشينة، مارسها عناصر الأمن بالتعاون مع أهالي بعض القرى، الذين قاموا بالاعتداء عليه وضربه وهو مقيد اليدين، وذلك قبل أن يخضع للتحقيق، وتُلصق به تهم جنائية ملفقة، مثل “النيل من هيبة الدولة، ونقل أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، وتضعف الشعور القومي وإثارة الشغب”.

في زنازين سجن اللاذقية، تعرض الدكتور نعمان لأقسى وأشد أنواع التعذيب وحرم من تناول الأدوية التي كان يحتاجها، إثر مرضه بالقلب الذي تملؤه الدعامات المستخدمة لفتح الشرايين، وعندما ساءت حالته الصحية، اضطرت السلطات الأمنية للإفراج عنه، وبدل أن يخرج من السجن، وهو بحالة نفسية سيئة، كان الدكتور نعمان يتمتع بحالة معنوية قوية، وثقة بالنصر القريب، يبشر رفاقه الذين احتفلوا بعودته، بأن حرية الوطن قادمة وقريبة المنال، مهما استمر النظام بمواصلة أعمال القتل والتعذيب والاعتقالات، لكن ما هي إلا أيام قليلة، حتى تعرض الدكتور نعمان إلى نوبة قلبية حادة، أدت الى وفاته، حيث يروي رفاقه في السجن الذين أُفرج عنهم في مرحلة لاحقة، أن عناصر الأمن في السجن مارسوا عليه أشد أساليب التعذيب قسوة ووحشية، ولاسيما النفسية التي تعد الأكثر إيلاماً من تعذيب الأجساد، لقهره وكسر قلبه وتدمير معنوياته، وهو المعروف برهافة إحساسه، ورقة مشاعره، حيث توضح تلك الأساليب مدى حقد النظام، ووحشية عناصره الأمنية وساديتهم.

وفي 3   من فبراير 2012، شيعت جبلة الشهيد الدكتور نعمان عبد العال طبيب الأحرار، وخرج الآلاف من أهالي المدينة حاملين جثمانه الطاهر إلى جامع أبي بكر الصديق، الذي خرجت منه أول صرخة تطالب بإسقاط النظام، ثم حملت نعشه إلى مثواه الأخير ليُوارى الثرى في مقبرة حي العزة، وسط صرخات الغضب، والهتافات التي تخلد عطاء الشهيد، وتمجد مآثره، ودوره الريادي في الحراك الثوري.

وكان الشهيد الدكتور نعمان عبد العال الذي حصل على شهادة الماجستير في طب الأطفال بجامعة دمشق، ونال شهادة البورد العربي في طب الأطفال ، قد اكتسب شعبية واسعة في أوساط الأهالي في مدينة جبلة وريفها، لبراعته في علاج الأطفال المرضى، حيث تميز بأسلوبه الإنساني الآسر في تعامله مع ذوي الأطفال المرضى، إذ كان يقدم خدماته العلاجية مجاناً ودون تمييز لأهالي المرضى الفقراء، وغير القادرين على تحمل نفقات العلاج، كما امتلك شخصية كارزمية محببة، جلبت شهرة واسعة لعيادته العصرية المجهزة بالمعدات الحديثة، والمصممة بشكل أنيق وجذاب، تعكس أناقة فكره ورقي أخلاقه، وثراء ثقافته وتعدد هواياته، وتميزه بروح مرحة وصوت عذب، انتقل به من حسن الأداء والغناء، إلى جمال التلاوة والتجويد، واستطاع أن ينال إعجاب ومحبة وتقدير واحترام أبناء مدينته، الذين توجوه أميراً لقلوبهم، لتصبح ذكراه خالدة فيها.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى