حول المديني والريفي: اختلاف الذهنية بين ابن القرية وابن المدينة
الاختلاف بين المثقف المديني والمثقف القروي واقعة موضوعية، كما هو الاختلاف بين العسكري المديني والعسكري القروي

أحمد برقاوي – العربي القديم
جرى على وسائل التواصل الاجتماعي حجاج عنيف بين أصحاب وجهتي نظر متناقضتين حول المدينة والريف.
بداية كل مدخل لدراسة الاختلاف بين الريف والمدينة ينطلق من الأحسن والأسوأ مدخل لا قيمة علمية له، ولا ينتج عنه إلا سوء فهم كل طرف بالآخر. ويجب أن لا يتكدر خاطر أحد من تناول هذه الظاهرة.
عشت في القرية وعشت في المدينة، ولي أصدقاء ريفيون وأصدقاء مدنيون. ونشأت في أسرة فيها الأم مدنية يافاوية معتدة بمدينتها، وأب من أسرة اقطاعية، الأب من قلعة البرقاوي في ذنابة والأم من قلعة البرقاوي في شوفة قضاء طولكرم. وكلما غضبت أمي المدنية المتخرجة من دار معلمات القدس، من أبي الأستاذ والأنيق خريج المدرسة الشرعية في عكا، وصفته بالفلاح.
وتعمقت أكثر في فهم السلوك الأيديولوجي للمدينة والريفي في كتابي: العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ، الصادر عن دار الأهالي في دمشق عام 1995.
وكتبت عن الفرق بين العسكر الريفي والعسكر المديني الذي حكم سوريا. فانهالت عليّ الشتائم كالعادة عندما تعوز المختلف الحجة. ولهذا فأنا على دراية شبه كافية بالفرق بين عالمي المدينة والقرية تجربة وعلماً. تسمح لي بالقبض على ماهية الأمر.
هناك فرق كبير بين أن تكتب عن الاختلاف بين القرية والمدينة من زاوية علم الاجتماع والثقافة الموضوعية ونمط العيش من جهة، والكتابة من منطلق التقويم وأحكام الأحسن والأسوأ.
في الحالة الأولى أنت أمام أحكام موضوعية حول الفرق بين المجتمع الزراعي والعائلة العضوية وعادات الأفراح والأتراح والمعتقدات من جهة، والمجتمع الحرفي والسوق والتفاوت الطبقي والانفتاح وعادات العيش، من جهة ثانية، وأثر كل من المجتمعين على تكوين البنية النفسية للأفراد وردود الأفعال التي هي موضوع علم النفس الاجتماعي.
أما إذا تركنا الأمر إلى الأفكار المسبقة لدى سكان المدينة وسكان القرية حول بعضهم البعض، فإننا قد نجد أحكاماً سلبية لدى كل طرف بالآخر، كثمرة شروط اختلاف في الوعي الذاتي الذي ينعكس في الوعي بالآخر. وهذه ظاهرة عالمية.
لكن يجب أن نعترف بأن هناك اختلافاً ثقافياً واختلافاً في النظرة إلى العالم، واختلافاً في العلاقات الاجتماعية. وهذا كما قلت، اختلاف موضوعي قابل للزوال مع اكتساب القرية المعاصرة لكل منجزات المدينة لكنه يحتاج إلى زمن طويل.
غير إن التغير المادي للقرية أسرع بكثير، كما هي العادة، من التغير النفسي الاجتماعي والقيمي والثقافي عموماً، والمدينة من زاوية التطور التاريخي، متقدمة على القرية ولا شك.
ويجب أن نعترف تاريخياً بأن وعي ابن المدينة بذاته يحمله على الاعتقاد بأن خير من ابن الريف. إن ابن سان بطرس بورغ يشتم مواطنه الروسي، زمن الشيوعية، القادم من الريف يقول: “يا قروي”. فالنظرة المتعالية لابن المدينة على الريفي ظاهرة عامة. بالمقابل هناك موقف ريفي من المديني بأنه أقل التزاماً بالقيم، وإن همه الأول هو المال وهكذا.
هل هناك اختلاف في الذهنية بين ابن القرية وابن المدينة؟ نعم واختلاف كبير. وآية ذلك أن الذهنية تتكون عبر زمن طويل. وبالتالي: إن الاختلاف بين المثقف المديني والمثقف القروي واقعة موضوعية، كما هو الاختلاف بين العسكري المديني والعسكري القروي. والسبب قائم في أن هناك بنيات تنتج الأفراد، بمعزل عن قدرة هذا الفرد أو ذاك على التجاوز.
لقد كتبت مرة أقول:
توالى على رئاسة سوريا كثيرون. من العابد والأتاسي والقوتلي والقدسي الليبراليين، إلى أمين الحافظ ونور الدين الأتاسي البعثيين، لكن احدا من آل هؤلاء الرؤساء لم يحصل على أي امتياز جراء ذلك.
حكم العسكر المدينيون الشيشكلي الزعيم والحناوي وسلو ولم نسمع عن اسرهم أن استغلوا ذلك لأغراضهم.
حكم الجنرال البعثي الحلبي أمين الحافظ ولم نسمع عن أحد من آل الحافظ له حظوة. أهي المصادفة؟ أم أن العقل المديني هو الذي يفسر ذلك.
ولكم أن تقارنوا مع الذهنية الفلاحية الريفية التي حكمت بغداد ودمشق وطرابلس وصنعاء.
ومن الطبيعي. أن يستنتج المرء بأنه إذا لم تنتصر الذهنية المدينية وتأتي على ثقافة السلطة بالمعنى الريفي القائمة على عصبية العائلة والمنطقة والطائفة، إذا لم تنتصر المدينة وتعمم ثقافتها لتصبح ثقافة المجتمع مع الأيام فلا تغير حاسم مأمول.
وترييف المدينة كارثة هائلة، لأن ذلك يعني تحطيم قيم العمل والعقلانية والفن والموسيقى. وأنا لا أتحدث عن أصول بل عن ذهنية. فلا يتكدر خاطر أحد من المعتدين بأصولهم الريفية اذ يمكن الاعتداد و التحرر من الذهنية .يمكن الاعتداد بالأصل الريفي وفاء لقيم ريفية رومنسية جميلة بذهنية مدينية.
راجعوا كتابنا “العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ”، الصادر عن دار الأهالي عام1995، والتمييز الذي قمنا به بين المثقف الريفي المثقف المديني.
في نقاش بيني وبين مدير المعهد الفرنسي في دمشق حول جاك شيراك قال لي: لا تنس أن جاك شيراك لم يتحرر من عقليته الريفية. أجبته ولكنه ابن باريس وكان عمدة باريس فأجاب: إنه من الضواحي، ريفي. أي إن الذهنية القروية أو الفلاحية حاضرة في كل العالم، لكن ذهنية ريفية في حقل ثقافة فرنسية وديمقراطية فرنسية تختلف عن ذهنية ريفية في حقل ثقافة عربية سورية أو يمنية أو. أو…
لذلك مسألة الفرق بين الذهنية الريفية الفلاحية والذهنية المدينية وانعكاسها في علم السلطة في عالم العرب مسألة ثقافية بالمعنى السوسيولوجي والأنثروبولوجي، أي ذات جانب مجتمعي وإنساني وبارتباط بقيم وعادات وتقاليد وعلاقات وطرق تفكير.
خذ مثلاً ظاهرة الثأر. فالثأر من كائن اعتدى على آخر صفة ملازمة لكل البشر بلا استثناء، لكن تعين هذا الثأر متعدد عند البدوي والفلاح والمديني. فالثأر من القاتل او من أهل القاتل عادة بدوية وقروية، فيما هي نادرة في عادات المدينة.
بل إن الوعي بالاختلاف مع الآخر والتعبير عنه، يتخذ عند القروي ماهية ثأرية. والتعبير عن الاختلاف ثأراً يعني توسل النيل من الشخص عبر السب، وهو شكل من القتل عبر اللغة. فالكتابة الثأرية لا تنطوي على نقد الفكرة، بل شتيمة الشخص، والموضوع يطول الحديث عنه.
والحق إن دور المدينة في التاريخ أعظم مما يظن بعض الناس. وتراجع دور المدينة في أن تكون مصدر القيم الثقافة المدينية والقيم السياسية المؤسساتية كارثة من أكبر الكوارث التي ارتكبها الطغاة الريفيون بذهنيتهم الريفية.