ما بين ديكتاتورية الفرد والجماهير: الطغيان بين التمركز الفردي والتماهي الجماعي
حان الوقت لإعادة تعريف الحريّة لا كمجرد نقيض للطغيان الفردي، بل كحالة وجودية تتأسس على حق الاختلاف

فارس العلي – العربي القديم
الديكتاتورية في جوهرها، ليست مجرد انحراف سياسي أو خلل في آليات الحكم، بل هي تجلٍّ صارخ لاختلال التوازن الأنطولوجي بين الفرد والمجتمع، بين الإرادة الحرة والإجماع القسري، بين الحضور الواعي والامتثال الجارف. وإذا كانت الديكتاتورية الفردية قد أُشبعت درسًا وتشريحًا بوصفها نموذَجًا كلاسيكيًا للطغيان المتجسِّد في شخصٍ واحدٍ يستحوذ على مفاتيح السلطة، فإن ما يُسمى بـ”الديكتاتورية الجماهيرية” يبقى نمطًا أكثر ميوعةً، وأشد مراوغة، وإن لم يكن أقل عنفًا أو تأثيرًا.
الديكتاتورية الفردية – الطغيان المتمركز حول الذات
في النمط الفردي، تتمركز السلطة في كيان واحد يُؤله ذاته ويُحتكر القرار من خلاله، فيتحول القائد إلى كينونة رمزية تختزل الوطن، وتستحوذ على شرعية متخيلة تُنزع من الدولة وتُعاد توطينها في جسده. أدوات السيطرة هنا مرئية وواضحة: أجهزة أمنية، منظومة تشريعية خادمة، إعلام مؤدلج، وطقوس تمجيد مفرطة.
لكن هذه السلطة وإن كانت مطلقة من حيث الفعل، فهي محددة من حيث المصدر: الحاكم الفرد. ويمكن بالتالي تسميتها، تحليلها، وتوجيه المقاومة نحو مركزها. إنها طغيان “المعلوم”، المحكوم بإرادة فوقية، لكنها قابلة للتفكيك حال انهيار الرأس.
الديكتاتورية الجماهيرية – الطغيان تحت قشرة الإجماع
على الضفة الأخرى، تبرز الديكتاتورية الجماهيرية كصورة معاصرة ومُقلقة للطغيان، حيث لا مركز للسلطة سوى “الجماعة”، ولا طاغية سوى “الكلّ”. في هذا النموذج، يتماهى الأفراد داخل كتلة جمعية تُنتج خطابها القهري من داخلها، لا من سلطة مفروضة خارجيًا. هنا، لا قصر رئاسي ولا تماثيل لزعيم، بل سلطة اجتماعية ضاغطة تمارس قمعها باسم الفضيلة والانسجام.
إنها ديكتاتورية الضمير الجمعي المصمت، حيث يُختزَل الحق في رأي الأغلبية، وتُلغى الفردانية باعتبارها تهديدًا للوحدة. هذه الديكتاتورية لا تسجن الأجساد، بل تحاصر الضمائر، ولا تصادر الصحف، بل تُشيطن الاختلاف من خلال خطاب أخلاقي مُدجَّن.
وسائل التواصل الاجتماعي، في نسختها الأكثر انكشافًا، تُجسد هذه البنية: سُلطة لا وجه لها، محاكم جماهيرية تنعقد لحظيًا، تجرّم الاختلاف وتحتفي بالامتثال، تُدين وتُلغي بناء على مزاج الجمع، لا على مبدأ الحق.
ديناميكيات القمع: من العمودي إلى الأفقي
الفرق البنيوي الجوهري بين النموذجين يكمن في تموضع السلطة وآليات ممارستها. فالديكتاتورية الفردية تقمع بشكل عمودي، من أعلى إلى أسفل، من خلال مؤسسات مرئية وسلطات محددة الهوية. أما الديكتاتورية الجماهيرية، فهي أفقيّة، تتغلغل في العلاقات الاجتماعية، وتُمارَس عبر “الآخرين العاديين”، في ما يُشبه رقابة ذاتية جماعية تُنتج الامتثال دون أمر مباشر.
في الحالة الأولى، النظام مسؤول. في الحالة الثانية، الجميع متورّط. والخطورة هنا أن الضحية قد تُصبح جلادًا حين تندمج في خطاب الأغلبية وتقمع المختلف باسم “الصالح العام”. الطغيان الفردي قد يكون قابلاً للاجتثاث، أما الطغيان الجماهيري، فهو سرطاني، يتكاثر في الوعي ولا يُرى.
أخلاق القهر: من تقديس القائد إلى تأليه الجماعة
في النموذج الفردي، يُختزل الحُكم في إرادة فرد، فتتخذ الأخلاق شكل طاعةٍ مطلقة لشخص مقدّس. أما في النموذج الجماهيري، فتُختزل الأخلاق في “ما تقوله الأغلبية”، ويغدو الإجماع هو المعيار الأخلاقي الأعلى. وكلا النموذجين يُنحِّي العقل النقدي، ويرفض المساءلة، ويُقصي الحريّة الفردية.
المفارقة أن الديكتاتورية الجماهيرية تنبع من فضيلة مُزيّفة: وحدة الصف، الانسجام، الإجماع. لكنها في حقيقتها تجبُر الفرد على الانصهار، وتُقصيه حين يُعبّر، وتُدينّه إن تمايز.
نحو مفهوم ثالث للحرية
ربما حان الوقت لإعادة تعريف الحريّة لا كمجرد نقيض للطغيان الفردي، بل كحالة وجودية تتأسس على حق الاختلاف، وعلى مقاومة كل أشكال الإجماع القهري، سواء أتت من زعيم أو من حشد. فالخطر الحقيقي يكمن حين تتحول الجماعة إلى سلطة عليا، وتنصّب نفسها حَكمًا على الوعي، وتصبح الفضيلة مطيّة للإلغاء.
ليست معاداة الديكتاتورية مجرد موقف سياسي، بل هي تمرين دائم على الحذر من كل ما يصادر حرية الفكر وحق التعبير، سواء لبس قناع الزعيم الفرد أو التحالف الشعبي. وبين طغيان يتمركز في شخص، وآخر يتفشّى في الجميع، تبقى الحرية هي الضحية الأكبر ما لم نحمل جرأة السؤال ونعيد للإنسان فردانيته الأخلاقية، وحقه في أن يختلف دون أن يُدان.