مذكرات خالد الخاني: إنها مذبحة حماة التي لا تشبه إلا مذبحة حماة في تاريخ البشرية
قلم وريشة: خالد الخاني
شهادة خالد الخاني الفنان التشكيلي السوري عن مدينته حماة، والذي شهد بعينيه مجزرة عام 1982 الرهيبة فيها، عندما كان طفلاً، والتي بدأ بتدوينها ونشرها في شباط/ فبراير من عام 2011، هي واحدة من أصدق النصوص والشهادات الشخصية التي كُتبت عن المجزرة الأقسى والأكثر وحشية وإجراماً في التاريخ السوري المعاصر. نقدّمها لقرّاء (العربي القديم) بإذن خاص من الكاتب، مع باقة من رسومات الخاني التي حاكى فيها الفظائع الوقائع، واستلهم ملامح ضحاياها بتجريدية حينا وتعبيرية عالية حيناً، في هذا العدد الخاص عن مدينة حماة في الذكرى الثانية والأربعين للمجزرة. (العربي القديم).
المحطّة الأولى: ملامح حملة إبادة جماعية!
في شباط 1982 كان عمري 6 سنوات، وكنت في الصف الأول الابتدائي، وقد انتهينا من الفصل الأول، وكانت عطلة الربيع، ويا لها من عطلة!
ليلاً، ونحن نيام نسمع أصواتاً مدوية تكسر صمت المكان، وتحوّل الطمأنينة إلى هلع قاتل، فيما ارتباك كبير يبدو على عمتي التي ربتني وأنا أنام بقربها؛ لأملأ فراغ الأمومة، لأنها لم تتزوّج أبداً.. كانت تعيش معنا في بيتنا الجميل المؤلّف من طابقين كبيت عربي تقليدي. باقي أسرتي، وأبي، وأمي ينامون في الطابق الثاني، بعد هذا بلحظات أسمع أصوات أخوتي، وأبي، وأمي تعلو، وهم ينزلون الدرج، ويدخلون غرفة عمتي، فيما يتصاعد إطلاق الرصاص. أمي تقول لأبي: (ألم أقل لك أن نبقى في المزرعة)، هذه الجملة لم تفارقني لسنين طويلة، وأنا أفكر بها، وتؤلمني فكرة أن أبي لم يبقَ في المزرعة، بقي الأمر حتى كبرت، وسامحته، وقلت إنه القدر.
صوت الرصاص بدأ يملأ الحياة، كنت أسمع أزيزه للمرة الأولى، الصوت يرتفع أكثر، ثم بدأ صوت الانفجارات، ومرّت الساعات، وبعدها بدأنا نتعوّد على هذه الأصوات. يمرّ الوقت، ويبدأ بعض الجيران بالتوافد إلى بيتنا. فوضى عارمة في كل مكان، أطفال يبكون، ونساء تقرأ القرآن، وقلق كبير. هذا الوضع استمر ثلاثة أيام، وبعدها سمعنا صوت انفجار كبير، قال أبي: إن قذيفة أصابت الطابق العلوي، واهتز البيت، كما ملأ الغبار رئتي مثل ما ملأ المكان، وتعالى صوت النساء يقرأن سورة ياسين، فيما ارتفعت موجة بكاء حاد.
قال أبي: (يجب أن نغادر المنزل بأقصى سرعة). خرجنا وبدأ الناس بالتجمع والصراخ. كان الذعر يسيطر على كل شيء. دخلنا إلى بيت أحد الجيران، ومن ثمّ إلى قبو مظلم اعتقد رجال الحي أنه أكثر أماناً من أماكن أخرى.. وكان العدد أكبر من المكان. وبقينا ثلاثة أيام والرصاص لا يتوقف أبداً؛ بعدها تندفع قذيفة مدفعية تهز كل شيء، وسورة ياسين ترتفع حتى السماء، وقذيفة ثانية، وثالثة، المكان في اهتزاز دائم، فيما لم يُصب أحد من الذين كانوا في القبو، ولكن كثيرين من أهل الحي ماتوا، وأصيب الكثيرون، والطبيب الذي يسكن الحي أنقذ مَن استطاع إنقاذه.
بقينا في القبو، حتى هدوء القصف والرصاص، أخرجونا وقالوا: يجب المغادرة، باتجاه أحياء أكثر أمناً. لم يعرفوا حتى هذه الساعة أنهم كانوا مخطئين، ولم يخطر ببالهم أنها كانت حملة إبادة جماعية.
خرجنا مسرعين، باتجاه سوق الحاضر، لنعبر إلى (الأميرية). وصلنا إلى شوارع كان علينا أن نعبرها زحفاً؛ لوجود قناصة في كل مكان. بعد وقت صعب وصلنا إلى حي الأميرية، عندما قطعنا الشارع الأخير زحفاً. كان أبي يساعد عمتي المرأة الكبيرة، وأنا ملتصق بها تماماً. عبرت أمي وأخواتي مع الجميع، وبقينا نحن الثلاثة، حينها طلب مني أبي أن ألحق الجميع، فرفضت لأني كنت أريد أن أظل مع عمتي التي ربتني، ولكنه أجبرني على اللحاق بأمي، والآخرين، وبقي هو مع عمتي، وهذه كانت آخر مرة أرى فيها أبي حيّاً.
في حي (الأميرية) تابعنا البحث عن ملجأ يحمينا، وجدنا قبواً مكتظاً بالناس، لم يستطيعوا إدخالنا؛ لأن عددنا كان كبيراً جداً (معظم سكان حي البارودية)، ولكنهم أدخلوا أبي وعمتي، فهم اثنان فقط. في ذلك الملجأ في (الأميرية) اعتُقل أبي، وبقيت عمتي التي رأت، وأخبرتنا بما حدث.
تابعت مجموعتنا الطريق، باتجاه شمال الأميرية، ووجدنا هناك ملجأً كبيراً يتّسع للجميع، وبقينا داخله يومين، قبل وصول الجيش العربي السوري. عندها تحوّل الملجأ إلى معتقل، حيث أخرجوا جميع الرجال والشباب من المكان، وأعدموا بعضهم مباشرة عند الباب، واعتقلوا الشيوخ كبار السن. بقي في المكان النساء والأطفال، بعضهم يبكي، والأكثرية يرددون مجبرين تحت التهديد: (بالروح بالدم نفديك يا حافظ، يا الله حلك حلك يقعد حافظ محلك) للإمعان في مهانتنا.
ثلاثة أيام سجنونا – أقسم بالله من دون طعام- وقتلوا من شاؤوا. رائحة المكان أتذكرها جيداً، كانت لا تُطاق، ودائماً ما كنا نسمع أصواتاً.. صراخ خارج القبو، اغتصاب نساء، وتعذيب لا يمكن لي اليوم أن أصفه، أو أتذكره إلا ويؤثر بي.
لقد كان مع بعض النساء سكاكر وشوكولا، وقبل أن يأخذوا الرجال أحضر أحدهم خبزاً وزيتوناً، تقاسمنا كل شيء، كميات لا تكفي لرجل واحد. في هذا الوقت كانت النساء تقرأ القرآن، من دون توقف، ولكن بصوت منخفض. وبعدها فُتح الباب، وطلبوا منا الخروج، لأنهم قالوا سوف نقتلكم، وبدأنا نهتف بالروح بالدم نفديك….الخ، عندها قالوا يجب أن نذهب، باتجاه طريق حلب، والاتجاه خارج المدينة. سرنا نرفع أيدينا، ونحن نردد ما طُلب منا، منظر لا يعقل، المكان مليء بالجثث، وهي منتفخة، والدماء سوداء، ونحن من شارع إلى آخر، الجثث والدمار في كل مكان. تقدمنا حتى وصلنا إلى جامع عمر بن الخطاب (الذي تسمعون عنه اليوم، والذي بدأت فيه الآن التظاهرة للمطالبة بالحرية). كان الجامع مدمراً، لم يبقَ فيه إلا المتوضّأ، كان فيه بعض عناصر الجيش، أخافونا بتوجيه أسلحتهم علينا، فانبطح الجميع أرضاً، وبعدها أدخلونا إلى المتوضّأ، وأغلقوا الباب بإحكام. بعض النساء قلن لعناصر الجيش اقتلونا، ودعوا الجميع يخرجون من المدينة ولكنهم رفضوا. عند دخولنا إلى المتوضّأ وجدنا خبزاً عفناً هجمنا عليه، وبدأنا بالأكل.. وهناك وجدنا أيضاً تمثالين صغيرين من حمام الزينة الأبيض، لا أعرف لماذا كانا هناك، ولكني رأيت أنهما مؤشران لبداية الخلاص من حمام الدم. بقي الباب موصداً، لمدة يوم ونصف، بعدها أُلقيت خطبة من أحد الضباط قال فيها: “التي لها زوج، أو أخ، أو ابن، أو أب، وتنتظره، فلا تنتظره؛ لأنه لن يخرج حياً أبداً ولن يعود”.
أطلقونا باتجاه حلب، مشينا أكثر من عشرة كيلومترات نسابق الزمن، ونحن حفاة نبكي، والنساء تقرأ القرآن، وإذا سمعنا إطلاق رصاص مباشرة كنا ننبطح جميعاً، حتى وصلنا إلى النقطة التي سمحوا فيها لأهالي القرى الوصول إليها لمساعدة الناجين.
المحطة الثانية: قصص الهروب الكبير!
بعد وصولنا إلى الأطراف الشمالية لمدينة حماة، وكنا حفاة وملابسنا متسخة، ورائحة البول تطغى على المشهد، استقبلنا أهالي الريف وركبنا سيارة شحن كبيرة وتوجهنا إلى القرى.. وتركنا هناك وراءنا في مدينتنا صوراً وقصصاً مؤلمة. كان في حينا في البارودية إحدى جاراتنا، لديها شابان أحدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة والآخر سليم، وعند هروبنا الكبير، والحيّ يُقذف من مدفعية الجيش السوري (لا أعرف إذا كانت “سرايا الدفاع”، أم “الوحدات الخاصة”، أم الاثنتان معاً)، أصيب الشاب ذو الاحتياجات الخاصة بحالة هلع ورهاب وفزع، لم يستطع معها رجال الحي إخراجه من المنزل، حتى تستطيع عائلته الرحيل معنا.
وقفت أمه أمام بيتها، وطلبت من الجميع، وهي تلوح بيدها الإسراع بالرحيل، وهي تقول: “لنا الله، لنا الله”، وكررتها كثيراً، حاول أحد رجال الحي إقناعها، وطلب منها ترك ابنها، والذهاب معنا هي، وابنها السليم فرفضت ذلك، وقالت “أسرعوا أرجوكم، فهذا قطعة من قلبي ولن أتركه”.
بقيت الأم مع ولديها، وبعض الشباب الشجعان من اللجان الشعبية.. الأم التي تحولت إلى شاهد في ذاكرتنا أخبرتنا لاحقاً: إنه وبعد انتهاء المجزرة دخل عناصر الجيش بكل عتادهم إلى حينا وفتشوا جميع المنازل، وبدأت قوات الجيش بجني غنائم الحرب. دخلوا إلى بيتنا الجميل، وكل بيوت الحي وسرقوا كل شيء يهمهم. قالت المرأة: إن سيارات الجيش بدأت تحمل الأغراض، وبالذات التحف الغالية الثمن، وجميعنا نعرف أن رفعت الأسد يهتم بالتحف الفنية، ومارس هوايته بأبشع الطرق. وتروي السيدة إنها أخبرت الجيش عن سبب بقائها مع ابنها المريض، وسألها الضابط عن مكانه، وكان الشاب المريض مختبئاً، ومن الصعب التفاهم معه،. أوعز الضابط إلى جنوده بالبحث عنه، حتى وجدوه، وسحلوه أمام أمه هو وأخوه المعافى، وقالوا لها، وهم يضحكون: اختاري أحد أبنائك، فهو لك، وسوف نقتل الآخر… أبت الأم الاختيار بين أبنائها، وهي تبكي وتقبّل قدمي الضابط وتترجّاه، وتقول: “اقتلوني أنا، ودعوا أولادي”.
“شهامة” الضابط كانت سريعة، حيث سحب مسدسه، وأطلق النار على ابنها المعافى، فوقع على الأرض شهيداً، من أجل أخيه من ذوي الاحتياجات الخاصة. وقفت الأم تبكي فوق ابنها، فسحلوها مع ابنها المريض، ووضعوها بسيارة عسكرية، وأخبروها أنهم سيفجرون الحي بكامله، وهذا ما حصل. عندما عاد بعض الرجال بعد انتهاء المجزرة لم يجدوا حي البارودية كان قد دُمر تماماً، عن بكرة أبيه.
دُمِّر الحي تماماً هذا، ما قاله لنا خالي لاحقاً، بعد أن تسلل إلى المنطقة بحثاً عن بيتنا. ذهب ليبحث عن صندوق الحديد الخاص بأبي. وبعد ساعات، وبمساعدة الجرافات، وجد قطعة حديد صغيرة. لقد سرقوه بعد تفجيره، وهذه صورة عن إصرارهم على سرقة كل شيء. عاد خالي لأمي بسجادة كان الجنود أطلقوا عليها الرصاص وثقبت، وهذه السجادة مازالت موجودة عند أمي إلى اليوم، ذكرى لنا ولها من بيتنا الجميل الذي يحمل في ضميرنا صورة والدي.
القصص التي رُويت لنا من الناجين، عند هروبنا الكبير من مجزرة حماة كثيرة. منها قصة عائلة مؤلفة من أب طاعن بالسن ومريض، وله ابن شاب صغير كان عمره يومها (١٥) سنة، وهو الذكر الوحيد لهذه العائلة بعد ثلاث بنات. روت الأم بعد المجزرة إنه بعد مغادرة أهل الحي أمطرت مدفعية جيش الأسد الحي بالقذائف بشكل مكثف، حتى تأكد الجيش من عدم وجود أحياء في البارودية. دخل الجيش ووجد هذه العائلة مع الأب المريض. الضابط سأل الأب عن سبب عدم هروبهم مع مَن رحلوا من المدينة، وقال له: هل تريد أن تقاوم؟ فأجابه الأب: أنا لا علاقة لي بالمشاكل، ومريض ولا أستطيع حتى المشي، وهذه عائلتي بقيت لترعاني.
في ذلك المنزل ضحك العسكر من كلام الأب العاجز، فيما الضابط طلب من الفتيات أن يخلعن حجابهن؛ ليتأكد أنهنّ نساء، ولسن رجالاً. رفضت الفتيات القيام بذلك، وبدأن بترجي الضابط، بعدم إجبارهنّ على ذلك، ولكن الضابط أصر على ذلك كنوع من الإذلال للعائلة. بعدها بدأ الضابط بمفاوضة الأب بكل سفالة أن يتركه حياً؛ شرط أن يوافق على اغتصاب إحدى بناته. بكى الأب، وثار في وجه الوحشية، وتبعه ابنه الشاب فقتلوهما، وأمعنوا بتشويه جثتيهما أمام الجميع، وقاموا باغتصاب واحدة من الفتيات، وبعدها أخرجوهنّ بسيارة من الحي.. والفتيات الثلاث تزوجن، وعندهنّ اليوم أولاد، وهنّ لا يتكلمن عن ذلك اليوم الأسود.
في حماة كان الألم كبيراً لنا جميعاً من كل الفئات والانتماءات، كل الألم تقاسمه أهل المدينة سواسية، من دون تفرقة. عشنا مرحلة سوداء، من دون أن نعرف أن هذا الأمر سيظل كالسكين يقطع في ذاكرتنا، يخفي دموعنا ويمحوها أحياناً.
نعود إلى الصور التي رأيتها، عند هروبنا من القبو إلى جامع عمر بن الخطاب. كنا نسير في الطرق وكانت الجثث ملقاة في كل مكان، وأكثر صورة انطبعت بذاكرتي لم أعد أعرف إن كانت رويت لي في طفولتي، أم رأيتها بعيني، ولكن ما أعرفه أنه لا يمكن محوها أبداً، في الساحة المقابلة للجامع رجل رُبطت إحدى قدميه بسيارة، وكأنه ربط بالمقابل بشيء ثابت، وتم شقه إلى نصفين حتى الصدر.
وصورة أخرى رأيتها هذه المرة بأم عيني، جسد مرمي على الإسفلت في الساحة نفسها، الجسد سليم ولم يتضرر أبداً، ولم ينتفخ، وكأنه مات قبل مرورنا بقليل، حيث دُهس رأسه بدبابة، وظهرت علامات المجنزرات، وشكلت أثلاماً في الأرض.
وصورة أخرى لامرأة قُطعت يداها من المعصم، وأنا كطفل لم أستطع تفسير السبب. ولكن الجميع فسّر المشهد بأن العسكر أرادوا سرقة أساورها الذهبية التي علقت بيديها.
نعود إلى الهجرة إلى الريف، ركبنا سيارة شحن، أمي بجانب السائق، ومعها باقي أخوتي، وأنا وأحد أخوتي في الخلف. كانت هناك هدية من السماء، حيث وجدنا علبة “تونا”، ونحن نتضوّر جوعاً لا يحتمل. بدأنا ضرب العلبة محاولين فتحها بكل الطرق، ولم نستطع ذلك حتى وصولنا إلى القرية. خرج الناس من بيوتهم جميعها، وجلبوا لنا الطعام لنأكل، وبقينا أنا وأخي كطفلين مصرين على فتح هدية السماء. هذه الحادثة تطفو بذاكرتي كلما سمعت بكلمة “تونا”، أو رأيت أو شممت رائحتها!
المحطة الثالثة: العثور على عمتي!
بعد هروبنا الكبير من مذبحة حماة التي لا تشبه إلا مذبحة حماة في تاريخ البشرية، والصور، والأصوات، ورائحة الدم، وطعم الخبز العفن وأصوات النساء وهي تُغتصب، وأصوات الرجال والأطفال وهي تصارع الموت بعد رميهم بالرصاص، ودمار مدينتنا وكأن زلزالاً قد أصابها.. وصلنا إلى نقطة اللاعودة، واتجهنا الى الريف حفاة ونصف عراة، لقد هجّرونا من منازلنا الدافئة، وقتلوا مَن قتلوا، وبدأت الرحلة الأكثر إيلاماً من الذي سبق.
تم استضافتنا بقرية بمنتهى الحفاوة والتكريم، وهذا إذا دلّ، فإنه يدلّ أن كل الشعب السوري يعرف كذب النظام الفاسد، وبقينا مهجرين في هذه القرية، وأكملنا الفصل الثاني في مدرسة القرية، ولن نعود إلى المدينة أبداً، فقد استُشهد أبي، ودُمرت وسُرقت جميع ممتلكاته، وبقينا حتى بداية عام دراسي جديد. عدنا إلى حماة، وسكنا في بيت لإحدى خالاتي كنوع من الاحتضان وتقاسم الألم، وعندها استطاع أحد أقربائنا إيجاد عمتي التائهة بالقرى، ولا نعرف عنها شيئاً. أتذكر عندما رأيتها لم أتوقع أن أراها بهذا الشكل، كانت كالملكة وتغير كل شيء. احتضنتها لساعات أنا، وأخوتي وأمي، وجميعنا نبكي كموجة من هستيريا الواقع. روت عمتي عندها كيف اعتُقل أبي في الملجأ الذي مررنا عليه، ولم ترَه أبداً بعدها، وعلمت من بعض الناس عن استشهاد أخيها. بكينا، وبكينا، وأصبحت عادة في حماة أن الناس عندما يزورون بعضهم، يبدؤون بالبكاء، قبل السلام عندما تلتقي وجوههم. البيت الذي نسكن فيه كان يضم كل مَن ليس لديه بيت لسنوات، فقد دُمرت أحياء كاملة كالبارودية، والكيلانية، والزنبقي، والشمالية و..الخ ولم يبقَ بيت في حماة ليس لديه شهيد، أو معتقل على الأقل.
ذهبنا إلى مدارسنا بعد معاناة كبيرة، وقهر، وذل، وجوع..الخ، وأقسم لكم أن الصف الذي كنت فيه (الثاني الابتدائي) لا يوجد فيه سوى طفلين ليسا يتيمين.. فتخيلوا ماذا فعلوا من أجل مستقبلنا، وكم عانينا لنتجاوز أزماتنا الداخلية، ولم نتجاوزها حتى الآن!
بعدها كرّس النظام، وهو لا يستحق كلمة نظام، عذابات جديدة، لم يتوقف عن الاعتقال. الجيل الذي أكبر مني إذا كبر قليلاً اعتُقل وغُيب إلى الآن، والأسماء معروفة عند جميع أهالي حماة. ولتزيد العصابة من عذابات أهالي حماة، ولتثبت أننا مهانون ومدعوسون بدأت هذه العصابة بإطلاق بعض السجناء الذين لم تتم تصفيتهم في سجن تدمر، في المناسبات الوطنية التي تعنيهم، ولا تمت بصلة الى أفعالهم كالحركة التصحيحية، وميلاد الحزب…الخ.
وتعوّد أهالي حماة على ذلك عبر السنوات، ففي كل مناسبة من هذه المناسبات يخرج أهالي حماة إلى المدخل الجنوبي للمدينة أي طريق حمص، والمشهد هناك كالتالي: نساء، وأطفال، ورجال، وكل أهالي المدينة يوقفون الباصات والسيارات القادمة من حمص، ويبحثون، ويصرخ كل بأسماء مفقوديه، والبكاء لا يتوقف، ويستمر هذا المشهد طوال اليوم. حالة من الفوضى والقهر والبحث عن مفقودين بطريقة لا تمت للعقل بمنطق، وأحياناً يجد بعض الناس مفقوديهم ربما ثلاثة أو أربعة، وتعود المدينة بأكملها مكسورة الخاطر، من دون أي صوت ليعبروا عن الألم الذي بداخلهم، والذين يجدون سجناءهم لن يكونوا أكثر حظاً من الآخرين، فمعظم الناجين من السجناء لا حول ولا قوة لهم، وأقسم إنهم يكسرون القلب أكثر ممّن ماتوا، ولنا معرفة برجل خرج من السجن، وذهبنا لاستقباله والحمد لله أنه كان بحالة جيدة، ذهنياً، لأنهم أخرجوه من سجن تدمر، وأنعشوه بسجن صيدنايا لمدة ستة أشهر، قبل إطلاق سراحه وأقسم إن هيكله العظمي كان ظاهراً تماماً، ولونه الأبيض لا يشبه لون البشر أبداً، فإنه لم يرَ الشمس لسنوات، وروى لي كل شيء عن سجنهم بتدمر، وإحداها وأغربها أن سجيناً كان في مهجعه بدأت علامات الزائدة الدودية تظهر عليه، وعانى من الألم لأيام، وهم يعرفون أنهم لا يستطيعون طلب المساعدة من السجان الذي يطل عليهم من فتحة بسقف المهجع، وإذا طلبوا، وأعلموه بآلام صديقهم فحلهم الوحيد هو تصفيته بمنتهى البساطة، بعدها قرروا أن يجروا له العملية داخل المهجع وبصمت تام فتخيلوا!
فُتحت بطن السجين بقطعة معدنية من التنك، وأمسك الآخرون المريض؛ حتى لا يتحرك أبداً، وبعضهم أغلق فمه بقطعة قماش والذي أجرى العملية كان طبيباً، صنع إبرة من التنك، ولست متأكداً من نوع الخيوط التي خاط بها الجرح. تمت العملية، ولم يخرج صوت واحد. هذه صورة من الخوف والقهر، ووضوح المصير داخل سجون النظام الفاسد.
المحطة الرابعة: أم إبراهيم وحكايات الفتيات المغتصبات!
ونحن بداخل جامع عمر بن الخطاب بالمتوضّأ فُتح الباب علينا، وأُدخلت خمس أو ست فتيات، ويا له من منظر! النصف السفلي من ملابسهم مليء بالدماء، نحن الأطفال لم نعره اهتماماً؛ لأن هذه الإشارة أكبر من مداركنا، ولكن بدأت بعض النساء يسقطن صرعى من هذا، ولم نفهم لماذا. تصاعدت سورة ياسين والتكبيرات، وتصاعد البكاء، ونحن الأطفال اتحدنا مع الجميع ببكاء لم أشهد له شبيهاً بحياتي كلها، لأن هذا لا يحصل إلا هناك، وإن شاء الله لن يحصل ثانية. أُدخلت الفتيات إلى جزء خلفي صغير من المتوضّأ، بعد أن ملأت دماؤهم قلوبنا، وتساعدت النساء على إيقاف النزيف الذي لطخ المكان (كم أنتم سفلة وتريدون تأكيد همجيتكم أيها التتر!)، بعدها بدأت بعض النساء بخلع ثيابهنّ الداخلية، وإعطائها إلى الفتيات. يا له من اضطراب في روحي إلى الآن هذا المشهد من تقاسم الألم المريع كسر الطمأنينة إلى الأبد! كنا نحن الأطفال بحالة ذهول، لم نستطع فهم ما يجري أمامنا؟ ماذا تفعل النساء، ولم خلعن ثيابهنّ الداخلية، ليسترن عوراتنا المستباحة؟! تكاتفت النساء حتى استطعن أن يوقفن النزيف المريع، في البداية طلبت بعض النساء المساعدة من الجنود، ولكنهم رفضوا، وضحكوا واستهزؤوا… وسباب لا ينتهي، وكأنهم لم تلدهم أمهات، بل نبتوا من الحجارة، ولم يروا رحمة الله، ورأوا فقط التجبر. حاولت النساء احتضان الفتيات الجريحات؛ للتخفيف من هلعهن، ويا لها من ساعات طويلة! بعدها وصلت أدمغتنا إلى الرضا، لتهدأ نفوسنا التعبة كنوع من غريزة البقاء، وبدأنا نحن الأطفال الاقتراب من الفتيات الجريحات بنوع من المداعبة للتخفيف من آلامهن، وأتذكر كيف كانت وجوههنّ.. وكأنهنّ خرجن من حظيرة ذئاب مسعورة!
روت الفتيات ما حصل معهنّ إلى النساء. رفضت الفتيات الاستجابة لمطالب الذئاب، فانهالوا عليهنّ أكثر مما تعتقدون.. ضرب وسباب وهمجية، واقتلاع ثياب، وفض بكارة، بطرق غير إنسانية لم يكن الجنس دافعهم فقط، إنهم مرضى بسادية لانهاية لها. لقد أدخلوا كل شيء إلى روح الفتيات يا لهم من وحوش تسلطت على رقابنا.
وفي هذا المكان روت إحدى النساء عن جدتها الطاعنة بالسن، وهي لا تستطيع المشي، أرسلتهم إلى البحث عن الخلاص، علّهم ينجون من حمام الدم الأسود، وبقيت هي وكرسيها غير المدولب الذي تستند إليه.
كانوا في حي العصيدا، بعد قصف الحي بالمدفعية ودخول القتلة إليه. أُعدموا مباشرة مجموعة من الرجال، مثلوا بأجسادهم الطاهرة أبشع تمثيل، ولن يترددوا عن قتل الأطفال، واعتقال من بقي حياً. أقسم إنني أعرف رجلاً كان طفلاً هناك، ورأيته، وتكلمت معه منذ أسابيع، وروى لي كيف كانت جثث أخواله، وعند خروجهم لم يستطيعوا المغادرة إلا من فوق الجثث. ودّعوا جثث أحبابهم بهذه الطريقة يا له من موت! حملوا هذا الألم إلى اليوم.. قال لي: أنا خائف من بطشهم، ولا أستطيع أن أقاوم خوفي؛ لقد اغتصبوا الطمأنينة إلى الأبد. وسألني بكل سذاجة: هل سننتصر عليهم؟ وضحكت، وأنا الذي لم أضحك منذ شهور، وأكدت انتصارنا، فابتسم متردداً.. ولكني أعلم أنه سيكون هناك يحتفل بنصرنا القريب.
قررت الجدة (أم إبراهيم) إخراج الجميع من الحي، وهذا الجميع فقط من الأطفال والنساء، وتنقلت معهم بكرسيها (العكاز)، تحت إطلاق الرصاص والمدفعية والقناصة، إلى أن وصلوا صعوداً إلى بداية حي الحاضر. تعبت أم إبراهيم، ولم تعد تستطيع السير أكثر، وبقيت هناك في بيت إحدى عماتي وزوجها، وأطلقتهم إلى المجهول كسرب من السنونو بين الوحوش، ولم تملك أم إبراهيم إلا خيارها هذا، وكانت تعي الجدة أن القتلة ليسوا بشراً، وعلى الجميع الهروب من حمام الدم الذي يهددهم كل ثانية، وعندما تكلم النساء عن أم إبراهيم كيف صرخت بهم، وأطلقتهم إلى الخلاص.
في المتوضّأ قُرأت الفاتحة من الجميع على روحها الطاهرة اعتقاداً منهم أنها ستُباد من الهمجية التي قررت مواجهتها، ولكن أم إبراهيم كانت أقوى من المدافع، وحيث إن عمتي وزوجها قررا الهروب من القتل الذي يتصاعد أكثر فأكثر، ومرة أخرى الجدة تطلقهم نحو الخلاص، وتبقى في بيتهم وتعلن المواجهة.
بقيت أم إبراهيم في بيت عمتي، والأبواب مشرعة لمدة أسبوع، والجنود يدخلون المنزل، ويخرجون، ويسرقون، ويسكرون… وأم إبراهيم تصرخ في وجوههم ويخافون منها.. وهي تغتال شجاعتهم الزائفة. لم تنحنِ أمام القتلة، بل دافعت عن المنزل بكل إباء كنوع من رمزية المقاومة المحقة عن كامل المدينة المستباحة. صمودها أذلهم، وأذل قادتهم، حتى بدؤوا يستجيبون لما تمليه عليهم، ليكتشفوا أنها المنتصر هي وكرسيها غير المدولب… فقرروا إخراجها أمام المنزل، وتفجير منازل الحي كاملة، ولتشاهد كم هم ليسوا بشراً. بقيت على كرسي في وسط الشارع المدمى ثلاثة أيام، وأم إبراهيم في هذا الخلاء، لم تناور ولم تفاوض، أعلنت وجودها هناك كنخلة، وسارية، وراية، وعلم. لم تطلب المساعدة من أحد، ولكن كان من بين الجنود من تبنّى شموخها، وتحول إلى مجيب لكل ما تحتاجه جسدياً.. وأقسمت أم إبراهيم إنها لم تخف منهم، ولم ترَهم.. فكانوا أصغر من مدى بصرها… وتقول أم إبراهيم: إن الله أرسل لها كل ما تحتاجه. بقيت أم إبراهيم لتخبرهم إننا سنعود ونقتص، ونكرم شهداءنا، ونرفع لكل منهم شاهدة، ولن نتركهم بقبرهم الجماعي، ولم ولن تنتصروا كما تعتقدون.. وأرسل الله بعض الباحثين عن الخلاص فحملوها، وهي التي أبت أن تحمل. خرجت أم إبراهيم إلى القرى مع التائهين.
المحطة الخامسة: أعذروني لأنه أبي!
عندما صفعني أبي، وأرسلني لألحق بأمي وأخوتي، وباقي سكان (البارودية)، كأنه كان يعلم أنني لن أنسى تفاصيل المأساة ما حييت. وأقسم إنني أروي مقتل أبي، وكأنني أراه اليوم في كل شهيد أو معتقل، ربما يكون هناك ازدياد في ارتباكي في كتاباتي في هذه الجزئية من الشهادة الآن فأعذروني لأنه (أبي).
آه يا أبي.. كيف استطعت أن ترسلنا إلى المجهول؟ يا له من ألم! كيف كان قلبك وعقلك آنَذاك؟! من هنا بدأت عذاباتك تكبر.
في الملجأ الذي دخله هو وعمتي تم اعتقاله إلى الأبد، عند وصول الجيش إلى الملجأ، بعد أن تم تأخيرهم من قبل بعض الشبان الشجعان الذين أعرف أحدهم معرفة اليقين، وأخبرني كم عانوا من القصف، وكيف استطاعوا تأخير دخول (التتار) لعدة أيام. اعتقل أبي وجميع الرجال، واقتيدوا إلى معمل البورسلان. وهذه الرواية وصلتني ممن كانوا معه هناك. بعد أيام وهم تحت المطر بدون طعام، كانت السماء تروي عطشهم. وربما مرة أو مرتين يأتي الجنود ببعض الخبز، ويبدؤون برميه، ويطلبون تحت تهديد السلاح أن يتراكض الناس إليه للإمعان بإهانتنا. كان هناك هنكارات وأقبية، وكانوا يتقاسمون الألم كعادتهم.. فالقبو أكثر دفئاً من الهنكارات التي تحميهم من الرياح، والساحة خارج الكون القتل والتشويه والسحل، وخلع الأسنان، وقص الآذان واللسان، وقلع العيون، وكسر الأطراف، ومع ذلك الناس كانوا يتبادلون الأدوار، ويتقاسمون الألم! بعد أيام من وجوده هناك، كان الناس ينادونه يا دكتور كنوع من الاحترام، وتخفيف الألم، وهو الذي خفف آلامهم من قبل، وكان دائماً يقول للجميع: لا تنادوني بدكتور؛ لأنه يعلم أنهم لن يتركوا مثقفاً حياً في مدينته، وهو الذي وقّع على بيان مثقفي حماة، والذي أرسل إلى النظام لإحلال الديمقراطية وإطلاق الحريات، وإلى آخره من حقوق اليوم ننادي بها وسننالها بإذن الله. ويروي لي أحد الشهود: إن أبي رآه يحمص قطعة خبر صغيرة، على أحد الأفران هناك، فقال له: كلها كما هي. وإلى الآن لم أستطع أن أفسر ذلك، أكان قصده من أجل الفائدة الغذائية، أو من أجل رائحتها مراعاة لجوع جميع المعتقلين!
تسرّب خبر إلى الضباط بوجود طبيب بين جموع المعتقلين، وكانوا أكثر من خمسة آلاف في هذا المعتقل فقط. فجُمع المعتقلون في الساحة، وبعدها قال الضابط الكبير: نريد طبيباً، وأوحى للجميع أن هناك حالة إسعاف مستعجلة.. فخرج أبي، ولبّى النداء، وهو الذي أقسم قسم (أبقراط)، وكان هناك طبيب آخر لبى نداء الواجب، ولكن لم يعلما بالمكيدة. سُحل أبي والطبيب الآخر، وعُذبا من دون رحمة.
اقتلعوا إحدى عينيه، وهو يصارع الألم، وروى لي أحد الذين كانوا هناك: إن أبي كان على الأرض يتلوى من الألم، وانهالوا عليه بالأسلحة وكأنهم يلعبون، وقبل أن يموت تكالب الجنود عليه وكأنهم ذئاب. لساعات دامت آلامه.. كيف كنت تشعر يا أبي؟ وبعدها رُمي جسده الذي يشبه جسدي، ووجهه الذي يشبه وجهي، وروحه التي تشبه روح شهدائنا اليوم في الساحة، ثم سُلم جسده الطاهر للمستشفى الوطني، وبقي مرمياً مع الشهداء على باب المستشفى. لم تنتهِ عذابات أبي إلى الآن، فقلعت عينه الثانية هناك، وأخرجت بطاقته الشخصية، وخرزت في ملابسه. استطاع أحد أقربائنا أن يأخذ الجثمان، وتم دفنه من غير عيون . وأنا اليوم أقسم إنني لم أتوقف عن المطالبة بحقوقنا كاملة، وأن ينال القتلة القصاص العادل، ولم ولن أهدأ حتى تعيدوا لي عيني أبي؛ لأدفنهم هناك حيث يكون.
على باب المستشفى الوطني هناك بقيت جثة أبي مرمية بين الجثث، وروت لي الممرضة التي رافقته عندما كان مديراً للمستشفى (بعد استجابة النظام لبيان مثقفي حماة، وعينوه أيضاً نقيباً للأطباء، وهو لم يكن بعثياً كنوع من البدء بتحقيق المطالب، والخضوع إلى الحوار، واختياره هو وشخصيات من المجتمع المدني، وهذه هي المكيدة التي يستخدمها النظام اليوم). الجرحى ينقلون إلى المستشفى بتسارع لا ينخفض، وهذه الحادثة حصلت عند وصول جريح إلى الإسعاف، والذي جلبوه كانوا يعتقدون ما نعتقد جميعاً، أُدخل وهو يصرخ من آلامه، حتى سمع كل من بالمستشفى صوته الذي لم يكن وحيداً، ولكنه طغى على جميع الأصوات، وصوته هذا كان إشارة للجنود الذين رابطوا بالمستشفى؛ للإجهاز على الجرحى لتأكيد إبادتنا، وألم الجرحى يتناسب طرداً ليس مع الاستجابة لتخفيف آلامهم، بل مع شدة العذاب الذي ينتظرهم، وقالت الممرضة في روايتها: إن الجنود بموجة من الجنون، وممرضة تبنت القتل معهم، شقوا صدره، وهو يصرخ ويتلوى، وأخرجوا قلبه، ودماؤه غطت وجوههم، وبذاتهم العسكرية حتى أسكتوه، كما اعتقدوا. والله أنا صوته وألمه وجسده، حتى نكرمه كما يليق به كبشر. قتلوه وهم يحتفلون، وهم ينتصرون على الإنسانية. أقسمت الراوية أن الممرضة المتحدة معهم أخرجت كبده، وأخذت تلوكه، وتبصقه، وهي تعتقد أن الله تغيّب عن المكان.. سنوات وراوية هذه القصة صامتة، بقيت هناك في المكان نفسه، والحضور نفسه، والمشهد يتكرر عبر ذاكرتها. لم تتغيب عن هذا المشهد إلى الآن.. وأخبرتنا أيضاً إنهم لم يسألوه عن اسمه، وهم لا يتبعون الأسماء، ولا يعرفون لغة الأطفال، ولا لغة النساء، أو بالأحرى لا يعرفون لغتنا أبداً، بل يعرفون لغة القتل فقط.
في المستشفى شُوهت الأجساد وغيروا ملامحها. كانوا يرسمون بالدماء ويكتبون عباراتهم على الجدران كـ (لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث) شوهوا الأجساد، وقطعوا الرؤوس ليعبروا عن خوفهم من عقولنا (أو ربما حتى يبقى الناس في دائرة الشك ولا يستطيعون تأكيد موت مفقوديهم، أو وجودهم مع المعتقلين في سجون العصابة). كانت هذه صورة عن ألمنا النفسي الذي عملوا على أن يكون مزمناً حتى الآن.. فإلى الآن مازال الشك والرغبة أن يعود من ذهب إلى هناك.. وكأنهم يجردون الإنسان على لوحة طغى عليها اللون الأحمر، ويضعون من اسودت قلوبهم ليوازنوا فنونهم اللا بشرية!
- إن شهادتي هذه. كتبت تحت القلق، والخوف من كل شيء… كانت الحروف تتخلى عني، ولغتي لا تسعفني، وأحيانا أبحث عن حرف أو جملة، وأحاول كتابتها فتفر هاربة؛ خوفاً من هذا النظام المستبد. لا تعرفون كم جملة حذفت خوفاً على أشخاص، وكم مرة ترددت.. وكم مرة تلعثمت.. وكم مرة بكيت حتى السقوط! وأقسم أن بكائي لا يتوقف أبداً، وأنا أكتب، وأيضاً الذي كتب أخرجته قسراً من ذاكرتي، وهو يحاول الهروب الى زوايا دماغي.
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024