اللاذقية في بيت الموسيقار محمود عجان
د. حسام عتال – العربي القديم
في سبعينيات القرن الماضي، كان الطريق بين جبلة واللاذقية طريقاً واحداً ذا اتجاهين، يفصل بينهما خط أبيض كالح؛ بسبب عجلات السيارات، وعوامل الطبيعة، وإهمال الصيانة. مع بزوغ الشمس يمتلئ الطريق بالمركبات الخاصة، وسيارات التكسي، والميكروباصات ناقلة الموظفين، والعمال والناس الذين يذهبون للعمل، أو لقضاء معاملة، أو شراء حاجيات.
لكي يتجاوز سائق الميكروباص العربة أمامه، كان عليه أن يقوم بحركة بهلوانية، حيث تميل العربة بحدة ذات الشمال، بينما السائق يضغط بكل قوة رجله على دوّاسة البنزين، وبكل قوة كفه على البوق القابع في منتصف المقود، ثم يميل ذات اليمين بنفس الحدة، حتى يعود لمساره المستقيم في الطرف المخصص من الطريق؛ لذلك كنت أفضل الوقوف في الممشى بين المقاعد؛ لأني كنت صغير الجسم، ولا أتحمل ضغط وزن جسم الراكب جانبي في المقعد، إن مال عليّ مع كل مناورة من مناورات السائق. وبين الفينة والأخرى تتوقف العربة بإشارة من معلّم مدرسة ابتدائية، لإنزاله على مفرق طريق الضيعة التي يدرّس فيها، أو لالتقاط سيدة بغطاء رأس مبرقش، رفعت له يدها، وهي في طريقها للمدينة، لشراء قطع من القماش، تحيكها ملابس لأولادها الصغار. في مقدمة الباص إلى جانب صورة سعاد حسني، هناك راديو مع كاسيت قد وضع فيه السائق شريطاً لذياب مشهور، وهو يصدح “يابو اردين يابو اردانا..”.
بناء أبيض في الصليبة
وهكذا حتى نصل ساحة الشيخ ضاهر بعد ساعة ونيف، وأترجل مسرعاً خلال السوق القديم، وبعده شارع ٨ آذار حتى أصل الصليبية. هناك بناء أبيض من ثلاث شقق، واجهتها زجاجية تطل على البحر. في الطابق الثاني بيت عائلة زوجة خالي، متوّجة بعميدها الأستاذ الموسيقار محمود عجان. أدخل الشقة من الردهة التي فيها بيانو عليه تمثالان، أحدهما لرأس بيتهوڤن بعينيه الثاقبتين، وشعره المنكوش، والآخر لرأس الأستاذ محمود نفسه بوجنتيه العريضتين، وشعره المنكوش أكثر من رفيقه القابع حده.
من المطبخ تفوح رائحة السكر والفانيليا، إنه الكاتو في الفرن، الحلوى التي اشتهرت به زوجة الأستاذ محمود، والتي حتى اليوم لم أذق ما يضاهيها لذة. في غرفة الصالون أجد خالي على قمة درجات السلّم، بيده فرشاة الألوان، وهو يرسم جدارية من أساطير يونانية على الحائط. على الطاولة في زاوية الغرفة الكتاب الذي يعمل خالي على نشره، ويصر على خطّ صفحاته بقلمه الخاص. في الشرفة الملحقة، بابها مفتوح لإدخال نسيم البحر الطري، هناك أقفاص طيور الكناري، العصافير فيها نائمة، فقد بدأت الشمس بالارتفاع في السماء. تبدأ ابنة خالي الكبري بعزف سوناتا موتسارت رقم ١١على البيانو.
يا إلهي، هذا ما أتيت هنا لأجله: الكتب، والرسم، والموسيقى ههه، والكاتو!
إنها حياته كلها
“تعال حسام تعال عندي”، قال لي الأستاذ محمود خارجاً من غرفة نومه، ما زال في روب الديشمبر الكحلي. جلست جانبه على الأريكة، فأمسك يدي بلطف، “هات لنشوف ما هي أخبارك؟”. أخبرته عن حياتي في دمشق، وعن مدرستي وأصدقائي، وهو منصت باهتمام. “ووالديك؟”، سألني. “هم في حماة، في زيارة لأصدقائهم من عائلة الشيشكلي، لكني لم أذهب معهم”. “لا يهمك”، قال لي ملوّحاً بيده: “هذا (شي شكلي) فقط!”. ضحكت مقتصداً، عارفاً أن هذه لن تكون الطرفة الوحيدة التي سيأتي بها، ثم قلت له: “لم أذهب معهم؛ لأني أفضل أن أمضي الصيف في جبلة، عند بيت جدي، ولكي أذهب للسباحة في البحر كل يوم”. ارتفع حاجباه، وقال: “أنت محظوظ، أنا ابن اللاذقية، ولا أعرف السباحة”. “ممكن أن أعلمك”، قلت له وأنا أغمزه: “لكن فقط إذا علمتني الموسيقى”. توقدت عيناه، وقال: “صفقة مربحة لي، كيف لنا أن نبدأ، سيد درويش أو شيخ إمام أو زكريا أحمد؟ هل تدري أن موسيقى سيد درويش أكثر دقة في تأليفها من موسيقى موتسارت، وأجمل أيضاً، اسمع…”. استمرّ في الكلام عن الموسيقى، كان واضحاً لي أن الموضوع بالنسبة له، وأكثر كلامه عن الموسيقى، إنها حياته كلها، كيانه، جسده وروحه.
أغمضت عينيّ منصتاً، يا إلهي، هذا أكثر بكثير، مما أتيت هنا لأجله، أكثر حتى من طعم الكاتو!
محمود عجان، رائد الموسيقا في مدينة اللاذقية، ولد عام ١٩١٦، وأحب الموسيقى من صغره، فعلّم نفسه عزف الكمان والعود، وبرع فيها. مع أخيه عبد القادر أسس نادي الموسيقى في اللاذقية، وكان له فضل في تثقيف وتعليم جيل جديد الموسيقا، من أولى أعماله لحن موسيقى فيلم “مرفأ اللاذقية”، ثم قام بتمثيل دور ثانوي في فيلم “عمالقة البحار” الذي أخرجه السيد بدير عن جول جمال والعدوان الثلاثي على مصر عام 1960، مثبتاً أنه متعدد المواهب.
من وحي أبي العلاء
عمل مدرساً للموسيقي في دور المعلمين والمعلمات، واستمر في تطوير خبرته بالموسيقا العربية، مضيفاً إليها الغربية الكلاسيكية، حتى أتى عام ١٩٥٧، حيث دُعي إلى مهرجان الشبيبة العالمي في موسكو، بمناسبة ذكرى الفيلسوف والشاعر أبي العلاء المعرّي في معهد تشايكوفسكي للموسيقا. هناك قدّم مقطوعة موسيقية، ألّفها على آلة الكمان، وأسماها “من وحي أبي العلاء”، فنالت استحساناً كبيراً، فدعته إدارة معهد الدراسات الشرقية إلى حفل تكريم خاص، مُنح فيه وساماً خاصاً، وفي اليوم التالي ظهرت صورته مع أخباره في الصحف السوفييتية.
هذا الحضور المتميز في موسكو، كان بداية لعدد كبير من الجوائز والميداليات والتقديرات، فقد كان يحصل على المرتبة الأولى في المباريات الموسيقية، مثل مباريات وزارة الثقافة التي منحته أول ميدالية في العام ١٩٥٩، بعدها بعشر سنوات أعطته الوزارة ميدالية أخرى، بعد فوز فرقته بالجائزة الأولى في مباريات لغناء وتلحين الموشحات. أخيراً في عام ١٩٧٩ قامت وزارة الثقافة بتصوير فيلم وثائقي عن حياته وأعماله الموسيقية.
بعدها عكف على دراسة التراث الموسيقي العربي، صنفه وفنّده ووثقه، وأصدر في عام ١٩٩٠ كتابه الموسيقي الأول، تحت عنوان “تراثنا الموسيقي”، وهو عبارة عن دراسة في الدور، والصيغ الآلية العربية لحناً وتاريخاً وقلباً وقالباً، وبعد ذلك عمل على تأليف كتاب عن الإيقاع وفلسفته، بالإضافة إلى كتاب آخر عن الموسيقا النظرية، ومواضيع أخرى عديدة، تتعلق بالموسيقا بأشكالها وأنواعها.
رائد مجهول وصاحب نكتة
جاهد الأستاذ محمود طوال حياته، في سبيل نشر الموسيقا والثقافة الفنية في جميع المجالات، ولم يتقاضَ أي أجر مادي عن ذلك؛ لأن هدفه الدائم كان نشر حب الموسيقى وثقافتها على مستوى العامة والمختصين. يقول الباحث والمؤلف الراحل “جبرائيل سعادة” في كتابه متحدثاً عن الأستاذ محمود: “ولد محمود عجان في عائلة تضم عدداً كبيراً من هواة الموسيقا، وقد هام بهذا الفن منذ حداثته، وكان صغيراً جداً عندما بدأ يعزف على الكمان والعود، وفي سن الرابعة عشرة عزف أمام “سامي الشوا”، فانتزع إعجاب هذا الفنان المشهور، وكان عليه أن ينمّي معلوماته الموسيقية بنفسه، فعكف على المطالعة والاتصال بالموسيقيين المشهورين خارج اللاذقية، وما لبث حتى اضطلع بقواعد الموسيقا العربية والغربية وتاريخهما، وإلى جانب ذلك كان يلحن قطعاً موسيقية وأناشيد عزف معظمها، ولكن مع الأسف لم تنشر أية قطعة من هذه المؤلفات.
أما مؤلفاته الموسيقية، فأكثر من أن تحصى، خص فيها قوالب التراث من سماعيات ولونغا أغلب أعماله، كذلك اهتم بالأناشيد الوطنية والقومية، ولحّن منها عدداً وفيراً، وعنده غير ذلك مسرحية غنائية ومقطوعات مختلفة”. ويضيف: “وهو حلو الحديث، لطيف في معاملته للناس، وهو عندما يبدأ حديث الموسيقا، تراه وكأنه يغرف من بحر لا يتوقف، ولا يستريح ولا يهادن في علم يعرفه تمام المعرفة، وقد نأى بفنه من أن ينحدر إلى مستوى الملاهي، فالموسيقا بنظره لها محراب خاص، لا يجوز لها أن تغادره إلا لمعابد الذين يتذوقونها، ويفهمونها، ويجيدون الاستماع إليها، وهو في هذا يفرق بين الفن الموسيقي الراقي، والآخر الذي لا يحمل من الفن سوى الاسم”.
صاحب الفضل الموسيقي على اللاذقية
أما الإعلامي عمر شريقي، فيقول عن الأستاذ محمود: “يشرفني التحدث عن الباحث الموسيقي الراحل محمود عجان، كما تشرفت بإجراء عدة حوارات صحفية معه، وحضور جلسات فنية في بيته بمشروع الصليبة، وسط حضور عدد كبير من فناني العالم العربي، وآخر جلسة حضرتها كانت بحضور الفنان صفوان بهلوان، وأقول عن عجان: لكل فن رائد ولكل نهضة متقدم يتقدمها، ويسير أمامها لتصل إلى غايتها، وعلى هذا الرأي فإن الموسيقا العربية لم تعرف بشكلها الحاضر، ولم تصل إلى هذه الدرجة التي وصلت إليها الآن، إلا بعد أن وجد لها رواد شقوا الطريق أمامها، ومهدوا لها سبيل السير، فكان محمود عجان النابغة هو صاحب الفضل في إدخال الموسيقا إلى اللاذقية، وفي بعض الصور التذكارية له كانت واحدة مع الموسيقار محمد القصبجي، وأخرى يكرم في روسيا، ويظهر فيها أنه يبكي، ولما سألته: لماذا تبكي يا أستاذ؟ أجاب: “لأنني أكرّم في بلد غير بلدي”. لقد كان رائداً مجهولاً في ميدان الموسيقا وصاحب نكتة، باختصار كان معجوناً بالموسيقا رحمه الله”.
ترك الأستاذ محمود بصمة خالدة، سيذكره فيها كل المهتمين بالفن والموسيقا في اللاذقية وسوريا. عاش حياة غنية بالموسيقى، مليئة بالنشاطات الاجتماعية، عالية بالأخلاق والفضيلة. فارقنا إلى جوار ربه في عام ٢٠٠٦، بعد أن عاش ما يقارب قرناً من العمل المتواصل المعطاء، رحمه الله وأحسن مثواه.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.