طرابلس مدينة الأساطير
د. فطيم دناور – العربي القديم
لعل المتتبع لكتب التأريخ للمدن الشامية، يلحظ حركة تأليف، نشطت مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حتى يظن المرء أنه لم تبق مدينة إلا وخصها أحد أبنائها البررة بكتاب، يتحدث عن تاريخها وعن كل ما يخصها. ومن هذه المدن طرابلس الشام (طرابلس لبنان)، فقد انبرى أحد أبنائها لهذه المهمة، وهو حكمت بك شريف كاتب المجلس البلدي في المدينة، ومأمور المراقبة 1323م، وهو كاتب وصحفي ومؤرخ من رعيل النهضة الأدبية التي أسهمت في إيصال جملة من المشروعات النهضوية التي كان العالم العربي يتطلع إلى واحدة منها، كما ووصفه محقق الكتاب.
عمل على ذلك مدفوعاً بغيرة الكاتب المتنور النهضوي الذي يستشعر الخطر المحدق بسلطنة، بدأت عوامل الهدم توغل في بنائها، واستفحلت الأمراض في جسدها الهرم، حتى بتر الكثير من أعضاء ذلك الجسد، وكان لابد من البحث عن شطآن جديدة، تؤسس لطرق مبتكرة في الإصلاح والتجديد، وأفضل طريق لطرح الأفكار هو صياغتها في مقالات في السياسة، والاجتماع، والقصة والشعر، والتاريخ، والتاريخ مرآة الأيام، ودافع لهمم من تخلفوا عن مسيرة الأمم خصوصًا أولئك الذين يحفل تاريخهم بالأمجاد والبطولات، من هنا كان اهتمام صاحب الكتاب بالكتابة التاريخية، فألف كتابنا “تاريخ طرابلس الشام من أقدم زمانها إلى هذه الأيام”.
المؤلف
هو حكمت شريف بن محمد بك شريف بن محمد بك شريف بن محمد أمين بك بن حمزة باشا يكن زادة، أمه تركية اسمها عليا هانم، واسم جده يكن يشير إلى انتمائه لإحدى أسر السلاطين العثمانيين، وهي لفظة تركية تعني ابن الأخت، وهو لقب يطلق عادة على ابن أخت ملك أو أمير. وقد خلص المحقق -غير جازم- من مقارنة الروايات التاريخية إلى أن مولده كان عام 1870 في طرابلس، ونهل علومه الأولى علوم العربية والدين بالطرق التقليدية المعروفة في تلك الحواضر، ثم التحق بالمدارس، وأتقن العربية، والتركية، والفرنسية، والأوردية، وحصل على الشهادة الثانوية من إستنبول، ما هيأه ليتبوّأ مناصب عدة منها: باش كاتب المجلس البلدي في طرابلس، ثم رئيس مجلس بلدية اللاذقية، ثم رئيس دائرة الأملاك…ومكنه من مزاولة الكتابة في الصحف، بل تأسيس جريدة خاصة به هي جريدة “الرغائب”.
أقسام الكتاب
أما كتابنا فهو مخطوط يتألف من ثلاثة أجزاء الجزء الأول- وهو الجزء الأساسي الذي يتحدث عن تاريخ طرابلس، ثم الجزء الثاني- الذي يتناول مشاهير طرابلس وأعلامها، أرّخ فيه المؤلف لثلاثة وثلاثين علمًا، أما الجزء الثالث- فهو تكملة للحديث على أعلام مدينة طرابلس، بالإضافة إلى ملحق خاص بالأعلام، وملحق ثانٍ يشتمل على بعض الإحصاءات والجداول. وقد أعاد المحققان السيدة منى حداد يكن، ومارون عيسى الخوري، توزيع المادة، بحيث شكل الجزء الأول متن الكتاب المحقق، ووزع تعريف الأعلام الوارد في الجزأين الثاني والثالث، والملحقين على روضات الكتاب، بحسب ما يقتضيه السياق، ولقد سمى الكاتب أجزاء الجزء الأول، (وهو متن الكتاب الحالي) بـ “الروضات”، وأطلق على فقراتها أسماء الورود مرقمة، كالزنبقة الأولى، والوردة الثالثة، والزر الأول، والمنثورة الأولى، والنرجسة الخامسة، والبنفسجة الثانية… وكأنه استأنس بواقع الخضرة والنضارة في مدينته، فآثر أن ينقله إلى واقع الكتابة تقسيمًا وترتيبًا، وهو نهج لطيف، أضفى على الكتاب شيئًا من الظرافة، رطبت جفاف المادة العلمية.
نهج الكتاب
عمل الكاتب على تغطية تاريخ طرابلس، بدءًا من قيامها حتى عصره، كما أشار عنوان الكتاب، واعتمد في معلوماته التاريخية على كتب التاريخ الموثوقة، التي بيّنها في مقدمة الكتاب، منها تاريخ ابن الأثير، تاريخ ابن خلدون، تاريخ أبي الفداء، تاريخ الإسحاقي، تاريخ دمشق، تاريخ بعلبك… لكن يلاحظ أنه اعتمد كثيرًا على تاريخ سورية، وعجائب البحر لجرجي أفندي يني، اليوناني الذي قدم جده من جزيرة “كورقو” للتجارة، وأجبرته الظروف على الاستقرار في طرابلس، فاستوطن فيها وكان جورجي أحد أحفاده. كما استقى معلوماته من الدواوين، كديوان ابن الرومي، وديوان المتنبي، وكتب الرحلات كرحلة ابن بطوطة، ورحلة الشيخ عبد الغني النابلسي، إضافة إلى كتب السير الذاتية.
حكاية طرابلس
طرابلس مدينة قديمة العهد، تقع على البحر الأبيض المتوسط، تبعد عن بيروت مسافة ميلين، تشتمل على ميناء شهير، أخذ شكل لسان داخل البحر، وأبراج بنيت للمحافظة عليها من هجمات الغزاة، وسميت بهذا الاسم (تريبوليس)، أو (Tripolis) أي المدينة المثلثة، لتألفها من ثلاث محلات: الميناء، شرقي المدينة الحاضرة، والبحصاص، يرويها نهر أبي علي، الذي يشطرها شطرين، ويجعلها مدينة ذات جنان وبساتين، تنتج الليمون والقمح والزيتون والحرير، يضاف الى ذلك القساطل الحديدية التي تجرّ لها الماء من الجبل.
يرجّح أنها بنيت في سنة 700ق م، وتحاك حول نشأتها قصص أسطورية، تقول الأخبار: إنه لما استقرت الممالك الفينيقية، وكانت آنذاك ولاياتٍ ترتبط مع بعضها بروابط الدين والجنسية، رأت أمهات الممالك، وهي: صور، وصيدا، وأرواد ضرورة إقامة دار شورى لمناقشة المصالح العامة المشتركة، فأرادت إنشاء مجلس شورى في موقع محايد، فوقع الاختيار على موقع طرابلس، وكانت ثلاثة أقسام، سُمي كل قسم باسم بلد الأعضاء الذين يقيمون فيه، ويعتقد أن الأعضاء كانوا يحضرون أسرهم معهم، ومع الزمن كثُرت أعداد المهاجرين فعمرت البلدة بهم.
وتتوالى على طرابلس الحكومات والجيوش الغازية من آشوريين وفرس، إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني، لتصبح مدينة في مملكته اليونانية، ثم تنتقل إلى الحكم الروماني، ولم يكن لها ما يستحق الذكر من الحوادث الكلية في العهد الروماني، ولكن لا شكّ أنها كانت تتقلب عليها طوارق الحدثان التي كانت تحدث في مدن سوريا عامةً.
وتفتح على يد الجيوش الإسلامية بطريقة أسطورية أيضًا درامية، لم تكلف المسلمين كبير المشقة، بل فتحت بالحيلة والمكيدة من قبل أحد عمالها العرب الذين اعتنقوا الإسلام، ففتحها وضمها إلى الحكم الإسلامي قبل أن يزورها القائد خالد بن الوليد. وظل يتداولها الولاة المسلمون إلى أن استولى عليها ملك الروم 358هـ، ثم عادت للحكم الإسلامي، على يد الخلفاء الفاطميين، ثم السلاجقة، إلى أن قدمت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام فاستولت على مدنها، فيما تمكن واليها من افتدائها هي وعرقا والجبيل، ولم تُغزَ عنوة كما حصل لغيرها. لكنها تدخل فيما بعد في دوامة حروب الكرّ والفرّ بين المسلمين والصليبيين، وبين ولاة المماليك المسلمين فيما بعد.
وفي كل انتقال لها من يد غازٍ ليد آخر، كانت تتعرض لفظاعات الحروب من ترويع وقتل وسبي ونهب، وتدمير لمعالمها، وحرق لمكتباتها وآثارها وبساتينها، وتغيير لمعالمها بل قد يحدث أن يدمر أحد أحيائها تدميرًا كاملًا، وينقل إلى مكان آخر كما حصل سنة 688هـ، حين أمر الملك المنصور بن قلاوون بدك المدينة حتى الحضيض، ثم بنيت في مسافة نصف فرسخ في وادٍ يقال له “واد الكنائس”، وقد أحرقها النصارى حين استولوا عليها سنة 765هـ، كما دمرها زلزال أصاب الشام سنة 552هـ.
وتدخل طرابلس تحت حكم السلطنة العثمانية على يد السلطان سليم الأول 922هـ، وفي ظل هذا الحكم يتوالى عليها نوّاب يعينون من قبل الحاكم العثماني، ولكنها عانت ما عانته من صراع الولاة، وجشعهم وقسوتهم على الرعيّة، وتمرد الطوائف عليهم كتمرد الدروز سنة 922هـ، وقد تنقلت ولايتها بين الأسر كآل سيفا والأرنأوطي، والطباخ، وآل أرسلان، وآل العظم… ثم دخلت في دوامة الصراع بين إبراهيم باشا والدولة العثمانية، حين توسعت طموحات محمد علي باشا بالاستيلاء على ممتلكات السلطنة في الشام، ثم عادت إلى الحظيرة العثمانية سنة 1256هـ .
وقد جعلها موقعها المميز على شاطئ البحر المتوسط مقصدًا للرحالة: فبالإضافة إلى زيارة ابن بطوطة، قصدها كلّ من الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي، ووصف جوها وتضاريسها وعمرانها والخدمات فيها من أسواق وحمامات وقنوات… وصفًا مسهبًا مشبهًا جمال رباها ومتنزهاتها وهوائها بدمشق الشام، صاغ إعجابه بها وبطبيعتها قصائد جميلة. كما زارها السائح الفرنسيّ الشهير (فولناي)، فكتب عن نظام الإدارة والحكم فيها، ومواردها المالية.
طرابلس الفيحاء
وطرابلس مدينة غزيرة المياه، كثيرة المنتزهات والحدائق والبساتين، والرياض الغنّاء المكللة بأنواع الزهور والرياحين، والأثمار المختلفة صنوان وغير صنوان، ومن أشجارها الحمضيات والمشمش والتفاح والخوخ واللوز والجوز والتوت… ومن حبوبها الحنطة والشعير والذرة والبقوليات، وجميع أنواع الخضروات، تزرع في بساتين يسقيها نهر أبي علي الذي ينحدر من عين المقدم تحت قرية بشرّي، وعليه جسران داخل البلدة، وثلاثة خارجها، وبعد أن يسقي بساتينها ويدير طواحينها، يصب في البحر المتوسط، عند مرج رأس النهر، فاستحقت لقب الفيحاء عن جدارة، وتكثر في طرابلس الحمامات والجوامع، وفيها بيمارستان معدٌّ لسكن الأرامل، وفيها دار الحكومة.
وميناؤها محطة للبضائع التجارية والحبوب الواردة والصادرة لمدينتي حمص وحماة، ويشكل لواءً مقابلًا للواء إسكندرون، تقصده السفن المحملة بالبضائع من شتى دول البحر المتوسط، وكانت أحوالها التجارية في تقدم مستمر قبل إنشاء الخط الحديدي حمص -حماة- الرياق- بيروت. ثم عاودت الارتقاء بعد وصلها بهذا الخط. وفيها مصانع الصابون، ومصانع للحرير والعطور والحلويات، والإسفنج. ومن حيواناتها الأهلية الخيل والبغال والحمير والغنم، ولبعض سكان طرابلس وعكار وحصن الأكراد اعتناءٌ بالخيول العربية، يتفاخرون باقتنائها، وأنواعها كالكحيلة، والسقلاوي، والحمراني، وشويحة، بما يقارب 15 نوعًا، وكل نوع يتفرع إلى أنواع.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن قضاء طرابلس كان يضم ثلاثة أقضية هي: عكار، صافيتا، وحصن الأكراد، ويتبع إدارة طرابلس نواحي: أرواد، وطرطوس، المنية، يدير كل منها مدير مربوط بمركز اللواء.
أما أهل طرابلس فهم ميالون للعلوم والآداب، وقد أنجبت علماءَ أفاضل يُشار لهم بالبنان، وأهلها لطيفو البنية حسان الأخلاق، ألوانهم مختلفة باختلاف أماكنهم، وهم موصوفون بالذكاء والإتقان عمومًا. لسانهم العربي الدارج، وفيهم عدد ليس بقليل أتقن التركية والألسنة الأجنبية.
وقد ذيل الكاتب كتابه بجداول أحصى بها: توزيع ماء طرابلس، دخلها وخراجها، حيواناتها، جسورها، أسماء القرى الملحقة باللواء، حكامها وولاتها منذ الفتح الإسلامي حتى عهد المؤلف بقائمتين: قائمة الأب أغناطيوس الخوري، وقائمة الدكتور عمر تدمري. ثم قائمة ولاة طرابلس في العهد العثماني للمؤلف ذاته.
لماذا مدينة الأساطير؟
لقد أطلقت هذا اللقب على طرابلس لما تبين لي من أساطير حدثت لهذه المدينة:
الأولى: قصّة تأسيسها، ولا يخفى على القارئ الطريقة الأسطورية في تأسيسها، إذ قامت على اجتماع مجلس ثلاثي لثلاث ممالك، وهي صور وصيدا وأرواد، وكيف تكاثرت أعداد المرتبطين بأعضاء المجالس حتى شكلوا قرية، كما سبق وشرحنا.
الثانية: فتحها ودخولها الإسلام على يد (يوقنا)، الذي اعتنق الإسلام، وأوقع بحكامها الروم بحيلة أشبه درامية، فمكن الجيوش الإسلامية من فتحها بأقل الخسائر. وذلك حين أسر الحارث بن سليم مع قومه وإبله، فلما اطمأن الروم إلى وقوفه بصفهم، كمن لهم وأغار على قوتهم على الساحل، ثم دخل المدينة بلباس روماني، حتى إذا استقر في دار الإمارة، أعلن أنه مع الجيوش الإسلامية، وأن المدينة باتت تحت حكمهم.
الثالثة: الحربة المقدسة في عرقة، نقل المؤلف عن صاحب تاريخ سورية السيد جرجي أفندي يني، أنه لما حاصر الصليبيون قلعة مرقة، واستعصى عليهم فتحها، تقدم كاهن من أهل مرسيليا يدعى “بطرس بروتولوني”، وقال: ” إن القديس “أندراوس” جاءه في المنام ثلاث مرات، وقال له: اذهب إلى كنيسة أخي بطرس بأنطاكيا، وهناك بقرب الهيكل الملوكي، تجد الحربة الحديدية التي طعن بها جنب السيد المسيح، مدفونة في الأرض، وأنه بمجرد حمل هذه الحربة أمام الصليبيين يحصل لهم النصر”، ثم تنتخب مجموعة للتنقيب عن الحربة، فلا تجدها، حتى ينزل الكاهن بروتولوني بنفسه ويستخرجها، ويدعي أن من يلمس هذه الحربة لا تضره نار، ثم يتحول الكاهن إلى قديس يجتمع حوله الناس، وتشحن الهمم بهذه الحيلة حتى تفتح طرابلس.
هذه حكاية مدينة تستقر في منتصف الساحل الشرقي للبحر المتوسط، مكّنها هذا الموقع من تجنب الكثير من ويلات أصابت غيرها، ترنو بنظرها إلى البحر، وتسند ظهرها إلى الجبل، وهي لا تزال كما كانت مؤثرة بصمت، وفاعلة بصمت، وعظيمة بصمت، وبهية بصمت.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024