تسييس التاريخ: هل كان ماركس ملهما للاستبداد وسيد قطب منظراً للتطرف والعنف؟
محمد زاهر حمودة – العربي القديم
تصور الكثيرون ممن أرادوا الكتابة عن التاريخ أن تاريخنا وبالذات الحديث منه، قد كُتبت سطوره بسبب فلسفات معينة ونظريات واتجاهات فكرية محددة وضعت الثوابت الصلبة لساسة القرن العشرين، والذين بدورهم وانطلاقاً من تلك المنطلقات النظرية، برروا لأنفسهم تلك السياسات المستبدة وشرعنوا بها جرائمهم وأقاموا الحروب الداخلية والخارجية.
هكذا تصور الغالب الأعم، لأنه التحليل الأسهل للأحداث… ولكن إن بحثنا وقارنا، سنجد أن تلك الثوابت والأسس النظرية لتيارات الساسة وأحزابهم، لم تكن البتة هي من شكّلت الدوافع وأعطت المبررات لكل ما جرى ويجري، وأن ذلك التفسير قد راج لأن تلك الشعارات المعلنة كانت عبارة عن شواهد سهلة المنال للصحافة والباحثين، لتبرير سلوك ذلك السياسي من خلال تحليل خطاباته والاستشهاد بشعاراته التي كان كل دورها هو تعبئة الأنصار من العامة، وخداعهم لينفذوا أوامره، وليدافعوا عن قرارته بحجة أن نواياه مخلصة تصب في خانة المصالح العليا للوطن ولمستقبل الأمة.
لقد كانت غطاءً خارجياً ولم تكن دافعاً حقيقياً، فثمة أشياء أخرى معاكسة تماماً لما كان يُقال في العلن هي التي كانت تقف خلف كل تلك الصراعات والأحداث التاريخية الجسيمة، التي شهدها عالمنا ومن ضمنه منطقتنا وما يزال، ولا ندري إلى متى!
كارل ماركس: هل ألهم لينين وستالين أسس الحكم الشمولي؟
للحدث التاريخي فاعلان، هما الآمر للفعل ومن ينفذه.
لنبدأ بالقادة الذين يأمرون، ولنتسائل، ما هي درجة معرفتهم بما يتحدثون عنه من نظريات؟! يقول المثل “سأله هل تعرفه؟ فأجاب نعم، فسأله هل عاشرته؟ فأجاب لا، قال إذن أنت لا تعرفه”، هذا يلخّص لنا حكاية كل القادة الشعاراتيين، ما مدى معرفة لينين وستالين وماو تسي تونغ الفعلية بكارل ماركس ودوافعه الوجدانية ونظرياته؟! كتب كارل ماركس كل ما كتبه رفضاً للفقر والاستغلال ودفاعاً عن الضعفاء، فهل أوصى بالإستبداد بهم وبحرمان الناس من التعبير التعبير عن آرائهم؟!، هل أباح استغلالهم في الحروب لحماية الديكتاتور؟!، هل أوصى بالحرية لأمة دون أمة أخرى؟!، كثيرة هي تلك الأسئلة، وجوابها واحد، حتماً كلا، فلماذا لا نظن والحال كذلك أن كل مُدّعي الماركسية في شرق العالم المنحوس لم يقرأوا ويفهموا ولو جزءاً يسيراً من فلسفة وتحليل وغايات مما جاء به من يدّعون أنه نبيهم، والذي لأجله أقاموا “الديموقراطية الشعبية” والتي لم تكن سوى دكتاتورية شديدة القبح لا تمت لمبدأ الديمقراطية بأي صلة.
سيد قطب: هل أنجبنت نقاشاته الفكرية التطرف والعنف حقاً؟
لنذهب للإسلامين المتطرفين والتبرير الدائم لتطرفهم بالحجة الجاهزة وهي تأثرهم بمؤلفات سيد قطب، وكأن أحدهم كان منفتحاً على القراءة مُحبّاً للبحث والإطلاع أصلاً، ومن كل ما قرأ لم يعجبه سوى كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب مثلاً، ذلك الكتاب الذي من المعلوم أنه كتبه وهو في السجن وأنه لولا قرار إعدام عبد الناصر له لما اشتهر، وللتنويه فسيد قطب لم يكن شيخاً بل إن عمله كان في التدريس والكتابة الصحفية، شهادته بكالوريوس في الآداب من كلية دار العلوم، وحتى لو كان شيخاً أزهرياً فهذا لا يعني أن ما يقوله له قدسية إلزامية على المسلمين، وأيضاً، سيد قطب من مواليد الصعيد المصري، أي أنه غالباً قد تشرّب منذ طفولته نسبةً من الأعراف القبلية والمفاهيم المتذمتة المغرورة بنفسها والنابذة لثقافة الغريب والتي ماتزال سارية حتى الآن لديهم، في المضمون، وبدون شيطنة وتشكيك في النوايا وبرغم الخلاف معه، نظن أن الدافع لسيد قطب للكتابة هو الغيرة الشديدة على دينه وأمته والتشبث بعقيدته وإحيائها خاصة بعد عودته من أمريكا وما رآه هناك، كحال غيره من الغيّورين على دينهم من مختلف بلاد المسلمين، الذين غالباً ما تصدمهم سلوكيات الغرب الإجتماعية.
وبالتالي فمهما كانت طبيعة خططه التي نظّر لها في كتاباته، فليس منطقياً أن يُفهم من تحريضه ذاك استباحة ابتداع الفتاوى الشاذّة لمخالفة نصوص القرآن المحكمة والأصول الثابتة في الإسلام بحجة نصرة الإسلام!!، وعلى رأسها حرمة ارتكاب الكبائر، ورفض الظلم والنفاق والإستبداد وإلغاء الشورى وعدم الرحمة بالعباد! فإن كانت لغة سيد قطب توحي بأن ثمة صراعاً بين الحضارات، فهو في النهاية مجرد نقاشٍ نظري على الورق، لكن المصيبة تكمن حقيقةً فيمن تزعّم الحركات الإسلامية الجهادية لاحقاً. هؤلاء من أين أباحوا كل جرائمهم واستبدادهم وكراهيتهم العمياء ونبذ منهج الدعوة بالحكمة والاعتقاد بالإكراه في الدين في معاكسة سافرة لنص القرآن المحكم؟!
هل هؤلاء قرّاءٌ مُتدبّرون للقرآن والسيرة النبوية؟!
وهل هكذا يكون القائد المسلم؟!، بل هل هؤلاء مسلمون أصلاً ونحن لا ندري عن سيرتهم سوى أقل القليل؟!، يقول المثل الشعبي “من غاب عنك أصله دلّك فعله”، فانظروا إلى أفعالهم وكم ألحقوا من أذىً لأبناء جلدتهم ولصورة الإسلام، حينها ستعرفون مدى أصالتهم وغيرتهم الحضارية بكل وضوح، أيّاً كان مذهبهم من أهل سنةٍ أو شيعة..
الشيعة السياسية: هل استندت إلى نصوص مقدسة؟!
وبالحديث عن الشيعة، فلنسأل، ماذا استفاد عامة الشيعة من تيار الشيعية السياسية إلا الإنعزال والإستبداد والحروب؟!، مجرد شخصيات مأزومة منتجة للأزمات لا آلية لديها لممارسة سلطة رشيدة سواءً داخلها أو خارجها، ثم هل كانت يوماً النصوص المقدسة هي من توجّه قرارات الفقيه المرشد؟!، أم أن استباحتها كان الدافع الحقيقي لتخبيصاته وهلوساته؟!، إن النفاق والدجل والتقية والباطنية السياسية هي وسائل لإخفاء الحقائق الفاضحة المشينة تحديداً، لأنها تخالف الإلتزام الديني والأخلاقي العام ومصالح أكثرية الناس، سواءً كان ذلك الإلتزام يدّعي الإقتداء بعلي أو بأبي بكر أو بغيرهما، فهو دين واحد وقرآن واحد ونبي واحد، فكم من الشواهد سنحتاج كي ننفي وبشكل تام ونهائي علاقة المنافق السياسي الدجّال بالنص وبالأمة الذي يدعي الإنتساب لها، ابتداءً من اليهود وصولاً إلى باقي الأديان، هذه الآية (٣٢) من سورة المائدة تشهد ببيان واضح جلي، بعد بسم الله الرحمن الرحيم.. “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ”..
إن كان القادة على الأرض مستكبرون مسرفون، فما حال من ينفذ الأوامر؟!
المُنفّذون هم أناس من العامة، فمن باب أولى ألا يكونون مكترثين للثقافة وشجونها وألا يشغلوا بالهم بمعرفة الجغرافيا والتاريخ لتبرير وشرعنة ما يأتيهم من أوامر، لا يكترث العنصر المُنفّذ للتبرير الأخلاقي أصلاً، لسان حاله كما يقول المثل.. “من يتزوج أمي أقول له يا عمي”، المهم أعطه مكاسب، وسينفّذ لك ما تريد، ذلك الحال ليس فقط في قطاع السياسة، بل في كل قطاع الأعمال التجارية وحتى شركات الأعمال الفنية والإبداعية منها، ستجد إن عاشرتهم أن معظم الكوادر الإنتاجية أشباه أميين، لا يكترثون لماهيّة العمل الدرامي الذي ينفذون إنتاجه ولا لأفكار كاتبه، كل القيم الفكرية والمعنوية لهذا الميدان الإبداعي لا تعنيهم، يعنيهم فقط أنه باب رزق يقبضون عليه أجراً جيداً، يكتسبون به علاقات مفيدة مع أناس مشاهير، إن استلزم مشهد ما كومبارس في مسجدٍ مثلاً فسيرتدي الشباب جلابيات ويمسكون المسابح ويضعون لحى، وإن احتاج مشهد آخر لكومبارس في ملهى ليلي سيرسمون وشوماً على رقابهم وأيديهم ويضع بعضهم باروكات أو يحلق أحدهم على الصفر ويرتدون أي ألبسة تناسب المشهد، هم جاهزون لتنفيذ كل ما يُطلب منهم، وكلما أجادوا تنفيذ مسلسلٍ في موسمٍ ما سيكسبون ثقة أكبر لتكليفهم بتنفيذ مسلسل جديد في الموسم التالي وهكذا دواليك، هكذا تسير الأمور، ذات الشيء في المشاريع السياسية الإجرامية، تتقن مهمتك في زمن الأب والعم فيزداد الطلب عليك وتستمر الثقة بك في زمن الإبن وأخيه، هل تظن أن أحداً ممن كان ينفذ أوامر حافظ الأسد وأخيه في سورية ولبنان كان يعنيه أن يعرف من هو حافظ الأسد ومن هو أخيه وما هي جذور تلك العائلة وما خلفية تلك التوجيهات وما إذا كانت أوامر القتل والإعتقال تلك أخلاقية أم وطنية أو مفيدة للصالح العام أم لا؟!، فليحكم من يحكم وليصدر من أصبح رئيساً الأوامر كما يحلو له، سيكتسب عنصر التنفذ مكانته ضمن الوسط الذي يحيا فيه من خلال إجادة التنفيذ والحفاظ على الثقة الممنوحة واقتناص فرصة القرب من حكام البلاد..
ماذا يريد أي إنسان بعد أن يشبّ عن الطوق؟!..
همّه هو أن يجد سبيلاً لتحصيل المال بشكل مجدٍ ومستمر والإرتقاء في سلم الرقي الإجتماعي والتميز بين أقرانه، وكلما جلب مالاً أكثر ازداد النفوذ وأُعجبت به النساء أكثر، وماذا يريد الرجل أكثر من ذلك في هذه الحياة؟!، لن يفتح كتاباً ولن يقرأ شيئاً له علاقة بالقيم المعنوية لبني الإنسان مالم يكن ذلك من مستلزمات وظيفته التي يرتزق منها، وإلا فلا داعي لذلك الصداع المسمى ثقافة ومبادىٔ.
ماذا نستنتج؟!..
نستنتج أن الطموحات المادية والعقد النفسية والاجتماعية للفرد تتناقض مع الطموحات المعرفية والرقي الأخلاقي، فمن كان لديه شغف في الكتابة والإنتاج المعرفي لا يُعقل أن يهتم للمغانم الدنيوية المادية، وأن يُؤلّف كتباً هدفها التنظير لغاية تشكيل عصابات إجرامية في المستقبل أو نشوء نظُم حكم فاسدة مارقة معتدية، من حقه أن يجادل نظرياً بين عقيدتين وأن يقارن بين فلسفتين وأن ينحاز لإحداهما، ولتكن غاية مراده الوصول إلى الإنتصار المعنوي والتفوق الفكري على خصومه، لكن، يحصل أن يتم اقتطاع أجزاء من تلك المؤلفات، تصبح هذه الجمل المجتزأة عبارات جاهزة متداولة منحازة تحقق الغاية للمجرمين، عبارة تبرر القتل، جملة توحي بتبرير النهب، ثالثة تبرر العداء والإعتداء، رابعة تعيب السلام، هكذا يبقى العالم يموج في بحر الدماء والسرقة اللجيّ برياحه العاتية، مالم يوضع حدٌ نهائي يفصل بشكل تام بين عالم الكتب التنظيري ودنيا السياسة وممارسات الرؤساء اللا أخلاقية، وليس عيباً أن يقول المرأ أنه قد خُدع في مرحلة معينة بكلام رئيس ما، لكن العيب كل العيب أن ينشغل بشتم المبادئ التي سهر دعاتها ليالي طوالاً وربما سنين في غرف ساكنة بإضاءة خافتة خلف طاولة خشبية وهم يؤلفون بعيدين عن متع الحياة كالآخرين مبتلين بأرق ثقيل لا يفارقهم حتى يُتمّوا مُؤلَّفهم ويخرجوه للناس عسى أن يقرأه بعضهم، هم أفصحوا لنا عن أفكارهم، أعجبك أم لم يعجبك ما كتبوه كليّاً أم جزئيّاً، لكن إن كنا شهود حق على تاريخنا الراهن، فلنقل الحقيقة كما هي لمن سيأتي بعدنا دونما شماتة مبطنة تجاه الأيديولوجيات، أبسطها أن أقول أنني شخصياً لم ألتقِ في حياتي بموالٍ لا للنظام ولا لمحور المقاومة ولا بذي لحية متأسلم لديه أدنى علاقة بالثقافة ولا بالأخلاق الدينية أو الوطنية أو السمعة النظيفة بحدودها الدنيا المقبولة، وأحسب أنه لم يلتقِ أحدٌ في العالم بحاكم مجرم مجنون بالسلطة وذو أخلاقٍ إنسانيةٍ في آن، فلماذا نغالط أنفسنا ونعطي الحُكّام السفلة شرفاً لا يستحقونه بتصور أنهم يمثّلون قيماً تقف خلف سياساتهم وهي التي تمثل لبَّ المشكلة وسوف تسقط بسقوطهم؟!، كلا، لا علاقة للخميني والخامنئي لا بالحسين ولا بحمزة ولا جعفر، ولا تعرف عائلة الأسد شيئاً لا عن علي ولا عن العروبة، ولا يدرك الجولاني ولا البغدادي ولا بن لادن ولا كل مشايخ “الرز بحليب” مفهوماً واحداً واضحاً من قيم القرآن وسنة الرسول ورشد الخلفاء، كما أنه لم يكن يعرف ساسة روسيا والصين الشيوعيتين شيئاً حقيقياً عن كارل ماركس، ولذلك سقطت شيوعيتهم المتسلطة وكَرِهَهم الناس فمالوا إلى الغرب الرأسمالي برغم معرفتهم ببلاويه، إلا أنهم فضّلوا البراغماتية المعلنة على الموت قتلاً او كمَداً أو السَجن في المعتقل أو في السِجن الكبير بحجة صون المبادئ..
وهل وُجدت المبادئ لكي تحيينا أم لتقتلنا؟!
الشعارات والمبادئ لا تقتل، لكن من يريد أن يتسلّط ويقتل يحتاج للشعارات وللمبادئ ليتغطى بها ويصدّقها السُذّج، لكن
ليس ليصدّقها رواة التاريخ المفترض بهم أن يكونوا شهوداً محايدين موضوعيين!