أحرار سوريا من ردع العدوان إلى الجمهوريَّة الثَّالثة
د. مهنا بلال الرشيد
تحدَّثنا في مقالات هذه الزَّاوية عن حساسيَّة الملفِّ السُّوريِّ ونضوج طبخة التَّحرير الَّتي طبخها الثُّوَّار الأحرار على نيران أكثر من هادئة، وشرحنا قابليَّة هذه الطَّبخة النَّاضجة للحضور على أيِّ وليمة أو مائدة سياسيَّة خلال الشَّهر الأخير من حكم بايدن في أمريكا واستعداده لتسليم مفاتيح البيت الأبيض لدونالد ترامب العائد إليه والشَّاهد على مقادير الطَّبخة في سوريا ومواصفاتها وتقلُّبات نيرانها قبل ثماني سنوات من وقتنا الرَّاهن. كما عرضنا المؤشِّرات الدَّالَّة على زوال حكم بشَّار الأسد وعائلته المجرمة مع شبِّيحة البعث والثَّقافة عنده واستعداد داعميه لمقايضته بأيِّ ثمن؛ لعرضه على في سوق الثَّورة السُّوريَّة وطبختها النَّاضجة على ترامب من الآن وقبل اليوم الأوَّل من أيَّام رئاسته الثَّانية.
والحقُّ أنَّ ثوَّار سوريا وأحرارها قد أنضجوا طبخة التَّحرير منذ 2015، وسيطروا على معظم الأراضي السُّوريَّة، ووصلوا إلى مشارف القصر الجمهوريِّ في دمشق؛ لكنَّ تداخل الملفِّ السُّوريِّ مع ملفِّات حماس وحزب الله والملفِّ النَّوويِّ الإيرانيِّ في ظلِّ تبدُّل رئاسة أمريكا بين الدِّيمقراطيِّين والجمهوريِّين حال دون إعلان الثُّوَّار الأحرار عن موت نظام عائلة الأسد المجرمة، الَّذي يعيش على إنعاش نتنياهو وروسيا وإيران منذ ذلك الوقت حتَّى شرع ثوَّار سوريا وأحرارها المتواجدون في إدلب وحلب بمعركة ردع العدوان وتحرير سوريا من حكم عصابة عائلة الأسد المجرمة في الثَّامن والعشرين من تشرين الثَّاني/نوفمبر، الَّذي سيغدو شهر الأعياد السَّوريَّة المباركة بعدما كان شهر نكبة السُّوريِّين ومصيبتهم بوصول حافظ الأسد رأس عائلة الأسد المجرمة للحكم في سوريا من خلال انقلاب عسكريٍّ قاده قبل أكثر من خمسين سنة.
ظروف إقليميَّة ودوليَّة مواتية
استغرب كثير من المراقبين والمحلِّلين تسارع وتيرة التَّحرير بعد صمود ميليشيا عائلة الأسد لساعات قليلة في يوم التَّحرير الأوَّل على جبهات ريف إدلب الشَّرقيِّ؛ ممَّا دفع بعض المتخوِّفين منهم للحديث عن اتِّفاقات وتفاهمات لا نستبعدها أبدًا؛ لكنَّها لا تدعو للقلق؛ لأنَّ طبخة تحرير سوريا نضجت قبل تسع سنوات كما أسلفنا، وخلال هذه المدَّة الطَّويلة صارت معظم القوى الإقليميَّة والدُّوليَّة تستثمر في القضيَّة السُّوريَّة، ويقدِّم المجرم بشَّار الأسد تنازلاته للجميع؛ لإطالة مدَّة حكمه وعلى أمل حدوث أيِّ طارئ قد يعيد نظام عائلته للحياة بعد موته السَّريريِّ. وفي ظلِّ كلِّ ما يحدث كان المواطن السُّوريُّ يعاني الأمرَّين في مناطق سيطرة عائلة الأسد المجرمة وفي مناطق النُّزوح وبلدان اللُّجوء، وقد وصلت نقمة السُّوريِّين على حكم هذه العائلة المجرمة إلى ذروتها أكثر من مرَّة وفي مناطق سوريا كلِّها، وهذا هو السَّبب الأبرز لتحرير الأراضي الواسعة والمدن الكثيرة بوقت قصير من نظام ميِّت سريريًّا؛ حتَّى مجنَّديه الإجباريِّين غير مستعدِّين للدِّفاع عنه، وصار سكَّان المدن الرَّازحين تحت حكم بعض جنرالاته المستبدِّين يستقبلون بالأرز والزُّهور والزَّغاريد طلائع الثَّوَّار الفاتحين كما رأينا في تحرير حلب.
وقد تعمَّد الإعلام الرُّوسيُّ في صبيحة يوم التَّحرير ومعركة ردع العدوان أن ينشر خبر وصول بشَّار الأسد لموسكو بعدما كان يتحفَّظ سابقًا على زيارات المجرم، ولا يعلن عنها حتَّى عودة بشَّار من موسكو، وهذا ما أجبر بعض الجنرالات في ميليشيا بشَّار الأسد-من ناحية أولى-على تحمُّل مسؤوليَّاتهم وإيثار الفرار والهزيمة أمام جحافل الثُّوَّار المتقدِّمين بدل تلطيخ أيديهم بمزيد من دماء السُّوريِّين؛ ولذلك حُرِّرت حلب والمدن الأخرى دون سقوط الضَّحايا وإراقة الدِّماء، وكشف-من ناحية ثانية-أنَّ أوامر القتل السَّابقة وقصف المدنيِّين بالكيماويِّ والبراميل المتفجِّرة كانت تصدر من بشَّار الأسد ذاته؛ وهذا لا يعفي ضبَّاطه من مسؤوليَّاتهم، بل يجعلهم شركاء الجريمة وأدواتها؛ أولئك الَّذين ينقلون هذه الأوامر، وأولئك الَّذين ينفِّذونها أيضًا؛ ولكن إعلان روسيا عن استدعاء بشَّار إليها صبيحة يوم التَّحرير ووجوده فيها مع انطلاق معركة ردع العدوان كان عاملًا معنويًّا حاسمًا؛ أبقى نفوس ضبَّاط بشَّار الأسد (قائد جيشهم المزعوم) كما هي في الحضيض، ومع أنَّ الثُّوَّار لا يبالون بوجود بشَّار أو عدم وجوده في المعركة أو سوريا فقد عانقت نفوسهم الأبيَّة السَّماء، وشعر كلُّ واحد منهم بنشوة القائد المسؤول، وهم يدقُّون أبواب الحرِّيَّة الحمراء، ويفتحون نوافذها لأهلهم في حلب وغيرها، بعدما عانوا ما عانوا من وطأة استبداد العائلة المجرمة وظلمها الممتدِّ منذ نصف قرن تقريبًا!
تحرير النِّساء والأسرى من المعتقلات
خلال معركة ردع العدوان كنت أتواصل مع كثير من أهلنا القابعين تحت وطأة الظُّلم والطِّغيان في حلب؛ أقارب وصديقات وأصدقاء؛ بعضهم لديه معتقلون أو معتقلات في السُّجون، وبعضهم لديه ما يشبه المعتقلين من المجنَّدين بالإكراه للدِّفاع عن كرسيِّ المجرم بشَّار الأسد، وأخبرني أحدهم باعتقال أخيه؛ لأنَّه شتم بطاقات بشَّار الأسد الغبيَّة وبطاقات زوجته أسماء الأخرس؛ فسجنوه، واستفسر منِّي آخرون عن مستقبل شقيقته أو زوجته المعتقلة؛ فأكَّدت لهم أنَّ الإفراج عنهنَّ جميعًا بات قاب قوسين أو أدنى؛ وأنا الَّذي لا علم ولا سلطة ولا رأي لي في هذا الموضوع، وإنَّما كنت أبوح بما أتوقَّع فعله من كلِّ ثائر حرٍّ وشريف؛ عانى مع أهله وذويه من الظَّلم ما عانوا؛ وفعلًا كان ما توقَّعنا؛ وكم كانت اللَّحظة بهيجة! وكم اختلطت فيها دموع الفرح والحزن معًا حين رأينا المعتقلات الحرَّات الشَّريفات! وهنَّ يخرجن من أبواب الزَّنازن والسُّجون، يركضن، بهذا الاتِّجاه أو ذاك؛ يهربن بعيدًا عن مبنى السِّجن، وسطوة السَّجَّان وظلمه، كنَّا نرى في ركضهنَّ رغبة كبيرة بالخلاص الأبديِّ من ظلم هذه العائلة وسجَّانيها مجهولي النَّسب الَّذين جنَّدوهم من قرى SOS في خان العسل على أبواب حلب.
شبِّيحة البعث وصُنَّاع الأيديولوجيا الثَّقافيَّة
كان تحرير حلب وريف إدلب الشَّرقيَّ والجنوبيَّ حدثًا مفصليًّا في تاريخ سوريا، ولم تنتقل بهجة التَّحرير نحو الجنوب السُّوريِّ حتَّى كشف التَّحرير المبارك شبَّيحة البعث في حلب، لا سيَّما شبِّيحة قسم اللُّغة العربيَّة من صنَّاع الأيديولوجيا البعثيَّة والمتفذلكين بالجمال وهويَّة حزب البعث فوق الوطنيَّة وتحت الوطنيَّة وأشعار التَّفعيلة والتَّعليكة؛ وفي الوقت الَّذي كانت فيه نفوس الشُّرفاء تغلي نقمة على عائلة الأسد المجرمة قبيل معركة ردع العدوان، وفي الوقت الَّذي أعلن فيه الثُّوَّار عن قرب انطلاق معركتهم لتحرير حلب وإدلب أقام الشَّبِّيحة (أصبوحة شعريَّة) في قرية صراع على أطراف البادية شرقيَّ إدلب؛ وكأنَّ الشَّعب المكلوم لم يعتد يحتاج شيئًا غير هراء هذا واستعراض تلك في خيمة على أطراف البادية السُّوريَّة بمناسبة أعياد تشرين أو أعياد انقلاب حافظ الأسد على السُّلطة الشَّرعيَّة في تشرين، إلى حدٍّ صرنا نقول فيه: (فعلًا اللي استحوا ماتوا). ومن المفارقات أيضًا إعلان شبِّيحة حلب من المنقادين لنذير جعفر وسطوته الطَّائفيَّة عن محاضرة يؤدِّيها اثنان من أشهر صنَّاع أيديولوجيا البعث في حلب وغيرها؛ هما: فاروق اسليم وسعد الدِّين كليب؛ وللتَّعمية على قلوب المؤدلَجين والمقموعين ولتربية المريدات كانت هذه المحاضرة بعنوان: (بين الثَّقافيِّ والجماليِّ)، ومع أنَّ الثّوَّار جاؤوا من مدن سوريا المقموعة وأريافها المقهورة كلِّها لمتابعة هذه المحاضرة ظهيرة يوم السَّبت 30 تشرين الثَّاني/نوفمبر إلَّا أنَّ المحاضرَين الشَّبِّيحَين فرَّا، ولا ندري لماذا تركا النَّاس والثُّوَّار دون أوكسيجين وثقافة وجمال ومحاضرات في التَّثقيف والتَّشبيح؛ والمهمَّ أنَّ تحرير حلب لم يُنجز حتَّى كشف بعض أدوار الشَّبِّيحة من رسَّامي أيديولوجيا البعث ومخطِّطيها ومنفِّذيها؛ أولئك الَّذي ظلموا كثيرًا من الطَّلبة والمثقَّفين الحقيقيِّين في مدينة عانى أهلها من القهر والظَّلم أكثر من نصف قرن من الزَّمن.
ركَّبناه وراءنا مدَّ يده على الخُرْج
شكَّك بعض المتابعين بمعركة ردع العدوان لأسباب مختلفة؛ كان من بينها كثرة الإعلان عنها وتأجيلها لدى بعض المتابعين، وتأثَّر بعضهم الآخر بعقلانيَّته الزَّائدة ونضوج حكمة أفلاطون عنده، بينما انصاع آخرون لرواسب من أيديولوجيا البعث ما زالت تسيطر على عقولهم، واستسلم جزءٌ من أدعياء الثَّقافة لعَلَفِ مموِّل أقلامهم ومقالاتهم وتحليلاتهم الخنفشاريَّة، لكنَّ الثَّائرين لم يأبهوا بكلِّ هذا التَّشكيك؛ لأنَّ:
السَّيف أصدق أنباء من الكتبِ في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللَّعبِ
والعلمُ في شهبِ الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السَّبعة الشَّهبِ
ولم تكن المفارقة بتشكيكهم ولا رغبتهم بأموال المموِّل المقنَّعة بالعقلانيَّة بل كانت المفارقة أنَّهم ركبوا موكب معركة ردع العدوان، وراحوا يقطفون من ثمارها بعدما حجب عنهم مموِّلهم بعض العلف، أو هدَّدهم بحجبه، وإن لم ينفِّذوا مخطَّطاته؛ فسيتركهم راجلين في صحراء خلطتهم الفكريَّة المنزوعة بسبب شعير المموِّلين المضروب، ليس هذا وحسب، بل ركبوا الموكب خلف الثَّوَّار في معركة التَّحرير، ومدُّوا أياديهم الطَّويلة إلى خُرج الثَّائر المشغول بالتَّحرير ولا شيء غيره؛ وبعد أن سحبتهم قاطرة الثَّوَّار وراءهم؛ مدُّوا أياديهم الطَّويلة إلى الخرج، ونعموا بثمار التَّحرير، وراحوا يشكرون تلفزيون المواطن الإسرائيليِّ عزمي بشارة على نعمه وتغطيته الفريدة والمجيدة، ولم يأبه بهم الثَّائرون برغم أنَّهم يبيضون في حقول عزمي بشارة وفقَّاست كتَّابه ومثقَّفيه، ويكاكون بين الثّوَّار؛ لأنَّ الثَّوَّار الأحرار لم يثوروا إلَّا ليزرعوا البسمة على شفاه السُّوريِّين على اختلاف آرائهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، والثُّوَّار يؤمنون أنَّه: للنَّاس فيما يهوون مذاهب، وبعض البشر عبد لوليِّ نعمته شاء من شاء وأبى من أبى.
وكذلك لم يكن فتح معركة فرعيَّة لتحرير بعض المناطق شمال حلب حدثًا مفاجئًا بالتَّوازي مع معركة الرَّدع؛ لأنَّ العاشية تهيج الآبية؛ بل كانت المفارقة الأولى ضعف المساهمة من قبل بعض الفصائل في معركة الرَّدع إلَّا ما تسرَّب عن المشاركة الفعَّالة للجبهة الشَّاميَّة، الَّتي رفضت التَّوقيع على فتح معبر أبي الزَّندين قبل شهور قليلة. وكانت المفارقة الثَّانية إطلالة أسامة الرِّفاعيِّ مفتي الجمهوريَّة الحرَّة غير المنتخب وشيخ المجلس الإسلاميِّ فيها؛ ليقطف بعضًا من ثمار هذه المعركة المباركة بعد صمت، ولا ضير في أن يقطف، وينعم، ويأكل من ثمارها، بشرط أن يأكل بصفة مراقب لا بصفة مشرِّع أو صانع قرار.
ماذا بعد؟
دعك عزيزي القارئ من الكلام السَّابق كلِّه؛ سواء راقك أو لم يرقك! وتعال معي نفكِّر بمستقبل سوريا بعد أن حرَّر الثُّوَّار حلب وإدلب وحماة وتلبيسة، وصاروا على مشارف حمص وأبواب دمشق؛ لنتساءل كيف حصل هذا التَّحرير السَّريع؟ وهل هو اتِّفاق واستلام وتسليم؟ ولماذا الآن؟ وماذا بعد؟
طبعًا لم نستبعد مطلع هذا المقال فرضيَّة الاتِّفاق الكامل أو الاتِّفاق الجزئيِّ على التَّحرير أو الاستلام والتِّسليم بغضَّ النَّظر عمَّن اتَّفق؟ ومع من اتَّفق؟ لكنَّ سرعة التَّحرير لم تكن باعتقادنا بسبب الاتِّفاق؛ بل لأنَّ نظام عائلة الأسد المجرمة منهار وميِّت سريريًّا منذ 2015، والنَّقمة عليه من طائفته والقابعين تحت سلطته أكبر من نقمة الثَّائرين عليه، بالإضافة إلى رغبة روسيا وإيران ببيعه في سوق الجمعة قبل نفوقه ومقايضته والخلاص منه وترتيب بعض الأوراق وخرائط النُّفوذ الجاهزة لعرضها على ترامب الصَّادق والموثوق به من روسيا وتركيا ودول الخليج عندما يستلم السُّلطة بعد شهر من الآن تقريبًا، وعندما يستلم ترامب سيكون على عاتقه إحلال السَّلام في الشَّرق الأوسط، وهو الَّذي تعهَّد لناخبيه الأمريكيِّين بذلك أثناء الانتخابات.
إذن أيقن الثُّوَّار وداعموهم المحلِّيُّون والإقليميُّون أنَّهم أمام فرصة ذهبيَّة محلِّيَّة وإقليميَّة لن يجود الزَّمن بمثلها إلَّا في هذا الشَّهر الفاصل بين سلطتين مختلفتين في أمريكا؛ لذلك شرعوا بتغيير الواقع الجيوسياسيِّ في سوريا؛ ودُعموا بالصَّمت على أقلِّ تقدير، ويبدو أنَّ التَّجارب قد حنَّكت قادة الثَّائرين؛ فلم يقطعوا شجرة، ولم يريقوا دمًا خلال التَّحرير؛ ممَّا زاد الثَّقة بهم من المجتمع الدُّوليِّ والفاعلين الإقليميِّين؛ ولم تبق عائلة الأسد المجرمة ضرورة لا لإيران، ولا لشيعة لبنان، ولا لمقاومة حماس، فقد خذلهم بشَّار الأسد جميعًا منذ سنة حتَّى الآن، ونتنياهو الآن مستغنٍ عن خدمات عائلة الأسد المجرمة؛ لأنَّه في أوج قوَّته، وخصومه في أضعف أحواله، وروسيا ذاتها ليست ضدَّ حرص نتنياهو على شعبيَّته داخل إسرائيل، وليست ضدَّ أمن إسرائيل ذاتها؛ فلم يعد المجرم بشَّار ضرورة لبوتين أو نتنياهو. أمَّا العرب فقد آذاهم بشَّار الأسد جميعًا؛ قتل الرَّئيس الشَّهيد رفيق الحريريِّ، وأغرق الأردن والخليج العربيَّ بالكبتاغون والمخدِّرات، وخطب بشَّار الأسد منذ زمن غير بعيد بين القادة العرب، وتحدَّث على مسامعهم عن أنصاف الرِّجال في القمم العربيَّة، ومحا وزير خارجيَّته وليد المعلِّم أوروبَّا كلَّها من الخارطة، وأغرق الشَّياطين في التَّفاصيل، وأغرق مع بشَّار المجرم وعائلته كثيرًا من البشر في أوحال الخنازير ومتسنقعاتها، الَّتي تجيد عائلة الأسد وغلمانها كلَّ أنواع التَّمرُّغ فيها؛ وقبل هذا وذاك: إنَّها دعوات المظلومين، الَّذي ظلموا من هذه العائلة المجرمة، وعانوا من قذارتها في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وتلِّ الزَّعتر؛ والآن ربَّما وجدت دعوة من دعوات المظلومين طريقها إلى عرش الرَّحمن بعد أن:
تفلَّتَتْ من شرور الأرض وانطلقت كالسَّهم يحـــدو بها صدق وإيمان
حتَّى إذا غرقت في النُّور وانقشعت في حضرة القدس آلام وأحـــزان
ألقت إلى حَكمٍ عدل ظلامتـــها فقام للحقِّ عند الله ميــــــزان
لأستجيبنَّ للمظلوم دعــــوته ولو تطاول أزمـــان وأزمــان
فلا تكوننَّ مكتـوف اليدين عـلى عجز وعندك من ذي العرش سلطان
الجمهوريَّة الثَّالثة
أمَّا سوريا في المستقبل القريب؛ فيبدو لي في رؤية شخصيَّة نتيجة تحليلات ذاتية؛ فستكون أشبه بمجموعة فديراليَّات تحت المراقبة غير معترف بها دوليًّا في المرحلة الأولى؛ أو ستكون مجموعة من مناطق النُّفوذ ضمن دولة واحدة؛ وهي:
المنطقة الأولى: منطقة غصن الزَّيتون أو منطقة الجيش الوطنيِّ أو فصائل الجيش الحرِّ في اعزاز وما حولها، المنطقة الثَّانية: منطقة معركة ردع العدوان؛ وتضمُّ إدلب كلَّها وحلب كلَّها ما عدا شمالها الخاضع لفصائل الجيش الوطنيِّ، وحماة وحمص ودمشق، والمنطقة الثَّالثة: تضمَّ درعا والسُّويداء، والمنطقة الرَّابعة: منطقة قسد وحكمها الذَّاتيُّ في شرقيِّ حلب والرَّقَّة ودير الزَّور والحسكة، والمنطقة الخامسة: في اللَّاذقيَّة وطرطوس وأطراف سهل الغاب، ويبقى مستقبل تثبيت هذا الوضع أو ذاك رهن التَّفاهمات الدُّوليَّة وقدرة الفاعلين المحلِّيِّين والإقليميِّين على إقناع ترامب بهذا الحلِّ الدَّائم أو ذاك.
وبقي لنا أن نشير إلى أنَّ عبارة الجمهوريَّة الثَّالثة الواردة في عنوان هذا المقال، والَّتي يريدها السُّوريُّون تعني جمهوريَّة المواطنة أو دولة المواطنة، الَّتي يحكمها العدل والقانون والمساواة، لا دولة قوميَّة لعرق محدَّد بل لأعراق وقوميَّات واثنيَّات كثيرة ومتعايشة سلميًّا في دولة واحدة، وليست دولة دينيَّة يحكمها شيخ أو خليفة أو مرشد مثل إيران؛ بل دولة متحرِّرة أو علمانيَّة بمعنى أدقّ؛ أي يحقُّ لأي إنسان أن يمارس فيها طقوسه أو عباداته أو لا يمارسها؛ فشأن الخلق للخالق، وليس للبشر أو ليس شأنًا للمزاودات الدِّينيَّة بين هذا وذاك. وبعد هذا فإن كانت الجمهوريَّة السُّوريَّة في ظلِّ الانتداب الفرنسيِّ جمهوريَّة أولى، وجمهوريَّة ما بعد الاستقلال جمهوريَّة ثانية؛ فإنَّ جمهوريَّة ما بعد التَّحرير من حكم عصابة الأسد المجرمة هي الجمهوريَّة الثَّالثة، وبين هذه الجمهوريَّات نعثر في تاريخ سوريا الحديث على ملكيَّتين أو مملكتين: مملكة فيصل بن الشَّريف حسين الدُّستوريَّة، ومملكة المجرِمَين حافظ الأسد ووريثه المجرم بشَّار أو سلطة عائلتهم الفاسدة المستبدَّة مع من تحالف معها ولفَّ لفيفها.