الرأي العام

مقامات أمريكية | سنصلح الطرقات اللعينة!

د. حسام عتال

“أصلحي الطرقات اللعينة.”

هذا كان جواب إحدى المواطنات عندما سألتها غرتشن ويتمر، المرشحة الديمقراطية لحكومة ولاية متشغان عام ٢٠١٨، عمّا تريد منها أن تفعله إن نجحت في الانتخابات: “fix the damn roads أصلحي الطرق اللعينة.”

ذهبت غريتشن إلى بيتها، وأمست تفكر في جواب هذه المرأة طوال الليل: أصلحي الطرقات اللعينة! أصلحي الطرقات اللعينة!

أصلحي الطرقات اللعينة ! لم تستطع النوم ليلتها وهي تفكر بما يعاني منه مواطنو الولاية. طرقات متشغان عرضة للتلف السريع بسبب تغير الحرارة الشديد بين الصيف الحار والشتاء القارس. فكرت غرتشن بالأم التي تأخذ أطفالها صباحاً إلى المدرسة في طريقها إلى العمل، وفكرت بالأب الذي يريد الوصول للمطار دون تأخير كي يحضر دورة تدريب في كاليفورنيا، وفكرت بالعامل الذي يحاول الوصول مصنعه قبل بدء المناوبة، وفكرت بصاحب ورشة البناء الذي يجهّز بيوتاً بغرض البيع.

في صباح اليوم التالي قالت غرتشن لمجموعة المتطوعين – مساعديها في حملتها الانتخابية – في اجتماعهم الصباحي، إنها

ستغيّر شعار الحملة الانتخابية.

– ما هو الشعار الجديد؟

– سنصلح الطرقات اللعينة.

– ماذا؟ لا يمكن لا يمكن استخدام كلمات كهذه في شعار الحملة.

هذه رغبة المواطنين، لذلك هذا هو شعاري ومن لم يعجبه ذلك في يمكنه الذهاب إلى الجحيم.

أدرك المساعدون أنها جادة فيما تقول. واستمرت الحملة مع شعارها الجديد “سنصلح طرق اللعينة .” وفازت غرتشن في الانتخابات لتصبح حاكمة الولاية محرزة 52،3٪ من الأصوات – وهذا يُعَّدُ فوزاً ساحقاً بمفهوم الانتخابات في أمريكا.

بعد توليها المنصب، وفي أول اجتماع لغرتشن مع أعضاء برلمان متشغان، أخبرتهم عن خطتها في إصلاح الطرقات. جاءت معارضتها فورية من فريق الحزب الجمهوري، الذي يملك الأغلبية في البرلمان. قالت غرتشن لهم لقد انتخبني الناس بناءً على هذا الوعد، وسوف أحققه مهما كان الثمن، ثم أتبعت “إن أردتم معارضة هذا المشروع فلن أصدّق على أي قانون مشروع تقدمونه، صغيراً كان أو كبيرا”ً نظرت حول الغرفة للتأكد أن الفكرة قد وصلت، ثم وضعت يديها على الطاولة وقالت “ولكن إن شئتم العمل معي، فيمكننا الوصول إلى حل وسط، أنا أصلح الطرقات، وأنتم أخبروني ما الذي تريدونه.”

كانت طلبات الجمهوريين هي توسيع المدارس الخاصة (على حساب المدارس العامة)، وتسهيل رخص حمل السلاح، ودعم هوايات الصيد، بتوسيع المناطق التي يمكن الصيد فيها ورفع الحظر عن بعض الطرائد، وأخيراً تضييق وتحديد الخدمات الطبية المتعلقة بالإجهاض.

قالت غرتشن أنه يمكن لها التعاون معهم بما يتعلق بالأمور الثلاثة الأولى، لكنها لن تضيّق على النساء اللاتي يبغين الإجهاض.

هذا الموقف ليس مستغرباً من غريتشن لانها كانت قد تعرضت للاعتداء الجنسي عندما كانت طالبة جامعية. هذا أمر لن أفاوض عليه ( (no fucking wayكانت طريقتها في إيصال الرسالة كي لاتحتمل إساءة الفهم.

بعد أيام من المفاوضات وصل الطرفان إلى إتفاق، وبدأت حملة إصلاح طرقات متشغان. الآن كثير من الطرقات محددة، أو مسدودة بسبب ورشات الإصلاح، واصبح الناس يشكون من الإصلاحات التي تعيق المرور، لكن بقي هذا مصدر فخر لغرتشن المصرّة بعناد على أنهاء المهمة، فخلال ولايتها الأولى التي امتدت من ٢٠١٩إلى ٢٠٢٢، أنفقت إدارة النقل في ميشيغان سبعة بلايين دولار على مشاريع غطت ١٧ ألف ميل. وفي عام ٢٠٢٣، كلفت المشاريع، التي غطت ٤٠٠٠ ميلا ً من طرق وجسورإضافية بليوني دولار.

التقيت بغرتشن شخصياً عند حضوري لحفلة جمع تبرعات أثناء حملة انتخابها الأولى، وجدتها حادة الملامح كالحدأة، حدة لم نتقصد من جاذبيتها، رياضية الجسم، مقتصدة في حركاتها، تُعّرف عن نفسها باسمها الأول )وكأن الناس لا تدري من هي(، وتصافح بيد حديدية ناظرة مباشرة في وجه من تتكلم معه. تسأل عن أحوال الناس ورغباتهم ومشاكلهم بجمل قصيرة ومحددة، ثم تنصت لهم بانتباه وهم يتكلمون مظهرة تعاطفاً حقيقاً. وعندما يُطلب منها غرضاً تجيب: “نعم أفهمك، أو “اشرح لي أكثر” أو “آسفة هذا شيء لا أستطيع فعله”، أو “لا أستطيع الوعد لكني سأفعل كل جهدي”.

انتُخبت ْ غرتشن لولاية ثانية لأنها أثبتت أنها حاكمة جديرة. انتخبت لأنها صلبة في الأمور المبدئية أو الأساسية، وبراغماتية في الأمور الأخرى مدركة أنه لا يمكن تحقيق كل شئ، كل الوقت، فهي تأخذ ماتراه مستحقاً بعدل، وتتسامح في البقية دون حرمان خصومها مما هم مؤهلون له.

الجالية العربية، بشقيقها المسلم والمسيحي، انتفعت من انفتاح سياسة التعليم وقامت بإنشاء وتوسيع مدارس عربية على مستوى عال، بسبب الدعم الحكومي لها، بالإضافة لمجهودات الأفراد والمنظمات. أما أنا فانتفعتُ لأني استطعت توسيع ترسانتي من الأسلحة التي أحب اقتنائها والتدرب عليها، ومن تعزيز رياضات الصيد الممتعة وتسهيل مرافقها فأضحى المربح مربحين.

لقد تجاوز الحزب الديمقراطي، بغباء ورعونة، غريتشن عندما اختار مرشحته الرئاسة الولايات المتحدة. فقد قام أعيان (ختارية) الحزب باختيار كاملا هيريس، وفرضوها بهنجعية بمناورات خلف أبواب مغلقة، ودون استشارة من أعضاء الحزب وقاعدته الشعبية. غرتشن تتفوق في ميزاتها على هيريس، وقد اثبتت جدارتها في الحكم البنّاء والمعتدل، أما هيريس فتجربتها لا تتعدى كونها المدعي العام وهو منصب قضائي، وحتى في ذلك المضمار لها تاريخ مشبوه في الوقوف مع أصحاب السلطة والمال تجاه جمهور العامة وخاصة ضد المحرومين. لو كانت غريتشن مرشحة الحزب الديمقراطي لما كان السباق بين ترامب وبينها قريبا جدا كما هو الحال مع هيريس الآن. يكفي أننا نحن الواقفين في الوسط، لازلنا لا نعرف ما هو برنامج هيريس الانتخابي لأنه بسبب غياب أي مرشح آخر، لم تضطر لمناظرة أي مرشح ديمقراطي لكي تعلن عن برنامجها، فهي باتت ترمي شعارات فارغة المحتوى مثل: حماية الطبقة الوسطى، وتحسين الاقتصاد، وإعانة الفقراء المحتاجين…

عندما عرفنا برنامج غريتشن – سنصلح طرقات متشغان اللعينة – كان أمامنا تصور واضح لما تريد أن تفعل وكأنه رسم غرافيكي: كيف لنا أن نصوت لهيريس عندما تتحفنا بشعارات خطابية مبهمة أشبه بشعارات حزب البعث، وفي غياب أي برنامج واضح؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى