مسلسل (أغمض عينيك): قصة اجتماعية هادئة وهادفة تذكرنا بوظيفة الدراما
أحمد صلال- العربي القديم
قد تتضاءل الأدوات التي تمتلكها المجتمعات في أوقات الأزمات، وربما تتقلص فاعليتها ويُختزل دورها، لكن الشعوب مع ذلك لا تعدم حيلتها في المحاولة والمقاومة، وتختلف أنماط مقاومتها واشتباكها، وهذا الاشتباك إما أن يكون ثوري سريع -ابن ساعته- يهدف لتغييرٍ مفصلي يبنى عليه بعد ذلك، أو أن يكون اشتباكاً تراكمياً عبر الأعمال المستمرة الصغيرة الكثيرة، وغالب الأحيان لا يُنتظر منه نتائج آنية، ولكنه الأجدى والأكثر تأثيراً في الأمد الطويل على حياة الأمم والمجتمعات.و مسلسل (أغمض عينيك) يأتي في هذا السياق التراكمي.
الدراما كموقف اجتماعي نبيل
تعتبر الدراما إحدى أهم الأدوات التي تمتلكها الشعوب والمجتمعات، والتي عادةً ما يشتبك عبرها المجتمع مع أزماته اشتباكًا تراكميًا طويل الأمد، والاشتباك الدرامي الهادف إنما ينطلق من موقفٍ معياري أخلاقي تجاه الموضوع أو الظاهرة، كما أنه يعكس تصوراً عقلانياً نقدياً، إذ تلتزم الدراما بمسؤولية أخلاقية في الانحياز الكامل لقضايا وحقوق البشر والدفاع عنها، هذا الموقف يُقارب بين أرباب تلك الصناعة والعلماء والمثقفين حين ينحازوا لقضايا وهموم أمتهم ومجتمعاتهم فلا يتعالون عليها، أو ينحازوا لأرباب السلطة والقوة.
والدراما حين تتخذ موقفاً نبيلا وتشتبك مع الشر والقبح لتنتصر عليه كما في (أغمض عينيك)؛ فإنها تخاطب جمهوراً عريضاً شديد التنوع والاختلاف، لذا يُعول عليها كثيراً سواء في عمليات التربية والتعليم والتثقيف، أو حتى الحشد والتوجيه. وقد أدرك رفاعة الطهطاوي مدى تأثير الدراما منذ رؤيته لها أول مرة في باريس في مطلع القرن الماضي، فقال “الدراما فيها تقليد سائر ما وقع، يأخذ الإنسان منها عبرًا عجيبة، لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون: إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها، فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات، فكم فيها من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة بعد “فراغ اللعب” وقد تنصلح العوائد باللعب”.
وفي إطار فاعلية شعوب الأمة ودورها تجاه التحديات التي تواجهها، تتناول هذه المقالة الدراما “الهادفة” التي قدمها نموذج مسلسل (أغمض عينيك) المختلف عن السائد، باعتبارها محاولة دائمة للاشتباك الجاد والصادق مع أزمات وتحديات حقيقية تعاني منها المجتمعات العربية اليوم، ومجتمعنا السوري أولا
قصة اجتماعية وتقاطعات درامية
المسلسل طرح موضوعا حساسا وهو ما استلزم تقديم شخوص يتعاملون مع أحداثه بواقعية بعيدا عن الافتعال الدرامي أو الأدائي. في حكاية المسلسل نحن أمام الطفل جود الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات ويعاني من طيف التوحد، ولديه صعوبات في التواصل بينه وبين محيطه. وهي الذروة الدرامية الكبرى التي يوجدها كاتبا النص لؤي النوري وأحمد الملا والتي تتمحور حولها معظم أحداث المسلسل. لكن الكاتبين أوجدا المزيد من الذرى الدرامية التي زادت جرعة الألم وتاليا التشويق الدرامي، فالأب يهجر الأسرة وهذا ما يزيد من صعوبة الظرف الذي يواجه الأم حياة (أمل عرفة) والطفل جود (زيد البيروتي).
يفجّر النص ذروة درامية حاسمة ومفاجئة جديدة تتمثل في رفض والد الأم أبوالرجا (فايز قزق) مباركة زواج ابنته ومن ثمة عدم تقبل ابنها لتعيش زوجته أم الرجا (منى واصف) تناقضا بين رغبتها في احتضان ابنتها وحفيدها وعدم مخالفة رغبة زوجها وبين احتضان ورعاية حفيدها بعد أن تقطعت به السبل وكان في مهب الريح وقريبا من إرساله إلى ملجأ للأطفال.
ولا يقف النص عند هذه التقاطعات الدرامية بل يقدم في مساره الحكائي المزيد من التصعيد الدرامي، حيث تتورط الأم بجرم وظيفي في الصيدلية التي تعمل بها وتدخل السجن لتنفيذ عقوبة جنائية لمدة خمسة عشر عاما، ليصبح مصير الطفل في مهب الريح، في عقدة درامية هي الأهم في كل المسلسل. فبحكم القانون ستكون الحضانة للجدة التي لا تمانع في حضانة حفيدها بعد سجن ابنتها لكن الجد يرفض، ليكون الحل بقبولها الحضانة أمام تعهد أصدقاء للعائلة برعاية الطفل خاصة المدرس مؤنس (عبدالمنعم عمايري) الذي فقد زوجته وابنه في حادث سير، ليجد في الطفل جود ملجأ له من آلامه التي يعيشها وطاقة أمل تعيد له نبض حياته الذي بالكاد يعيشه في دوامة أحزانه.
وتسير أحداث المسلسل بهدوء وانسيابية متصاعدة، فلا أحداث مفاجئة تحمل تفجرا في سير الأحداث ولا عنف فيه، بل أحداث متتالية تحدث في المجتمع الحقيقي الذي يعرفه الناس ويحيط بهم. ولعل هذا ما شد الناس إليه، إضافة إلى التعاطف مع الطفل ووالدته في مصيرهما المأزوم الذي يواجهانه.
شخصيات صعبة وممثلون بارعون
متقلبة بين هموم الحياة والسجون، تجسد أمل عرفة دور “حياة”؛ومثلما يقول محمود درويش”ونحن نحب الحياة، إن استطاعنا إليها سبيلا”؛ تجسد عرفة دور الأمومة في أقصاها، حيث الحب الذي يحارب الكراهية، والخوف الذي يتربص في حياتنا في مقابل أمان مفقود. تقدم أمل عرفة في هذا العرض دور نسائي رفيع المستوى.
الكبيرة منى واصف؛ سيدة الشاشة الصغيرة الأولى في سوريا، وربما في الوطن العربي أيضاً. أم رجا تطبق المثل القائل”ما أغلى من الولد إلا ولد الولد” قتقدم أداء من صنف الحجارة الكريمة. ورغم الخوف الذي تعيشه الشخصية تمنح الحب والجمال والحياة لمن حولها… رغم الخوف من القلب الأسود “لزعّاق الدراما السورية” فايز قزق، هنا بعد صمت طويل وتأجيل للمعركة التي لا مفر منها، يعلو صوت منى واصف القوي المتهدج الدافئ في وجه الكثير من العبوس والانكماش المبالغ به لمحاولة ترجمة الحقد الداخلي لقزق الذي هو فنان في سبيل رغيف الخبز.
المسلسل يجعل من أمل عرفة ومنى واصف نموذجين للحبّ غير المشروط، المعزز برابط الدم، من دون تعميم القاعدة. فالجدّ مسلوخ العواطف رغم هذا الرابط؛ عاش ومات طافحاً بالسواد. عاملُ الدم يروي الجذور، وأحياناً يورّثها اليباس والسموم.
بنبل محرر من الروابط؛ يقدم عبد المنعم عمايري، الشخص الذي يحرر معادلة الحب والعطاء من أي تأطير؛”مؤنس” يؤنس عيشة “جود”، الذي لا تربطه معه قرابة دم، هذه القرابة غير الفيزيولجية تكون تعويضا لجود عن العائلة، نموذج جد إنساني عن التفاني، وإن كان مؤنس في نيته بريء، ولكن يخلو الأمر من حاجة مؤنس أيضاً، من أن يجعل هذا في نطاق الحاجة إلى التعويض بعد فقدانه لولده في حادث سير.
الطفل زيد البيروتي والشاب ورد عجيب، بدورَي «جود» المتوحد في زمنين؛ كلاهما موهوب. مُوفق المسلسل بلعبة الزمن، فلا يحصُر المعالجة بطفولة المتوحدين، بل يوسعها إلى المرحلة الجامعية الحساسة على مستوى التواصل والمواجهة حين يكثر المستغلون. أغنيات فيروز في الخلفية إعلان تغليب الدفء على الصقيع المتمادي… كل هذه التفاصيل ينسجها مؤمن الملا، المخرج الحساس المولع بدفء الحكايات.