بين دولة التربية وسلطة الترويض: هل يمكن تربية الفرد في ظل توحش السلطة؟
أحمد برقاوي– العربي القديم
“ لا أمل للعرب إلا إذا انتصر الفضاء وانهزمت الحظيرة.“
لن أدخل في دقائق علم التربية بوصفه علماً يُدرس في الجامعات، بل سأنطلق من المعنى الفلسفي لتربية الإنسان، التربية التي تنقله من مستوى وجوده البيولوجي الى مستوى وجوده الثقافي – الإنساني. وأمر كهذا لا يرتبط فقط بالأسرة والمدرسة والجامعة، من حيث دور هذه المؤسسات جميعها كمؤسسات تعلم الكائن ما لا يعرفه، فحسب،وإنما مرتبط بالدولة والسياسة والمجتمع ووسائل الاتصال المختلفة أيضاً.
إستراتيجية لخلق نمط حياة
والتربية بهذا المعنى استراتيجية لخلق نمط حياة قائم على الاعتراف بالحق في الوجود الحر، وفي الوقت نفسه الاعتراف بحق الآخر في هذا الوجود. ولا يمكن للتربية أن تغدو استراتيجية لخلق هذا النمط من الحياة، إلا إذا كانت ماهية الدولة هي الحرية. في دولة الحرية تنتصر التربية، وتتحول كل المؤسسات التي تعيد إنتاج الكائن الإنساني محصناً بقيم الحق والاعتراف، إلى مؤسسات تربية. والدولة الإنسانية تعمم قيمها الإنسانية مجتمعياً، ويقوم المجتمع بتعميمها فردياً وهكذا.
بكلمة واحدة؛ إن تربية الفرد مستحيلة دون أنسنة السلطة بكل أشكالها، السياسية والأخلاقية والدينية والتعليمية إلى الأسرية. وأنسنة السلطات لتحويلها إلى أداة تربية تعني تغيراً في ماهيتها. والإنسان الذي صار ثمرة تربية ثقافية وإنسانية وأخلاقية وجمالية ومعرفية، يكون قادراً على أن يورث هذا كله بحيث يصبح المجتمع كله مدرسة للتربية.
إشاعة الخوف والخنوع والتسليم بواقع الحال
وعلى النقيض من سياسة تربية الإنسان، تكون سياسة الترويض. فالترويض عملية يقوم بها الإنسان لإخضاع الحيوانات وحملها على القيام بأعمال ليست من طبيعتها، ولا يكون ترويض إلا باستخدام العنف والتخويف والترهيب. وفي شبه الدول حيث التسلطية الدكتاتورية تنظر السلطة إلى الناس على أنهم حيوانات قابلة للترويض، والقيام بعملية الترويض هذه بكل أدوات القوة والسيطرة والعنف. تنظر السلطة الدكتاتورية إلى الإنسان بوصفه خطراً عليها، إذا توافر على حريته وكرامته ولقمته ومعرفته المؤسسة لتفكيره السليم.
وبالتالي تقوم سياسة الترويض على سلبه كل هذا، ليتحول إلى عبد خانع ذليل وباحث دائم عن اللقمة.هذه السياسة الترويضية تطلبت من دولة السلطة التسلطية أن تحشد كل أدوات عنفها، من العنف المادي كالسجن والقتل وكمّ الأفواه، إلى أدوات العنف الأيديولوجية في الإعلام والمدرسة والثقافة، وانتهاء بالعنف الاقتصادي لتحقيق سياسة الحرمان وحمل الناس على البحث الدائم عن سبل توفير اللقمة والسعي وراءها. والقصد من وراء هذا كله، إشاعة الخوف والخنوع والتسليم بواقع الحال والاستسلام له. يتحول المجتمع المروض في دولة السلطة الدكتاتورية – العسكرتارية، إلى سيرك كبير تقوم فيه الحيوانات بحركاتها كما يشير إليها المروض… فالقسوة التي تستخدمها السلطة المستبدة لترويض الإنسان، لا تختلف أبداً عن سلوك المروض لحمل الأسد في السيرك على القيام بحركاته خانعاً لإرادة العصا وتوجيهها. وقد تنجح الدولة التسلطية في ترويض جيل من المجتمع فترة من الزمن، وتجعل أفراد المجتمع جثثاً تمشي على أقدامها خانعة ذليلة تفتش عن اللقمة فلا تجدها، وتسبح بحمد جلادها المروض.
تجميل صورة المروض الأول!
تحرس هذه الحال بجمهور من العسس، المخبرين، ومجموعة من القتلة والمجرمين، وبأدوات من الكائنات التي تجمّل صورة المروض الأول وتشكره على ما هي عليه من الذل والخنوع والجوع. لكن الحياة كما قال هرقليطس نهر، والمرء لا يستطيع أن يستحم في ماء النهر مرتين، والإنسان عقل وحرية وحاجات في حقيقته. وأجيال جديدة لديها آمالها وكل العالم صار في متناول عقلها ومعرفتها، فما عادت سياسة الترويض قادرة على حملها على أن تعيد سيرة الجيل المروض فيكون عندها الانفجار.
لا تدرك السلطة الدكتاتورية الفاسدة، الخطر المدمر لسياسة الترويض على الحياة والمستقبل، على المجتمع والإنسان، فتوفر كل أسباب الانفجار المجتمعي، من جوع ونهب وفساد وقمع جسدي وقمع روحي، والسلطة هذه التي وفرت كل أسباب الانفجار ستنهزم أمامه لا محالة، مخلفة وراءها دماراً يحتاج إلى أجيال لإعادة بناء مجتمع التربية الإنسانية.
لا أمل في خروج العرب من الكهف إلا إذا انتصرت أخلاق التربية الإنسانية وانهزمت أخلاق الترويض. إلا إذا انتصر الفضاء وانهزمت الحظيرة.