العربي الآن

اللامركزية في سوريا: بين الطرح النظري والرفض الشعبي

مطلب "اللامركزية" من قبل قسد يُقرأ من قبل كثيرين على أنه مطالبة بشرعنة كيان شبه مستقل بحكم الواقع، لا مشروعاً سورياً جامعاً.

خليل البطران – العربي القديم

تُطرح اللامركزية اليوم في السياق السوري باعتبارها حلاً إدارياً لأزمة مزمنة في بنية الدولة، ووسيلة لتنظيم العلاقة بين المركز والمحليات بعد أكثر من خمسين عاماً من النظام المركزي الصارم الذي رسّخ السلطة بيد مؤسسات الدولة في دمشق، وجرّد الإدارات المحلية من أي قدرة حقيقية على اتخاذ القرار أو إدارة شؤونها الذاتية.

لكن، ورغم الحاجة الواقعية لإصلاح هذا الخلل البنيوي، فإن طرح “اللامركزية” اليوم، وفي ظل ما تعيشه سوريا من تشظٍّ سياسي وجغرافي، يُقابل برفض واسع من قبل الحكومة، ومن قطاعات كبيرة من الشعب السوري، الذين يرون في هذا الطرح تهديداً مباشراً لوحدة البلاد، ومحاولة لتثبيت سلطات الأمر الواقع، لا لتفكيكها.

أولاً: اللامركزية كنظرية

في السياق النظري، اللامركزية تُعد إحدى أنماط إدارة الدولة، وهي تتراوح بين لا مركزية إدارية محدودة تسمح للمحافظات والبلديات بتسيير شؤونها اليومية، وبين لا مركزية سياسية أو حتى فيدرالية تعني وجود سلطات محلية لها صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة نسبياً.

الكثير من الدول تبنّت صيغاً مختلفة من اللامركزية كوسيلة لتقريب القرار من الناس، وتحقيق تنمية متوازنة، وتخفيف العبء عن الدولة المركزية. لكن، في الحالة السورية، اللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل أصبحت عنواناً حساساً مرتبطاً بالصراع القائم، وتوزع مناطق النفوذ، والولاءات الخارجية.

ثانياً: لماذا ترفض الحكومة السورية اللامركزية الآن؟

1.     التخوف من المساس بوحدة الدولة

الحكومة ترى أن طرح اللامركزية، في ظل تعدد سلطات الأمر الواقع (قسد في الشمال الشرقي، فصائل المعارضة في الشمال الغربي، مجموعات محلية في الجنوب…)، هو مدخل غير مباشر لـ تقنين الانقسام القائم، لا لمعالجته.

ومن ثم، فإنها ترفض أي طرح يُمكن أن يُفسّر بأنه اعتراف بشرعية هذه السلطات.

2.    الارتباط بالمشروع الأمريكي – الكردي

الطرح اللامركزي الذي تتبناه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مدعوم بشكل مباشر من واشنطن، ويأتي في سياق تجربة “الإدارة الذاتية”، التي تنشط خارج سلطة الدولة وتُقيم نظام حكم مستقل فعلياً.

الحكومة تعتبر هذا الطرح محاولة لفرض أمر واقع سياسي عبر غطاء إداري، وهو ما ترفضه بشدة.

3.     غياب بيئة سياسية مستقرة

من وجهة نظر الدولة، لا يمكن النقاش في شكل إدارة البلاد (مركزية أو لا مركزية) قبل استعادة السيادة على كامل الأرض، وبناء مؤسسات وطنية موحّدة، وطيّ صفحة النزاع.

أي نقاش قبل ذلك يُعد، في نظرها، سابقاً لأوانه وقد يحمل مخاطر تفكيك الكيان السوري.

ثالثاً: الرفض الشعبي… لماذا لا يتبنى السوريون اللامركزية؟

بعيداً عن موقف الدولة، فإن غالبية الشعب السوري – خاصة في مناطق سيطرة الدولة – لا تنظر إلى اللامركزية اليوم كأولوية، بل تتوجس منها للأسباب التالية:

الخبرة السيئة مع تقسيم مناطق النفوذ

عاش السوريون تجارب مريرة مع تقاسم السلطة بين قوى الأمر الواقع، في مناطق مختلفة من البلاد، ورأوا كيف أدى غياب الدولة إلى:

  • تعدد المرجعيات الأمنية والعسكرية.
  • فوضى إدارية وتشريعية.
  • فرض إيديولوجيات ضيقة أو أجندات خارجية على السكان.

ومن هنا، فإن كثيرين يرون في اللامركزية اليوم بوابة لتكريس هذه الفوضى، وليس إنهاءها.

الربط بينها وبين المشروع الكردي الانفصالي

رغم محاولات قسد تقديم نفسها كـ “مشروع وطني سوري”، إلا أن خطابها وممارساتها على الأرض – بما فيها فرض منهاج تعليمي خاص، وتشكيل مؤسسات شبه دولة – جعل كثيراً من السوريين ينظرون إلى مطالبها في اللامركزية كـ غطاء لمشروع انفصالي مقنّع.

الخشية من تفكك الهوية الوطنية

اللامركزية، إن لم تُبْنَ على قاعدة المواطنة والدولة الواحدة، قد تتحول إلى تقاسم مناطقي وهوياتي للسلطة، وهذا ما يتعارض مع تطلعات السوريين لاستعادة وحدة الدولة، وبناء نظام حكم عادل يعامل جميع المواطنين على قدم المساواة، بغض النظر عن العرق أو الدين أو المنطقة.

رابعاً: من يطالب باللامركزية فعلياً؟ (قسد كنموذج)

قسد – التي تمثل الذراع العسكرية والإدارية لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD – هي الطرف الأبرز الذي يدفع باتجاه اعتماد نظام لا مركزي موسع في سوريا، وقد طرحت منذ سنوات مشروع “الإدارة الذاتية الديمقراطية” كصيغة للحكم.

لكن:

هذا المشروع طُبّق في مناطق تفتقد التوافق المجتمعي.

لم يحصل على قبول من المكونات الأخرى، لا عربياً ولا آشورياً ولا عشائرياً.

يترافق مع وجود عسكري مدعوم من قوة أجنبية (الولايات المتحدة).

ويفرض بنية مؤسساتية منفصلة عن الدولة، مما يُضعف مصداقيته كطرح وطني جامع.

ومن ثم، فإن مطلب “اللامركزية” من قبل قسد يُقرأ من قبل كثيرين على أنه مطالبة بشرعنة كيان شبه مستقل بحكم الواقع، لا مشروعاً سورياً جامعاً. وما يزيد من الريبة ويثير التساؤلات بعمق هو إصرار قسد على تبني نظام اللامركزية الموسع في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها سوريا، وسط التشظي والدمار الكبيرين اللذين استمرّا لأكثر من 14 عاماً، خصوصاً وأنها تسيطر على ثلاث محافظات تشكل أقلية فيها وتحظى بحماية أمريكية، وهذه المحافظات تضم معظم الثروات السورية من النفط والثروات الباطنية والزراعية والمائية والحيوانية.

ومطالبة قسد، من خلال اتفاق 10 مارس، بأن تكون الفيلق الوحيد العسكري في منطقة الجزيرة أو على الأقل في الحسكة، تعني سعيها إلى توحيد السيطرة على المنطقة وثرواتها، وكأنها تريد حكم ذاتي موسع تحت إشراف الدولة، مما يعزز قبضتها على الموارد.

في هذه المحافظات، والتي يشكل أهلها العرب الأغلبية، عاش السكان تجربة امتدت لأكثر من 12 إلى 14 عاماً مع قسد التي ركّزت كل هذه الثروات والصلاحيات بيد كوادرها، محرمة السكان من أبسط حقوقهم، بل تقوم بتصدير الموارد إلى الخارج في حين يعاني معظم أبناء هذه المحافظات من نقص في حاجاتهم الأساسية، خصوصاً في فصول الشتاء القاسية.

ويقول البعض إنه إذا كانت قسد في السابق لم تقدم شيئاً لهذه المناطق، فكيف سيكون الحال إذا مُنحت شرعية رسمية من الدولة، إذ من المرجح أن تتضاعف الممارسات السلبية التي كانت تُمارسها في السابق.

خامساً: هل يعني ذلك رفض اللامركزية إلى الأبد؟

ليس بالضرورة.

اللامركزية – كنظام إداري – قد تكون خياراً سليماً في المستقبل، بشرط:

أن تأتي بعد استعادة وحدة البلاد.

وأن تُبنى بتوافق وطني واسع.

وأن تُضبط بنص دستوري واضح يحدد صلاحيات المركز والمحليات، دون المساس بسيادة الدولة.

لكن المطالبة بها اليوم، وقبل أن تُحلّ القضايا الأساسية (السيادة، السلاح، الهوية الوطنية، وحدة المؤسسات…)، تعني ببساطة التفاوض على شكل الدولة وهي مقسّمة، وهذا ما يرفضه السوريون بطبيعتهم.

بيان شخصي

بكلِّ وضوح، ومع كامل احترامي للجهود والأفكار التي تُطرح بخصوص النظام اللامركزي كخيار لإدارة شؤون البلاد، أود أن أعبّر عن موقفي الشخصي الرافض لتطبيق أو تبنّي أي صيغة من صيغ اللامركزية في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة التي تمر بها سوريا.

إنّ طرح اللامركزية الآن، في ظل هشاشة الدولة، وتعدد مناطق السيطرة، وغياب المؤسسات الموحدة، وافتقار السلطة المركزية إلى أدوات التنفيذ والرقابة، لا يمكن قراءته إلا على أنه مجازفة سياسية وإدارية قد تؤدي إلى نتائج عكسية.

لقد تابعنا نماذج إقليمية قريبة منا، أبرزها العراق، الذي أُقر فيه نظام فيدرالي في لحظة انهيار الدولة المركزية. وكانت النتيجة تعميق الانقسام، وظهور كيانات شبه مستقلة، وتنافس على الموارد، وسلطة محلية غير خاضعة فعلياً للدولة. لا أريد لهذا السيناريو أن يتكرر في سوريا.

أنا لا أنكر أهمية إصلاح بنية الدولة الإدارية، ولا أنفي الحاجة مستقبلاً لإعادة النظر في طريقة توزيع الصلاحيات والثروات والوظائف بين المركز والمحليات، لكن هذا يجب أن يحدث بعد استعادة الدولة لعافيتها، لا في ظل ضعفها.

أؤمن أن أولوية السوريين اليوم هي إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وتثبيت وحدة القرار السيادي، وتجاوز آثار الحرب والتشظي، وإعادة تكوين الهوية الوطنية الجامعة. وما لم تتحقق هذه الشروط، فإن أي حديث عن توزيع الصلاحيات قد يتحوّل إلى تفكيك إضافي، بدل أن يكون طريقاً للإصلاح.

لهذا، أرفض طرح اللامركزية الآن، وأعتبر أن مكان هذا النقاش هو ما بعد المرحلة الانتقالية، عندما تستقر البلاد، وتتوفر البيئة السياسية والمؤسساتية الضامنة، وعندها فقط يمكننا التوافق على الشكل الأنسب لإدارة الدولة بما يحقق العدالة، ويعزز التنمية، ويضمن وحدة سوريا أرضاً وشعباً ومؤسسات.

أدعو إلى التمهل، وإلى عدم تحويل النقاش حول إدارة الدولة إلى صراع سياسي أو مادة استقطاب. اللامركزية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة. وإن أُسيء توقيتها، تحوّلت من وسيلة بناء إلى أداة تفكيك.

والله من وراء القصد..

زر الذهاب إلى الأعلى