الرأي العام

مقامات أمريكية | فوائد الفوضى وشجاعة الإسراف

د. حسام عتال

أعدَّ محسن سندويشة الهمبرغر، لفّها بالورق اللمّاع، ورماها في سلة القمامة. أعدَّ سندويشة أخرى، هذه المرة بقطعتين من اللحم، ورماها في سلة القمامة. أعدَّ ثالثة ورابعة وخامسة، بكميات مختلفة من قطع اللحم، مع أو دون شرائح البيكون (غير حلال)، ورماها في سلة القمامة. ثم أعدَّ سندويشة دجاج، ورماها في القمامة.

“الآن جاء دورك” قال لي “أرني كيف تصنع دوبل همبرغر”.

محسن رجل اسمر قد انحسر شعره لنصف رأسه، وله سوالف طويلة، فأصبح يشبه مظفر النواب، لكنه لا يتقن صناعة الشعر.  هو مدير مطعم الهمبرغر السريع (وينديز)  في المدينة الصغيرة من ريف ولاية أيوا، كان قد أتى إلى الولايات المتحدة بغرض الدراسة لكنه ترك الجامعة لصالح العمل الحر “هكذا أفضل… لا مصلحة في الدراسة” قال لي بلهجته الحلبية العميقة.

كنت قد وصلت الولايات المتحدة منذ أسبوعين وبحاجة للعمل كي أعيل نفسي حتى أنتهي من فحوصي التي ستؤهلني للاختصاص الطبي. ورغم القوانين التي تمنع الطلاب من العمل، سمح لي محسن بالعمل في مطعمه بكل رحابة صدر وكرم، “نحن السوريين بعضنا لبعض” قال لي وهو يربت على كتفي.

السندويشات التي رماها في القمامة كانت طريقته في تدريبي على صنع الهمبرغر، وقبل أن أبدأ بدوري في صنع السندويشة سألته إن كان لي أن آكلها بدلاً من رميها في القمامة. وافق، بشرط أن أجيد صناعتها.

وضعت أربعة شرائح من مخلل الخيار على قطعة الخبز السفلية، ودهنت قطعة اللحم بالخردل مراعياً ان يغطي سطحها بالكامل (طعم الخردل أطيب وهو ساخن، كان محسن قد أخبرني).  فوق اللحم وضعت شريحة البندروة في المنتصف تماما، ووزعت فوقها بتأن عدداً من قطع البصل.  قطعة الخس كانت كبيرة وغير منتظمة الحواف فقسمتها قبل أن أضعها فوق البندورة كي لا تخرج عن حواف السندويشة. دهنت قطعة الخبز العليا بالمايونيز مراعياً تغتيطتها بالكامل بسماكة مليمتر واحد، كما فعلت قبلها بالخردل فوق اللحم (المايونيز أطيب طعمة بارداً، نصيحة أخرى من محسن).  وضعت القطعة العليا من الخبز كي توافق موقع السفلى بالضبط، ثم لففت السندويشة بالورق اللمّاع فأتت أطراف الورق بزوايا حادة ومتوازية مع نظيرتها.  رفعت يدي عن طاولة العمل ونظرت إلى محسن، زاماً شفتاي، معتزاً بعملي.

أمسك محسن السندويشة وألقاها في سلة القمامة مقلداً حركة لاعبي السلة عندما يسدّدون كرتهم في السلة.

“ماذا!”  احتججتُ.  “ألم تعدني بأن آكلها؟”

“ليست جيدة” أجابني.

“ما الخطأ فيها؟”

“مرتبة وأنيقة.”

“وهذا خطأ؟”

“نعم… الأميركان يحبون سندويشاتهم فوضوية، يجب أن تضع اللحم والخضار بغير نظام، والخردل والمايونيز ليسا دهان لوحة فنية كي تضعهما بتلك الدقة، عليك أن تسكب ملعقة من كل منها كيفما كان. واللحم يمكن أن يخرج قليلاً عن وسط السندويشة ويتدلى في جانبها، لا مانع من ذلك.”

“عن جد؟”

“نعم.”

“كسخت الأميركان، يجب أن يتعلموا منّا النظام والترتيب، بدلاً من أن نتعلم منهم اللخبطة والتخبيص.”

أطرق محسن بعينيه، ثم رفعهما وفيهما نظرة حنان وعطف – ها أنذا الشاب الغرّ رصيدي في أمريكا لا يتجاوز الأسبوعين، وقد باشرت بإصلاح المجتمع بكل ثقة… وصفاقة.

وهكذا عرّفني محسن، مبكراً، على خاصتين من خواص المجتمع الأمريكي: الفوضوية، والإسراف والهدر الشديدين.

مع الوقت بدأت أقدر فوائد الفوضى في حالات معينة، ورويداً تخليت عن عادات التشنج المرضي التي ُربِّينا عليها: فسندويشة المدرسة كنا نسميها عروسة لأنها بالفعل كانت بتناسق العروسة في فستان فرحها؛ والشحاطة كانت وسواساً دائماً في البيت والحارة (يا ويلك أن تمشي حافياً)؛ والقميص يجب أن يُدَّكَ داخل البنطال (والذي بدوره لا بد أن يكون مشدوداً بزنار فوق الخصر)؛ وغسيل اليدين قبل (وبعد وخلال) الطعام عادة مقدسة؛ أما الأشياء المطوية المحفوظة في كيس ورق، ضمن كيس نايلون، في علبة تنك، داخل درج النملية السفلي، فالله وحده يعلم ماذا تحتوي…

الآن أتصرف بحرية واستمتع بالفوضى في وقتها المناسب: أمشي حافياً؛ ثيابي مريحة ولا داعي أن تكون متناسقة كل الوقت؛ وإن سكبت القهوة على مكتبي، فلا بأس، يمكن لها أن نتنتظر قليلاً قبل أن أمسحها؛ وأغراضي في البيت ليست مرتبة لكنها واضحة للعيان، يمكنني بنظرة واحدة أن أعرف ماهو عندي، وما ينقصني؛ أما عند المشي للتريض في الغابة، فأجلس على حافة ينبوع الماء غير عابئ إن تَلطخَتْ ثيابي بالطين. الراحة النفسية والبساطة عندي الآن أهم من خشية المرض أو هوس الترتيب الدائم أو هاجس النظافة المزمن.

أما الإسراف فهو أمر لم أعتد عليه، حتى بعد أن قضيت في أمريكا زمناً أطول مما قضيت في سورية.

 ما زلت مقتّراً في أحيان، فإن أردت أن أكتب رقم هاتف، أقص قطعة من الورق تفي بالغرض، لا أكثر. وتلك القهوة التي سكبتها على مكتبي لن أمسحها سوى بكمية مدروسة من المناديل الورقية غير فائضة عن المطلوب لإتمام العمل.  واستخدم مايمكن إعادة استعماله، متفادياً ما يُنْتِجُ فضلاتٍ كقناني الماء، عبوات ماكينات القهوة البلاستيكية، علب الصودا من الألومنيوم، أو أوعية الطعام الكرتونية.  أما ثيابي فهي محدودة العدد، بسيطة المظهر، ولا تتبع الموضة السائدة العابرة، لأني استخدمها لوقت طويل.  لسبب ما أجدها تتألق مع الوقت، ربما لأني أختار أجودها موادّاً، لكني لا أتوانى أن أصلحها عندما تهترئ كما هو الحال في حذاء المشي الجبلي الذي اشتريته منذ ثلاثين عاماً، وأصبح رفيقي في المشي في الطبيعة. غيرت نعله مرتين وما زلت استمتع بالمشي به مهما توّعر طريقي، لأنه صلبٌ متين، وطريٌّ مريح بوقت واحد. 

زر الذهاب إلى الأعلى