فنون وآداب

نصوص أدبية || موت المدرِّس سالم السالم

قصة قصيرة كتبها” صالح الحاج صالح

لم يكن سالم السالم، المدرّس بمدرسة ثانوية في الريف البعيد عن المدينة، يشعربالتوتر والقلق النابعين من حماسٍ لايدري مبعثه، في مثل يومه هذا وفي تلك اللحظة، وهومستند على الجدار بجوارتمثال نصفي للرئيس، في بهو مديرية التربية، مقابل المدخل الرئيسي، منتظراً معتمد الرواتب.

وللإنصاف فإن توترسالم السالم لاعلاقة له بعدم وجود معتمد الرواتب في مكتبه، ولا حتى بالتأخيرالذي قد ينتج عن عدم حضوره في الوقت المناسب، وبالتالي تأخره عن اللحاق بوسيلة النقل الوحيدة “مكرو باص”  العائد إلى بلدته، ولا بأيٍ من الأمورالعادية واليومية، بما فيها شراء ماتضمنته قائمة المشتريات التي دستها زوجته في أحد جيوبه وهي تنفض شيء ما، قد تكون رأته على كتفه، أو بحكم العادة؛ فآخرهمّه تلبية متطلبات زوجته خاصةً، في لحظته هذه وحالة التي هو بها !.. لحظة تداعي أفكاره ممتطيةً حصان الأماني بجوار تمثال الرئيس وبوحيٍ منه، وهو يتدرج بالمناصب الحكومية.

رأى نفسه بمنصب مدير الثانوية التي يُدرِّس بها، هكذا بسهولة بمجرد انطلاق خياله برحلة الأماني.. وبقفزة صار مديراً للتربية.. لكن لحظة وجد نفسه مديراً للتربية، لم يستطب ما ذهب إليه. نفض رأسه ليزيل الفكرة من رأسه، وشعر بقليل من الندم على  لهوجتة في ذهابه بهذا المسار… ومرّ في باله مصير كل المدراء الذين عرفهم، فلم يتجاوز أياً منهم منصب مدير؛ فجميعهم مدراء ومدراء عامين، لابدّ إلّا ويغرقوا في الفساد – ولن يكون استثناء – وسيكون مصيره السجن، أو يصل إلى سنِ التقاعد بكرشٍ كبيرٍ تسبقه إلى الجوامع، وهي المحطة الأخيرة لكل المدراء.هناك عند أبوابها يزاحمون خلق الله كي يكفروا عن حياة أرادوها ورغبوا بها، قاتلوا للوصول إليها، واستلذوا بمناصبهم واستمتعوابها، وبكوا عندما أٌبعدوا عنها لتقدم السن أو لسبب غيره، وبنهاية كل صلاةٍ  يكررون الاستغفاربالله عن آثامٍ لا يعترفون بها، يكررون إستغفارهم بعدد حبات خرز مسابيح الكهرمان المارة من بين أصابعهم، وعندما ينهون وصلة الإستغفار مغمضي الأعين،  يفركون مسابيحهم بأيديهم، يقربوها من انوفهم ويعبون رائحة الكهرمان المرتبطة بخيالات مثيرة!  

حكّ سالم  قذاله وصرف من باله أُمنية مدير تربية أو مديراً لأيِّ دائرة، واختار بديلاً آمناً.

رأى نفسه أميناً لشعبة الحزب في المنطقة، يُقيّم الناس ويفرزهم حسب الولاء، ويسهم في تحديد مصير الكثير منهم، وابتسم لنفسه في وقفته تلك بجانب تمثال الرئيس عندما رأى الناس يتملقونه كي يوصي بهم.

حتى أنه تخيّل المهابه وهي تعلو وجوه أبناء الديرة إذا مرّ ذكره في مجالسهم، وتوقع وكأنه يشاهد ملء العين بعض المغرضين يلتفتون حولهم إذا ذكره أحدهم بسوء، وعندما خطر بباله جاره الذي لم يكونا في يوم من الأيام على وفاق، اتسعت ابتسامته ورآى جاره يتقصد مصادفته كي يلتقي به ويبادره السلام، عند هذا الخاطر وجَّ قلب سالم بسعادة غامرة، وشعربلذاذة تسري بجسده وقف لها شعر رأسه. هذا الإحساس الذي امتلك سالم جعل يده تمتد بعفوية إلى قاعدة المرمر التي يرتفع فوقها  تمثال الرئيس البرونزي، مسّ القاعدة بخشوع  متصوف هائم يمس باب حضرة سيده ويمسح بها صدره!

لم تحط أماني  سالم السالم عند منصب أمين شعبة، فقد أوصله حلمه بقفزةٍ واحدةٍ  إلى منصب أمين فرع الحزب بالمحافظة. عندها امتلأ لها قلبه بسعادة غامرة وهو يرى الناس يقفون احتراماً عند حضوره مناسبةً تخصهم، مأتم أو فرح، يفسحون له المجال ويعزمون عليه ليجلس مكانهم،  يتوددون إليه ويتسابقون بالسلام عليه. مرحبا رفيق أبو.. صباح الخير رفيق.. مسا الخير رفيق.. وهو يرد على الجميع بإيماءة من رأسه أو برفع كفه بحركة خفيفة رداً على سلام.. حتى أنه رأى نفسه واقفاً على منصة الاحتفالات يستعرض مسيرة لجماهير غفيرة تمر أمامه، تهتف باسم الحزب، ترفع شعاراته وتفدي الرئيس بدمائها. حتى أنه جاب  المحافظة، في وقفته تلك، في مناسبات  لاحصر لها ووضع حجر الأساس لمشاريع مكلفة باسم الرئيس، وردّ على هتاف الجماهير باسم الرئيس برفع قبضة يده عالياً كما يفعل الرئيس.

دفقٌ من المحبة والحبور جعلت عيناه تفيضان بدموع الإمتنان وهو ينظر إلى وجه الرئيس البرونزي، جبين عريض كما هوعليه في الحقيقة، وتحت الجبين عينين مدورتين جامدتين، هما هما عينا الرئيس بالتمام والكمال، ولهما نفس النظرة الصرامة عندما تطلان من شاشة التلفزيون كل مساء على الشعب، حتى أن سالم شعر بالبرهبة من تلك النظرة، رهبة أصابته بقشعريرة وعينا الرئيس تلاحقانه أينما تلطى.

  لكن لوهلة بين الإبهام والإيهام تبدى لسالم وسط عيني الرئيس ووجه، أنفٌ طويلٌ معوّج– طبعاً في التمثال، كي لا يظننّ أحد الظنون الآثمة – أوهكذا تجلى له. أزاح  نظارته بيده للأعلى قليلاً وضغط الجسر الرابط بين العدستين كي يرى جيداً.

– لكنه أعوج.. أسرّ سالم لنفسه.

 مسح عدستي نظارته بذيل قميصه، وأعادها  متباوعاً.. لكن بقي أنف الرئيس معوجاً!

– يالطيف.. يالطف.. يارب سترك

 الذهول والتوهان من أنف الرئيس المعوّج جعل سالم  يهذي بما عن باله ..أستعفر الله .. أستغفر الله..استغفر الله .. وتدارك، طالباً الستر من الله، بدل الإستغفار به، وهو يفرك يديه ببعضهما .. يارب سترك.. يارب سترك..يارب سترك..

أنف الرئيس المعوّج حطَّ بأحلام سالم إلى الأرض، وزاد من توتره وقلقه، وأصبح مجرد التفكير بذلك يشوّش ذهنه. ولما فَطِن  فِطْنَةَ المتردد، أنه ليس من غير المعقول انجاز تمثال للرئيس بأنفٍ معوّج حتى إذا كان معوجاً حقيقةً، وهو ليس كذلك أبداً أبداً أبداً، وصل لقناعة ارتعش لها جسده، وتعرّق كمن أصابته حمى وأدرك ولو بشكل غير واضح، أن في سريرته خبثاً، ورغبة ما، هي من أوحت له أن أنف الرئيس معوّج .

 الزوغان وارتفاع وجيب القلب الناجمين عن توهم سالم أنّ أنف الرئيس معوّجاً، جعلا سالم  يبدل مكانه من يمين إلى يسارالتمثال، ومن  اليسارإلى اليمين، فكره وعقله مشلوشين من الإثم الذي مر بخاطره، وأوحيا له أن أنف الرئيس معوّج.

لم يجرؤ أن يطلب من أحد أن ينظر معه إلى أنف الرئيس، ليؤكد وهمه أو ينفيه؛ فليس من النباهة أن يشرك أحداً أياً كان  بهاجس له حول الرئيس.     

وهو في حيرته تلك وتوهانه حطّت ذبابة على أنف الرئيس، وأعادت إليه فطنته وعقله وشيء من الإطمئنان، وامتلأ كيانه بروح الثأر، من نفسه أولاً للوهم الذي سيطرعليه، ومن هذا الكائن الوضيع القذرالذي تجرأ وحطّ على أنف الرئيس، خاصةً عندما ارتفعت قائمتيها الخلفيتين واحتكتا ببعضهما، ولمعرفته مسبقاً بفعلتها القادمة.. تسلّح بهمةٍ عاليةٍ، واستحصر براعته المشهود له فيها أنه صائد ذباب ماهر، يستطيع خطف تلك الحشرات القذرة وهي طائرة في الهواء بمجرد اقترابها، يضعها بين اصبعي الإبهام والشهادة، ويضغط ضغطاً خفيفاً ليسمع ويستمتع بتلك الطقة الخفيفة الناجمة عن  انفجار جسمها، عندها  يتلمظ متشفياً.

  هذه المرة أيضاً بإصبعيه، الشاهد مسنوداً بإبهامه ومشدوداً عليه. وكصياد لا يريد إجفال طريدته قبل التمكن منها بأنها بمقتل فور الضغط على الزناد، حبس سالم نَفَسهُ  وزحفت يده ببطء باتجاه أنف الرئيس. وعندما قدرأن الهدف سيكون صريعاً حرّر سبابته لترتطم بأنف الرئيس بقوة لم يتوقعها.

– طنن..طنننن.. صدى تردد منبعثاً من جوف التمثال !   

طنين ناتج عن جسمٍ فارغ كاد أن يصيب سالم بالصمم أو هكذا تبدى له؛ فكل من كان في بهو المديرية ومن على الدرج الصاعد إلى الأعلى التفت إلى مكان وقوف سالم حيث كان يشير مراقب الدوام موجهاً كلامه إليه وهو يشير بيده للأعلى :

– يا أستاذ  معتمد الرواتب في مكتبه.

 صوت الطنين وصداه المتردد ملأ سمع سالم ولم يعد يسمع عداه، وكل العيون أينما تلفت كانت تنظر نظرة اتهام وأنها شاهدت مافعله، حتى من دخل بهو المديرية تواً كان ينظر إليه نظرة العارف.

وبلحظة تتحول أماني سالم واحلامه من أن يصبح شخص مهم إلى أمنية وحيدة، لو أنه غيرموجود ولم يولد وياتي على ظاهرة الدنيا، لو يستطيع أن يختفى بخطوة، هكذا.. و بالكاد استطاع نزع قدمه ورفعها في خطوته الأولى وكانها قدغاصت في وحل، توجه خارجاً وفي كل خطوة يشعرأن يداُ ما تقترب لتقبض عليه من رقبته، حتى أنه مد يده وتحسس رقبته ليتأكد . خطوة واحدة  باقية نحو باب الخروج  وخمس خطوات كي يجتاز بها الدرجات الخمس التي يعلو بها بناء المديرية الرصيف الذي تقع عليه، خطوات لايمكن حسابها لا بعددها، ولا بالزمن الذي تستغرقة بل بانتظار الصوت الذي سينطلق: هذا هوالذي ضرب تمثال الرئيس على أنفه.

حتى عندما وصل سالم إلى الرصيف، ظل إحساسه بالمسافة وبالزمن مفقودين ولم يشعر بالأمان. قاوم رغبته في الالتفات للخلف ليتأكد، مفضلاً تأجيل ذلك حتى يصل الرصيف المقابل، فقط ليؤجل ما هو متأكد منه في إلقاء القبض عليه، انكمش على نفس محاولاً دفن رأسه بين كتفيه لتختفي ملامحه وهو يخطو خطوةً أولى  إلى الجهة المقابلة؛ فثانية والثالـ… اندار فجأةً إلى مبنى المديرية، لم يفهم كيف اندار ولا لماذا كان ينظر إلى مبنى المديرية وهو ملقى في وسط الشارع.  

زر الذهاب إلى الأعلى