الرأي العام

بين كفرنبل والسلوم: من يعرف من؟

منذ متى كان اللسان الحادّ عيبًا في بلادٍ تعوّدت أن تصمت خوفًا؟

بلال الخلف – العربي القديم

ما كتبه محمد السلوم عن كفرنبل لم يكن نصًا عن بلدةٍ يعرفها، بل عن بلدةٍ تخيّلها.

كتبها كمن يصف بيتًا خرج منه صغيرًا، ثم عاد بعد سنينٍ ليراه من وراء زجاج الغربة. لكنه لم يرَ فيها إلا ما ظنّه تشويهًا في الملامح، بينما كان كل ما رآه انعكاس صورته هو، لا صورتها.

بدأ نصه بالقول إن علاقته بكفرنبل محدودة، وإنه لم يعش فيها إلا عامًا واحدًا في طفولته، وكأنه يستعدّ مسبقًا لتبرئة نفسه من أي انتماءٍ إليها. غير أن الحقيقة، التي ربما لا يحب الاعتراف بها، أنه كفرنبالي في اللسان والهوى والسرد، وإن حاول الترفّع عن ذلك.

فمن يتابعه اليوم ويتفاعل معه لا يفعل ذلك إلا لأنه يكتب بلسان كفرنبل، ويستعير من روحها وطريقتها في الحكي، ومن مفردات أهلها التي صاغت لغته دون أن يدري.

أما أنا، فلم أولد في كفرنبل، فأنا من قريةٍ ملاصقةٍ لها، لكني منها بالنسب والأصل، ومن أكبر عائلاتها.أعرف حجارتها وشجرها ولهجتها كما أعرف ملامح وجهي. وأعرف أن عبد العزيز الموسى (الشاكر) الذي ذكره السلوم في حديثه، لم يكن مجرد “معلمٍ” عابرٍ في حياته كما كتب، بل كان خالي، وأعرفه كما لا يعرفه هو.

الموسى لم يكن كفرنباليًا بالمكان فقط، بل بالهيئة والملامح واللسان. كان قليل الكلام إلى حدّ البكم، انعزاليًّا إلى حدّ الغياب، يكتب أكثر مما يتحدث، ويصنع الأثر في الصمت لا في الضجيج.

فكيف لمن يعرف الأكثر صمتًا وبُكمًا أن يصف المدينة كلها بـ«طول اللسان»؟ وكيف لمعلّمٍ بهذه السكينة أن يُخرّج «طوال اللسان» كما يصفهم؟

السلوم يعرف خالي، لكنه لم يعرف كفرنبل. ثم يأتي ليصف كفرنبل وأهلها بأنهم “شتّامون، لسانهم طويل، ذمتهم واسعة”، وكأن الصراحة جريمة، والجرأة فضيحة.

منذ متى كان اللسان الحادّ عيبًا في بلادٍ تعوّدت أن تصمت خوفًا؟ ذلك اللسان الطويل هو الذي كتب لافتات الثورة، وسخر من الطغاة، وكسر حاجز الرعب بالكلمة لا بالسلاح. هو لسان الحرية، لسانٌ لا يشتريه أحد، ولا يُسكته أحد.

ومن يعرف التاريخ يعلم أن المدن التي صنعت الأثر لم تكن خرساء: بغداد في زمانها، وحمص في شجاعتها، وبيروت في عنادها، وكفرنبل في وضوحها.

ثم يتحدّث السلوم عن أهلها وكأنهم عيبٌ اجتماعي، وعن أصولهم وكأن التنوع تهمة.

لكن كفرنبل كانت دائمًا مختصر سوريا: فيها من كل الأطياف، من حوران إلى الفوعة، من الكرد إلى التركمان، من العلوي إلى السني، من العامل إلى الكاتب، وكلّهم التقوا فيها على فكرةٍ واحدة — أن الإنسان ليس أصله بل فعله.

هذه ليست نقيصة، بل معجزة التنوّع في بلدةٍ واحدة.

نعم، في كفرنبل مهاتراتٌ وضحكٌ وسخريةٌ بين القرى، “نحن ضد الضيعة الفلانية” أو “هؤلاء يهود”، “هدول نحن أحسن منهم “لكنها ليست كراهية، بل ملح الحياة وبهجتها. تلك النكات التي لا تؤذي، بل تخلق الانتماء والحميمية.

من يعش في الريف السوري يعرف أن التنافس بين القرى ليس نزاعًا، بل طريقةٌ للحياة والمرح والهوية.

كفرنبل اليوم ليست بحاجة لمن يكتب عنها نصوصًا باردة، بل لمن يعيد لها صوتها الحقيقي. مدينة كتبت بالدم وبالضحك وبالمرارة معًا، مدينة اللسان الطويل والقلب الأوسع.

هي كفرنبل التي يعرفها كل من مرّ بها: إذا أحبّت أخلصت، وإذا غضبت انفجرت، وإذا خُرّبت عادت من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى