العربي الآن

انهيار القطاع الخدمي والصحي: بين ثأرية النظام والتخريب الممنهج

إيمان أبو عساف -العربي القديم 

ليس سهلاً أن تمر عقود لم تشر الاحصائيات في محافظة السويداء  إلى أي نوع من التطور، وليس ذلك فحسب… كل الدلائل كانت تشير إلى تراجعات أو مرواحات في عملية الإنجاز أو التقدم. وأعتقد أن البعض القليل جداً كان قد أدرك أن هذه الحالة الغريبة التي لا نستطيع قياسها بمقاييس الاقتصاد ولا التنمية، لكنها كانت مقصودة، لتأتي سنوات النزاع كاشفة كل شيء بدءاً من التستر على موارد النفط والفوسفات كمواد استراتيجية كانت تصب بعيداً عن الناتج القومي، وصولاً ألى عمليات الابتزاز المبرمج  للإنتاج الزراعي، رغم أن سورية كانت تملك كل مقومات الإنتاج من مال وأرض وماء وفلاحين وفنيين. ثم ينتهي الأمر الى هجرة الأرض وترك الزراعة لأنها أصبحت تستنزف لصالح طبقة الفساد المعمم على كل قطاعات الاقتصاد، وأما وصف الجوع والحرمان فمن المخيف جداً أن تشير دلائله على مصير محتوم يصبح فيه الحصول على الرغيف حملاً ثقيلاً.  

تخريب وفشل القطاعات الخدمية

أثناء كتابتي لهذا المقال، تتوالى مشعرات حاسمة بشأن هبوط قيمة الليرة السورية والإفلاس بعدها هو تحصيل حاصل. في السويداء جنوب سورية يمكن أن نرى كل شيء دون عناء في البحث والتقصي ونتلمس التخريب الذي وصل إلى مرحلة فشل القطاعات الخدمية برمتها بل إلى اغراق النسيج المجتمعي بحالة من التهتك المشهود في انتشار ظواهر غريبة ومقحمة تبدأ بانتشار المخدرات ولاتنتهي بسوق الرقيق الابيض.

وتبدو حالة الإجهاد الخدمي ماثلةً للجميع بحيث لم تعد سراً، وعندما نريد ان نحصي الانهيارات فقط في دائرة الخدمات نحذر أننا في الحدود القصوى بل النهائية على قدرة التحمل،  ويكفي ان نتتبع حالة المشفى الوطني في السويداء لنعلم علم اليقين أن أزمات السياسة والاقتصاد في ظروف النزاع قد انتقلت إلى معايير الأخلاق الفردية.

و عندما أتتبع تأسيس المشفى الوطني في السويداء لابد أن أتكلم على أنه كمشروع خدمي نسب إلى مرحلة أعقبت ماعرف بثورة ٱذار التي أممت بالمجمل وأنشأت ماعرف بالقطاع العام، وقد قدم المشفى خدمات على مدى عقود كانت جيدة وجيدة جداً متعلقة بالتدواي والتحاليل والعمليات، ورغم تعرضه نسبياً إلى أزمات فساد إلا أنه كان الأفضل أداء في الخدمة العامة للمواطن في السويداء كمدينة وريف ومناطق، حتى أنه كان لبعض الاحيان بمثابة مركز دراسات وتخصصات وألحقت به مدرسة تمريض لها مبيت خاص لدارسات التمريض وكانت تمثل مدرسة التمريض إحدى اهم مؤسسات التعليم التي استقطبت أبناء وبنات الطبقات الفقيرة، والتي اعتبرت أن الحصول على راتب من الدولة هو أمر يمثل نجاة من الجوع والعطالة….ولكن بدأ المشفى بعملية تهالك متسلسلة وعلى التوازي تهالك عمراني وأخلاقي وخدمي.

مظاهر الفساد

ولعل استعراض سريع لبعض مظاهر الفساد تفي بالغرض وتعطي دالة حاسمة على أن هذا الانهيار ما هو إلا انهيار عام بدءاً من فضائح الرشاوى التي أخذت في التزايد للحصول على أدوار متقدمة للعمليات أو التصوير بالأجهزة المتطورة التي كان يملكها المشفى، ووصولا إلى الغش بدواء مرضى السرطان والذي أخذت قضيته ضجة كبيرة في السنوات الأولى للأزمة، وبعد ذلك فقدان الأدوية التي أخذت طريقها الى البيع بأسعار خيالية قد يضطر المريض إلى شرائها ولو كلفته أحيان كثيرة كل أو بعض مايملك.

حدثني السيد مضر (اسم مستعار) وهو موظف فني في المشفى ذاته عن حالة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، حيث أشار إلى أنه من أحدث الأجهزة الموجودة في المشافي، بل هو الأحدث في السويداء كمحافظة، إلا أن الحمل الكبير وعدد المرضى الكبير أدى إلى تعطل الجهاز لمرات عديدة، إلا أن المشكلة ليست هنا، فعادة ما يكلف تصليح الأجهزة أوراق ومعاملات إدارية معقدة، تجعل من قسم التصوير خارجاً عن الخدمة تماماً، مع أن الجهاز هو الوحيد في المحافظة، حيث أن المشفيين الحكوميين الآخرين لا يمتلكان أي نوع من الأجهزة، وتبلغ قيمة صورة الرنين المغناطيسي وسطياً 700 ألف ليرة سورية في مراكز التصوير الخاصة. أما عن إجراءات الحصول على دور للتصوير، قال السيد مضر أن الأمر يحتاج لتحويل من طبيب مختص للمرضى غير المستعجلين، فالأولوية دائما للحالات الإسعافية، ومن الممكن أن يمتد وقت الانتظار لحد 3 أشهر.

ومع تحول المشفى إلى حالة استنفار يستقبل فيها الجرحى من الجيش، أخذت المهام الموكلة إلى الكادر الصحي تتضاعف مع الندرة في الحصول على مؤونة المشفى من لوازم الجراحة والاسعاف …الخ  و بدأت على التوازي مرحلة هجرة الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات الذين غادروا إما هرباً من وضع أمني أو بسبب اقتصادي أحياناً كثيرة …وفي السنوات الأخيرة  هاجر تقريباً ما لا يقل عن ثمانين في المئة من الكادر الطبي في المحافظة.

احتاجت راغدة لتنظير معدة بعد شكوى متكررة من آلام وأعراض معوية، ولوضعها المادي الحرج، قررت الاستعانة بخدمات المشفى الوطني، لكنها فوجئت عند وصولها للقسم المعني، بعدم وجود الأدوية اللازمة للتركين خلال التنظير، حيث طلب منها أن تشتري المركن بالإضافة للاتفاق مع طبيب أو فني تخدير للمجيء خلال التنظير، فالمشفى لا يمتلك لا الدواء ولا المقيمين المختصين لذلك، الأمر الذي كلف راغدة مبلغاً لم يكن بالحسبان.

أخيراً قابلت ريما (اسم مستعار) وهي ممرضة تعمل في المشفى الوطني، حيث أكدت لي أن الحاجة للأطباء والطبيبات باتت ملحة جداً، فليس هنالك أعداد تكفي المرضى الذين لم يتوقفوا يوماً عن طلب التداوي في المسفى الذي قدم في الماضي خدمات مجانية للعديد، إلا أنه الآن أصبح خاوياً بمعنى الكلمة. أكدت ريما أيضاً عن محاولات القطاع الصحي ووزارة الصحة لتقديم الدعم للمشفى، إلا أن الفساد المستشري والذي يصل حتى لسرقة عبوات الكحول يحول دون ردم فجوة الحاجة.

اغتيال البلعوس

ذكرت ريما أيضاً تحول المشفى في بعض الأحداث السابقة لهدف للفصائل والمسلحين، ذكرت منها حادثة اغتيال البلعوس، وحوادث استباك بين فصائل محلية نقل إثرها مصابين إلى المشفى، حولت المشفى لمكان مليءٍ بالسلاح وعرضة لإطلاق النار والاستباكات في أي لحظة، وهو مشهد يكاد يكون سريالياً في مشفى. 

ليس صعباً استقصاء قصة هذا الانهيار وليس صعباً أن نعدد مظاهره لكن كل الصعوبة تكمن في خلق سياسات محلية وإقليمية وأممية تتصرف بمسؤولية أخلاقية وإنسانية لتحويل هذا العجز والتعاطف إلى علاج بموارد متاحة حتى يصل المجتمع المحلي إلى حل بمقتضى الحل الشامل للأزمة السورية.  

__________________________

تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR” صحفيون من أجل حقوق الإنسان”.

زر الذهاب إلى الأعلى