بصمات | لا تحزن على موتك
د. علي حافظ
مهما عشت وعملت وتعبت فإنك ستموت؛ سيتوقف وجودك في لحظة وترحل إلى الأبد… ربما، لم تلحق القيام بكل ما ترغب به؟ أو، ربما، لم تقل حتى كلمة وداع؟ لكن، هذه الحياة تسير؛ ولن تتوقف عند شطبك من خانتها!
سيهب نحوك هواء مريض قادم من أراضي العبيد، يمنعك من التنفس بحرية حتى وأنت تلفظ أنفاسك، ليخترق روحك المتعبة ويمزقها قبل أن تُرمى جثتك إلى تراب رطب غريب.. هناك، سيبدو الأمر غريباً في البداية، بحيث ترى الأحياء وهم راكدون كالموتى؛ والأموات يتحركون كالأحياء؛ لتتحقق نبوءة كارل سبيتزويغ فيك: “أريد أن أموت بلطف شديد أثناء نومي؛ وأن أكون ميتاً عندما أستيقظ!”.
سيندفع هيكلك الهلامي نحو الأسفل، ويرسو في القاع غير قادر على العودة ولا على التقدم أكثر.. ستشعر بنعاس شديد، ما يلبث أن يسيطر عليك كلياً ولا يدعك تهرب منه.. ستكون وحيداً مع نفسك لآخر مرة، لذلك عليك تجاوز المرحلة بمفردك تماماً.. ستجد أنه لا فائدة تذكر من أولئك البشر الذين التقيتهم في حياتك أو من الاستعانة بأحدهم.. ستدرك حينها أن كل معارفك وتجاربك ومغامراتك وذكرياتك وقراءاتك لا تساوي شيئاً أمام احتضارك وحيداً في مكان بائس من غربتك المضاعفة.
ربما، ستتذكر بعض الأشياء الجميلة من طفولتك؟ ربما، سيحضر محيا والدتك كآخر ضوء تراه قبل مغادرتك نحو العتمة؟ ربما، ستذرف دموعاً توارثتها عنها؟ ربما سترغب في العودة إلى الحياة ثانية ولقاء من تحب؟…
سيكون الأمر محزناً في البداية على أهلك ومحبيك؛ لكن سرعان ما ستغرق في الغياب، وستختفي عاجلاً أم آجلاً ولن تكون حتى مجرد ذكرى.. ولأنك شخصٌ ليس لديه أي مؤهل للخلود سينساك الجميع بعد مضي بعض الوقت من موتك؛ ولن يتذكرك أحد، بما فيهم الأولاد والأحفاد والأقرباء والأصدقاء… أو في أحسن الأحوال، ستكون بعد موتك مجرد صورة تتوسط جدار رمادي رطب، أو تحط على رف ممتلئ بالغبار والإهمال، أو يضعك شخص تذكرك فجأة على بروفايله في موقع الفيسبوك؛ ومن ثم ستختفي صورك وأعمالك وما قمت به في غفلة التاريخ…
هنا، ستكتشف حقيقة كلام المفكر غاسبار لانغونهيرت الذي قرأت عنه في المكتبة الوطنية الفرنسية ذات يوم وكان يسوق لنظريته الفلسفية التي تزعم “بأن العالم الذي نعيش فيه هو عالم غير موجود في ذاته، وإنما هو انعكاس أصيل لفكرنا”؛ لترغب مجدداً في قراءة رواية “طائفة الأنانيين” للكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت!
لا تحزن على موتك؛ فهذا هو قانون الطبيعة: “سنموت جميعنا، كل واحد منا، يا له من سيرك! هذا وحده يجب أن يجعلنا نحب بعضنا بعضاً، لكنه لا يحدث. تخيفنا الأشياء الصغيرة، ويأكلنا اللا شيء” – حسب تشارلز بوكوفسكي!
قد يقترن الموت بخلاصك، لاسيما بعد معرفتك بأنك لم تعد مُصاباً بحمى التفكير والحلم والأمل، وأنك أصبحت حراً، حراً تماماً… هنا ستعرف ماهية الحقيقة المؤجلة التي ربما بحثت عنها ذات يوم؛ لذلك، امضي في طريق غيابك أيها الكائن الزائل المصنوع من طين الأحلام وماء الأفكار، لأنه مهما كبرنا وعملنا وفعلنا وأنجزنا فـ “إننا تافهون بالمُقارنة مع أبعاد الكون ومسارات التاريخ، وكُل شئ سيستمر على حاله بعد موتنا وكأننا لم نوجد على الاطلاق” – على حد قول إيزابيل الليندي – ولتكن كلمات راينر كونتسه العزاء المناسب في وداعك/وداعي الأخير:
”مُت قبلي
قليلاً قبلي
لكي لا تكون أنت
من سيعود وحيداً
على الطريق إلى المنزل”.