مقامات أمريكية | عن ميخائيل سعد والعملات الصعبة
د. حسام عتال
يرحب موقع (العربي القديم) بانضمام الدكتور حسام عتال إلى أسرة كتاب الزوايا الأسبوعية فيه. حسام عتال طبيب سوري مقيم ويعمل في ولاية متشغان منذ ثلاثين عاماً ونيف. في أوقات فراغه يعمل في مزرعته ويمارس الرسم والتصوير والنجارة. في السنوات الأخيرة بدأ يكتب القصة القصيرة، وعن أسفاره، ونشر في موقع رابطة الكتاب السوريين وغيره. يطمح لنشر كتاب عن “كيف تكتب القصة”، وأيضاً لكتابة رواية عن واقع السوريين الذين نزحوا إلى الولايات المتحدة بعد الثورة السورية.
***
كتب الصديق ميخائيل سعد في صفحة “نميمة المساء” اليومية على الفيسبوك: ”صديقاتي وأصدقائي الأعزاء، سأتوقف عن كتابة زاويتي الاسبوعية في موقع (العربي القديم) حتى منتصف حزيران، يعني حتى نهاية العام الدراسي الجامعي، بسبب ضغط الدروس، ورغبتي في تحصيل علامات عالية، فمن غير اللائق بحق رجل يدعي الشبوبية أن يتراجع مستوى معدله العام، خاصة أن هناك منافسة قوية مع بعض الصبايا والشباب، لذلك فإن أي تراجع في معدلي العام سيكون مؤشراً واضحا على تراجع شبوبيتي، وهذا ما لا أرضاه لنفسي وللمعجبات اللواتي ينتظرن استمرار نشاطي العلمي“.
عندما عرضت عليه أن أكتب هذه الزاوية حتى يعود من دراسته في منتصف حزيران، وينهي مغامراته العاطفية، والتي لا أعتقد أن لها حدود زمنية، قَبِلَ مني ذلك وشرفني بأن أكون عوضاً عنه مؤقتاً. شعرت بالامتنان له ولمحرري موقع (العربي القديم)، لذلك من اللائق أن أبدأ بوضع خاطرة عن ميخائيل كنت قد كتبتها بعد لقائي به في ماردين منذ أشهر، ثم أتبعها بمقالين عن المدن الذي يقطنها ميخائيل، وله بينها رحلات الشتاء والصيف: ماردين في تركيا، ومونتريال في كندا.
عن ميخائيل سعد والعملات الصعبة – قصة واقعية
البارحة ضاع مني مظروف فيه مبلغ كبير من المال كنا قد وصلنا ديترويت بعد رحلة شاقة دامت أربعة أيام، من غينيا، لبوركينا فاسو، لاسطنبول، وأخيراً ديترويت. تأخرنا يوماً في بوركينا فاسو بسبب هبوط طائرتنا الاضطراري، ثم يوماً آخر في اسطنبول حتى وجدنا حجزاً جديداً لأمريكا. ولأننا كنا مدعوين لحفلة عرس في دترويت، لم نذهب لبيتنا الذي يبعد ساعتين عنها، بل استأجرنا سيارة وحجزنا غرفة في فندق لكي نقضي فيها ليلتنا. في الطريق للفندق التقطنا الثياب التي سنرتديها في العرس، والتي كنا قد تركناها في بيت ابني بمدينة ديربورن قبل سفرنا خارج امريكا. ثم توقفنا لدقائق وجيزة لوجبة سريعة في أحد المطاعم العربية التي تعرف بها دترويت (سندويشة فلافل لي، وسندويشة بطاطا حرة لزوجتي). أطرت زوجتي صاحب المطعم قائلة: “هذه أطيب سندويشة أكلتها في حياتي!” هي تحب المبالغة، لكن الواقع أن أي طعام مستساغ (ولو كان عادي المذاق) سيكون طيباً عندما يكون التعب قد أنهك الجسد المحروم من النوم المريح لأيام متواصلة. عند وصولنا الفندق أنزلنا الحقائب الأربعة الكبيرة، وثياب العرس، وخمس حقائب صغيرة: واحدة لمستلزمات السفر، الثانية للالكترونيات والكمبيوترات، الثالثة لهدايا من الزجاجيات أرادت زوجتي حملها باليد كي لا تنكسر (ولكنها كسرت كتفي بسبب وزنها الثقيل)، الرابعة للكاميرات، والخامسة للكتب التي كنا نقرؤها خلال رحلتنا. أحدها كان كتاب رائع قد أهداني إياه ميخائيل سعد ””حكايات الوطن والمهجر، سيرة ذاتية من عذابات السوريين“، عندما التقيت به في مدينة ماردين، بعد أن استحممنا ولبسنا ثيابنا الرسمية، طلبت زوجتي مني مبلغاً لتنقيط العروسين. بحثت عن المظروف الذي كنت قد وضعت فيه ما بقي من المال الذي لم نصرفه في رحلتنا، فلم أجده، في المظروف كان هناك كمية جيدة من المال لأننا كنا قد أخذنا معنا احتياطاً للطوارئ، خليط من اليورو والدولارات. كنت، بغباء شديد، قد وضعته في جيب جاكيتي السپورت اليميني وهو دون سحّاب يغلقه، عملٌ أعرف من خبرة سابقة أنه أحمق. اتصلنا بالمطعم الذي أكلنا فيه، وتعرّف علينا صاحبه فوراً بسبب إطراء زوجتي الحار لسندويشة البطاطا الحرة. قال إنه سيبحث عنه، وإن لم يجده، سيراجع شريط الفيديو الداخلي بعد أن يخف ازدحام الزبائن في المساء. بعد ذلك، وقبل ذهابنا لحفلة لعرس، سألنا موظفة الفندق إن كان أحد النزلاء أو العمال قد وجد المظروف في الفندق، فأجابت بالنفي، ووعَدتْ بالاستفسار مع الموظف في المناوبة السابقة. في طريقنا للعرس مررنا على ATM وسحبنا بعض المال لتنقيط العروسين. في الطريق، ظللت أهز رأسي لائماً نفسي على قلة حيلتي وحمقي؛ فقالت لي زوجتي: نعم لقد أخطأت، لكننا كنا متعبين ولم نكن في وضع يسمح بالتفكير المتوازن. ثم ذكرتني بكتاب ميخائيل وبالشخصيات التي كتب عنها (والتي كنت قد ترجمت لها ما كتب في طريق العودة)، وذكرتني بما مروا به من محن وصعوبات ومآسي، دون أن يفقدوا احساسهم بالمرح ودون أن يفقدوا تفاؤلهم. وأردفت: “كان من الممكن أن يحصل ما هو أسوأ، تخيل لو أنك أضعت كتاب ميخائيل وفي صفحته الأولى إهدائه الجميل لك”. هي محقة! ميخائيل هو من الناس الذين تحبهم عندما تقرأ مايكتبون على الفيسبوك، لكنك تتعلق بحبهم أكثر عندما تقابلهم شخصياً: ميخائيل مسيحي البيئة والمنشأ، لكنه يعتز بثقافته الإسلامية ويمارسها في حياته اليومية (هو بالخصوص له ولع بإفطارات رمضان). ميخائيل ملحد بالآلهة، لكنه يحترم المؤمنين، لايسؤوهم بالكلام أو بالتجريح، ولا ينتقدهم سوى بعقلانية وبكل احترام. ميخائيل مادي التوجه فلسفياً، لكنه في الحياة كريم النفس واليد، لاتعني الأشياء حوله شيئاً سوى مايستخدمه لنفسه أو يعطيه لغيره، دون إسراف أو تبذير. ميخائيل شيوعي مناضل، لكنه يملك روحانية الرهبان والقديسين (أقسم أني شاهدت هالة حول رأسه عند زيارتنا لمدينة ميديات). ميخائيل سجين رأي سياسي سابق، لكنه رغم التعذيب والتنكيل لا يحمل حقداّ أو غلاً على أحد؛ بالتحديد على الذين أجرموا تجاهه وتجاه كثير من السوريين بأبشع الطرق وأقذر الوسائل. ميخائيل مهاجر، غريب عن بيته ووطنه، لكنه يحتفظ بروح النكتة وقسمات وجهه مليئة بالتفاؤل، يتوجهما بأجمل ابتسامة أعرفها على وجه رج . ميخائيل عميق الملاحظة، فطن لأحوال الناس ومشاربهم، يعرف نواقصهم لكنه لا ينتهك أعراضهم ولا يشي بهم، ولا يكن لهم سوى حب وعطف الأب الحنون. ميخائيل متزوج، عفيف، لكن لا يفوته الجمال حواليه، فيراه ويطريه ويستمتع به، دون نقص في هيبته أو وقاره.
أنت على حق، أجبت زوجتي، كان من الممكن أن يحصل ما هو أسوأ خلال العرس. اتصل بي صاحب المطعم معتذراً أنه لم يجد المظروف، وقال لي: سأحتفظ بشريط الفيديو إن أردت أن تأتي لتعاينه بنفسك. شكرته وقلت له إني أثق به، وكيف لا أفعل وهو يستطيع عمل أطيب سندويشة بطاطا حرة في العالم حسب رأي زوجتي! بعدها، مع قرع الطبول، ولحن الناي، وصوت المغني الجبلي ينشد “طلوا احبابنا طلوا..” رن هاتف زوجتي فخرجت من قاعة العرس للإجابة، ثم عادت بعد دقيقة وجهها مشرق بابتسامة: المظروف في الفندق، قالت، لي، لقد وجده أحدهم في موقف السيارات وأعطاه لموظف الفندق في المناوبة السابقة. المظروف الآن في خزينة الفندق بانتظارنا. عندما عدنا إلى الفندق سألنا الموظفة عمّن وجد المظروف، فأرسلت رسالة هاتفية مكتوبة للموظف الذي استلم المظروف، جاء الرد: “لم يشأ الرجل الذي أعاد المظروف أن يعطي اسمه أو رقم هاتفه”. بسرعة البرق مر في ذهني شريط فيه صور لشخصيات كتب عنها ميخائيل في كتابه. أناس لم يفقدوا أخلاقهم ولم تتبدل مبادؤهم رغم كل ما مر عليهم من النكبات والمصاعب، وظلوا مخلصين أوفياء، صادقين، ومتفائلين. هؤلاء عملات صعبة (أصعب من الدولار واليورو)، هم كما الرجل المجهول الذي أعاد النقود دون أن يمسها، وكما يفعل ميخائيل سعد نفسه يوماً بعد يوم.