كيف يُهدد القتال بين "قسد" والعشائر" إستراتيجية واشنطن في سوريا؟
لماذا تهدّد الاشتباكات في شمال سوريا إستراتيجية واشنطن في المنطقة؟
ترجمة: رامي زين الدين
اعتبرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن الاشتباكات التي تشهدها مناطق شمالي سوريا بين قوات سوريا الديمقراطية من جهة، وفصائل تابعة لعشائر عربية من جهة أخرى، تُهدد إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة.
وفي تقرير نشرته منتصف سبتمبر الحالي، أشارت المجلة إلى أن واشنطن نجحت منذ العام 2017 في منع عودة تنظيم داعش، وكبح التوسع الإيراني والروسي، معتمدة في ذلك على تحالف غير مستقر، مع شركاء أكراد وعرب، كانوا حتى وقت قريب يعملون تحت مظلة واحدة، قبل أن تظهر التصدّعات في الآونة الأخيرة.
وفي وقت سابق هذا الشهر، نجت “قسد” التي يهيمن عليها الأكراد بصعوبة من أكبر ضربة لحكمها، منذ تشكيلها عام 2015، وفي الفترة من 27 أغسطس إلى 6 سبتمبر، طرد الآلاف من رجال القبائل العربية قوات سوريا الديمقراطية من عشرات المدن، والبلدات في محافظة دير الزور شرقي سوريا، في اشتباكات خلّفت ما بين 150 إلى أكثر من 350 قتيلاً.
توزع القوى المسيطرة
يقسم نهر الفرات دير الزور إلى نصفين شمالي وجنوبي، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية، ونظام بشار الأسد على مناطق الضفتين، بينما يُعدّ النصف الشمالي الجزء الوحيد من سوريا الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، والذي لا يوجد به سكان أكراد أصليون، مما يجعل عملية الحكم والسيطرة أكثر صعوبة من أي منطقة أخرى في البلاد.
وتنتشر في شمال دير الزور أكبر حقول النفط والغاز السورية، مما يضع هذه المنطقة في مرمى نظام الأسد، وداعميه الإيرانيين والروس الذين سعوا، منذ فترة طويلة إلى استعادة المنطقة، واحتياطياتها القيمة من الطاقة.
كما يُعدُّ تنظيم “داعش” أكثر نشاطاً في دير الزور من أي منطقة أخرى في البلاد، حيث يبتزّ مبالغ كبيرة من تجار النفط، لتمويل نفسه، وينفذ هجمات شبه أسبوعية على جانبي نهر الفرات.
كما أن موقعها على طول الحدود السورية، مع العراق يجعل من دير الزور مهمة لكل من إيران، وتنظيم “داعش”، اللذين يستخدمان المنطقة، لتهريب الأسلحة والأفراد عبر المنطقة.
“احتكار موارد النفط”
في خضمّ هذه المنافسة الشديدة بين القوى الخارجية، شعرت القبائل المحلية في شمال دير الزور، منذ فترة طويلة بالتجاهل، إذ تُتهم قوات سوريا الديمقراطية، بتحويل الإيرادات من حقول النفط والغاز إلى المناطق التي يقطنها عدد أكبر من السكان الأكراد.
وفقاً للمجلة، بدأ التمرّد العشائري، خلال وقت سابق هذا الشهر، في محاولة من قبل الزعيم المحلي شيخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل للسيطرة على المنطقة، وإجبار الولايات المتحدة، التي تدعم قوات سوريا الديمقراطية، على الاعتراف بإنشاء دويلة عربية تتمتع بالحكم الذاتي، في شمال دير الزور، بحيث تكون مستقلة، عن قوات سوريا الديمقراطية، ونظام الأسد.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن الدعوات العامة لضبط النفس، ظل المسؤولون العسكريون، والدبلوماسيون الأمريكيون صامتين، إلى حد كبير خلال القتال، خوفاً من الانحياز علناً إلى أي طرف في صراع بين مجموعتين تحتاجهما واشنطن بشدة للعمل معاً، لمنع عودة أنشطة التنظيم المتطرف، لكن أحداث العنف الأخيرة تُهدد بإفساد هذه الشراكة، وتخريب علاقات قوات سوريا الديمقراطية مع المجتمعات المحلية.
وعلى الرغم من أن قوات سوريا الديمقراطية نجحت في ما يبدو بقمع التمرد، إلا أنها بفعلتها هذه قتلت، أو سجنت، أو أبعدت شريحة كبيرة من القيادات العسكرية والقبلية في المنطقة. وأعلن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، منذ ذلك الحين عن عفو عام عن أولئك الذين شاركوا في الانتفاضة، باستثناء أولئك الذين تتهمهم المجموعة بأن لهم علاقات مع “قوى خارجية”.
اتهامات بالتعامل مع الأسد
منذ بدء القتال، زعمت قوات سوريا الديمقراطية أن قادة التمرّد العشائري يتعاونون مع نظام الأسد، استعداداً لتسهيل سيطرة الأخير على شمال دير الزور.
وتُشير مصادر موثوقة، بحسب ما ذكرت “فورين بوليسي”، إلى أن قائد مجلس دير الزور العسكري المنشق عن “قسد” أحمد الخبيل المعروف بلقب “أبو خولة” ربما كان في الواقع يحمل مثل هذه النوايا. ومع ذلك، استخدمت قوات سوريا الديمقراطية، منذ ذلك الحين هذه التهمة، للإشارة إلى معظم أولئك الذين شاركوا في القتال، وكذريعة لمزيد من حملات القمع. ومنذ دعوة عبدي، اعتقلت قسد المزيد من زعماء القبائل الذين يُعتقد أنهم شاركوا في القتال، بدلاً من إطلاق سراحهم.
وبحسب ما ورد التقى مسؤولون أمريكيون في الأيام الأخيرة مع أقارب الهفل الذين يعيشون في قطر، في محاولة للمصالحة بين الجانبين، لكن حملة الاعتقالات الكبيرة التي قامت بها قوات سوريا الديمقراطية، إلى جانب الدماء الهائلة التي أُريقت، خلال الانتفاضة التي استمرت 11 يوماً، تعني أن المنطقة لن تعود على الأرجح إلى الوضع الراهن الذي تحقق، بعد هزيمة تنظيم “داعش” أواخر عام 2017.
ونتيجة لذلك، ستكون قوات سوريا الديمقراطية مقيدة، بشكل كبير في قدرتها على منع عودة خلايا التنظيم، ومنع نظام الأسد وروسيا، وإيران من المطالبة بالاحتياطيات النفطية القيّمة في دير الزور.
“موقف أمريكي صعب”
هذه الأحداث، كما اعتبرت “فورين بوليسي”، جعلت الولايات المتحدة في موقف صعب، إذ لا يمكن أن تكون المخاطر أكبر من ذلك.
ومنذ تدخلها في سوريا أواخر عام 2014، بذلت الولايات المتحدة جهداً أكبر، لحماية شمال دير الزور من هجمات القوى الخارجية أكثر من أي منطقة أخرى خاضعة، لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وفي 7 فبراير 2018، قتلت الغارات الجوية الأمريكية المئات من مرتزقة “فاجنر” الروس الذين عبروا إلى المنطقة، للسيطرة على حقل غاز كونكو، الذي يستضيف الآن واحدة من أكبر القواعد الأمريكية في البلاد.
وفي أكتوبر 2019، أطلقت تركيا حملة كبيرة، لطرد قوات سوريا الديمقراطية من منطقة تبلغ مساحتها 1200 كيلومتر مربع، على طول حدودها مع سوريا. ومن أجل تجنب الاشتباك مع أحد شركاء حلف “الناتو”، وافقت الولايات المتحدة قبل 3 أيام من الهجوم، على إجلاء قواتها من مواقع الخطوط الأمامية، في محافظات حلب والرقة، وشمال غرب الحسكة، والسماح للجنود الروس باستبدال القوات الأمريكية المنتهية ولايتها.
ومع ذلك، رفضت واشنطن التخلي عن سيطرتها على احتياطيات النفط والغاز في دير الزور، وجنوب شرق الحسكة، لأن القيام بذلك من شأنه أن يُخاطر بتشجيع أطراف أخرى في الصراع السوري على السيطرة على المنطقة.
وبالنسبة لتنظيم “داعش”، ونظام الأسد على وجه الخصوص، فإن السيطرة على هذه الحقول من شأنها أن تزيد بشكل كبير من وصول الطرفين إلى العملات الأجنبية، مما يمكنهم من التوسع، وتهديد توازن القوى الإقليمي.
وفي هذه البيئة، أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على التحالف الديمقراطي المسيحي الذي كانت قواته أكثر فعالية من قيادة قوات سوريا الديمقراطية، في حشد الدعم المحلي. وإدراكاً لنفوذها، بدأت بعض الأطراف، في إطلاق دعوات للحكم الذاتي ابتداءً من عام 2020.
نزعات للحكم الذاتي
اتخذ قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل ما اعتبره الكثيرون أول خطوة ملموسة نحو الحكم الذاتي في مايو 2023، عندما أعلن نفسه بشكل غريب زعيماً لإمارة زبيد، في إشارة إلى قبيلة من القرن السابع لها فروع في جميع أنحاء سوريا والعراق، والمملكة العربية السعودية، وإيران. وفي 14 من الشهر ذاته، استضاف تجمعاً لشيوخ الرقة وحلب، ومحافظات بعيدة أخرى، الذين تعهّدوا بدعم الكيان القبلي الجديد.
في المقابل، خشيت قوات سوريا الديمقراطية من أن يتبع الخبيل (أبو خولة) إعلانه بطرد المجموعة من دير الزور، وحاولت اعتقاله في 25 يوليو، مما أدى إلى سلسلة من الاشتباكات أسفرت عن مقتل 5 أشخاص.
وفي محاولتها الثانية، نجحت قوات سوريا الديمقراطية يوم 27 أغسطس ففي استدراج الخبيل إلى اجتماع مزعوم مع مسؤولين أمريكيين حيث تم نزع سلاحه، ونقله إلى سجن صحراوي بعيد، حيث لا يزال موجوداً.
وقام أفراد من قوات الخبيل الأمنية، التي تمكنت من الإفلات من قبضة “قسد”، بنشر خبر اعتقاله على الفور، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي غضون 24 ساعة، كانت عشرات البلدات في أيدي مقاتلي العشائر وحلفائهم. وبحلول 31 أغسطس دعا شيخ العكيدات إبراهيم الهفل قبائل المنطقة، للانضمام إلى المعركة، مما أدّى إلى تمديد القتال لمدة أسبوع آخر.
“تنحية خلافات العشائر”
على الرغم من أن الانتفاضة قد هُزمت على ما يبدو، بحسب المجلة، إلا أن تأثيرها سيكون كبيراً، إذ من المرجح، كما يقول التقرير، أن تدفع التجربة المشتركة في القتال ضد عدو مشترك العائلات والعشائر، والقبائل العربية في دير الزور التي لديها تاريخ سابق من النزاعات، ضد بعضها بعض، إلى تنحية خلافاتها جانباً، للتركيز على الهدف المشترك المتمثل في الانتقام، مما يوفر وقوداً كافياً لتمرّد طويل الأمد.
ومن الأمثلة على ذلك أن أبرز زعيمين لقوات العشائر، ينحدر أحدهما، وهو الخبيل من عشيرة البكير في المنطقة، وهي منافسة لعشيرة إبراهيم الهفل (العكيدات)، منذ عام 2012 على الأقل، حيث تقاتلت قواتهما، للسيطرة على آبار النفط في المنطقة، خلال السنوات الأولى من الثورة السورية.
كما نفّذ الجانبان اغتيالات متبادلة، منذ عام 2020، في حين كان الهفل من أشدّ المعارضين لجهود الخبيل، لإنشاء إمارة زبيد. والآن، يجد كل من الرجلين، ومؤيديهما أنفسهم هاربين، مستهدفين من قبل قوات سوريا الديمقراطية.
وفي ضوء صعوبة إعادة دمجهم في “قسد”، من المرجح أن تسعى بعض الأطراف إلى التودد للخبيل والهفل، وأقاربهما وأتباعهما، لا سيما أن العديد من الجهات الفاعلة سعت بالفعل، منذ فترة طويلة إلى زعزعة استقرار هذه المنطقة الحيوية.
وينحدر الخبيل نفسه من عائلة عيد، في عشيرة البكير التي انضم أفرادها إلى تنظيم “داعش” بأعداد كبيرة عام 2013 مقارنة بأي مجموعة أخرى في دير الزور. وقامت الولايات المتحدة، وقوات سوريا الديمقراطية، بتجنيد الخبيل، لقيادة التحالف الديمقراطي عام 2017 على أمل أن يتمكن من إقناع أقاربه، بالتخلي عن الجماعة، ومع وجوده في السجن، قد يكون لديهم حافز أقل للقيام بذلك.
وعلى الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في أماكن أخرى، يجب على واشنطن، كما ترى المجلة الأمريكية، أن تمنح اهتماماً أكبر لسوريا والمنطقة الأوسع، وذلك لضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة بين قوات سوريا الديمقراطية، والفصائل العربية الأخرى المتحالفة معها، معتبرة أن الفشل في القيام بذلك سيخلق مساحة للخصوم، لتقويض مكاسب واشنطن التي حققتها بشقّ الأنفس.
رابط مقال مجلة فورين بوليسي: