فنون وآداب

نصوص أدبية || أنا وصديقي المسيحي في إدلب

 قصة دوّنها: صخر بعث

ترك صديقنا المسيحي “أبو جوني” منزله في “إدلب” بعد وقوعها في أيدي الفصائل الإسلامية، لكنّما ليس لهذا السبب تحديداً، بل لنفس السبب الذي دفع الكثير الكثير من أهلها إلى مغادرتها: الطيّارة والبرميل!.

بعد أسبوعين ثلاثة وقد استقرّ مقامه وعائلته في تركيا، اتّصل بي، سألني عن أحوالي وسألني بالطبع عن أحوال منزله، ثمّ أفشى لي بسرّ خطير.. قال:” شوف يا خاي، حطّيت قناني العرق والويسكي وشوية علب (XXL) على السدّة، جوّا خزّان المي، فإذا بدك روح خدهن من هنيك، و: بصحتك!”.

لم يسنح الوقت، ولا واتتني فرصة لأفهمه أنّ هذا منكر، وأن المنكر حرام، وأنّ توبتي نصوح والحمد لله!، لكنّني -بلا أي تردّد- عاهدتُه أن أحاول إدارة شؤون منزله في غيابه، بالطريقة التي يريدها.

في اليوم التالي ذهبنا إلى المنزل في زيارة استطلاعية، فوجدنا أخاً من “أوزبكستان”، واستطعنا بلا مترجم أن نفهم منه التالي: “أنا ونحن هنا من أجل زواج”، قلتُ لصديقي الذي كان معي: قصده جهاد أعتقد، لكنّ عربيّته متواضعة كثيراً، أو ربّما هو مشتّت الأفكار.  

بعد يومين ذهبنا مرّة أخرى، فخرج شابّ من “تركمنستان” في الثامنة عشرة من عمره، بل ربّما أقلّ، قال: “السلام عليكم.. نعم أخي.. ماذا تريدين أنتي؟” قلنا له: نحن أصحاب صاحب المنزل، وبكلّ شجاعة أردفنا: ماذا تفعل أنت هنا؟، فأجاب بكلّ هدوء واتّزان: “أنا هنا من صباح لأجل نكاح”!

 بسرعة قلت لصديقي: يقصد كفاح، لكن.. طبعاً عربيّته متواضعة كثيراً، وربّما هو مشتّت الأفكار أيضاً، طبيعي هؤلاء مجاهدون يا أخي.

بعد أسبوع، عندما خرج في المرّة الثالثة شابّ ثالث ومن “قرغيزستان” فوراً سألته: أنت هنا من أجل جهاد وكفاح، أعلم، ولكن لماذا هذا المنزل أنت فيه هنا؟ رغم عربيّته المتواضعة، بدا أنّه فهم سؤالي على نحو جيّد، فقال: نعم نعم، نحن هنا نأتي نتزوج، ثمّ نخرج إلى جهاد في سبيل الله.

من الجيران تأكدنا أن المنزل مخصّص للزواج، زواج المجاهدين في سبيل الله قبل انتظامهم للجهاد في سبيل الله، يعني يتزوج كل مجاهد في المنزل يومين ثلاثة، ثمّ ينفر للجهاد، وكلّ شيء منظّم على أكمل وجه.

للصدق.. الأخوة في القيادات الجهادية تعاونوا معنا كثيراً وقالوا لنا: فوراً نُفرغ المنزل من أيّ عريس مجاهد، ولو أنّ في ذلك بعض الضيم، ولكنّ عمَّ صديقنا المسيحي أبا جوني فجّر المفاجأة إذ قال للشيخ الذي من “تبوك” في السعودية المسؤول عن غنائم النصارى في “إدلب” السورية: “لا بأس… دع هؤلاء الشباب في البيت”، فانسحبنا صديقي وأنا، وتوقّفت تماماً عن متابعة الموضوع، وحين سألني صديقي المسيحي أبا جوني: أشو صار معك؟ قلت له بعصبية: ما صار شي خاي.. عمّك ما بدّو البيت، وبدّو يانا نحن المسلمين نتكاثر أكتر.

***

بعد سنة، سنة كاملة، كان صديقي المسيحي “أبو نقّو” خرمان على كاسة عرق، ولمّا سألني إن كان بحيازتي شيء منه، قلت: أعوذ بالله، الله يعفي عنّا، فأمسك بتلابيبي وصار يصيح في وجهي: “ولك حتّى أنت يا حقير!”، وأنا قدّرت حالة انفعاله الشديد، وقلت بهدوء وتسامح: الله يهديك!، فجنّ جنونه وكاد يقتلني!

لا أعرف كيف تذكّرت “أبا جوني” والمشروب الذي في خزّان المياه على السقيفة، ولمعت في ذهني الفكرة، فقلت لأبي نقّو:  طوّل بالك، اسماع اسماع، وأخبرته بالسرّ الخطير، وحكتُ له خطّة تمكّنه- إن اتّبعها- من الحصول على الكنز، وطلبت منه أن يتوكّل على الله… ويمضي.

مضى أبو نقّو بصحبة أحد أصدقائه إلى المنزل الذي له سقيفة فيها خزّان يحتوي كنزاً، طرقا الباب وخرج الأخ عبد الحقّ الذي من “أذربيجان” فبادره صديق أبي نقّو (وفق الخطّة): السلام عليكم.. أهلاً صديق، يوجد أغراض هنا فوق هنا سقيفة شخصية هناك، هنا فوق، هذا ابن فوق خالة صاحب هذا منزل هنا فوق، هل؟، لم يُكمل، فوراً قال عبد الحقّ وإمارات السرور بادية طافحة على محيّاه القوقازي المشرق: “نعم نعم كان يوجد هنا خمر هنا فوق، قمت تكسير زجاج أنا هنا فوق، هذا حرام، الحمد لله هنا فوق، نعم “أبو نقّو فوراً مدّ يده إلى جيبه، وأخرج حبّةً ووضعها تحت لسانه، وبدأّ يزخّ، وليس يتصبّب عرقاً، نعم عرقاً لكن غير العرق الذي أتى من أجله!.

صديقه أدرك أنّه عليهما تلافي هذا الموقف غير الشرعي السخيف فقال لعبد الحق: أشو عرق ما عرق؟.. (مع أنّ عبد الحقّ قال خمر)، أخي نحن هنا نريد أغراضاً فوق تحت هنا شخصية، لا يوجد هنا فوق معنا منكر هنا فوق، نعم نعم..  قال عبد الحق: دقيقة أخي، وهرول إلى الداخل، ثمّ عاد ومعه صندوق كرتون مغلق، وقال مبتسماً بكلّ ودّ وسعادة: هذا هي أغراض شخصية، صاحب منزل هذا هنا، وناولها لهما.  

أبو نقّو، وهو يبتلع الحبّة، تناول الصندوق وشكر بحرارة عبد الحقّ، وانطلق مع صديقه يهرولان نحو الشارع، ركبا السيّارة يريدان الانطلاق، لكن قبل ذلك قاما بفتح الصندوق، فإذا به يحتوي على مجموعة لا نهائية من الصور التذكارية و اللاتذكارية لأبي جوني وأهله وأصحابه وجيرانه وأقربائه وأصدقائه من كلّ الأمم والشعوب، وقبل أن تعقد الدهشة الموقف، ويبدأ عنصر الغضب باحتلال المحيط، كان عبد الحقّ يهرول وراءهما على الدرج، ليقفز نحو السيّارة، ويشير لهما كي لا يرحلا، كان في يده رزمة أخرى من الصور، أخرج واحدةً منها وأراها بطريقة خاطفة للرجلين، لكنّهما استطاعا مشاهدة المحتوى عموماً، صورة تذكارية لمجموعة من النساء المُحجّبات، قال عبد الحقّ لأبي جوني تحديداً: شوف هذه هنا مُسلمات نساء، هذه الصورة، لذلك لا يمكن هذه تكون أغراض شخصية من هنا فوق.

تبيّن أنّ عبد الحق لم يُعِد لهما كل “الصور التذكارية”، فاستثنى من ذلك مجموعة من الصور التي فيها نساء محجّبات، لأنّهن مسلمات، بينما صاحب البيت مسيحي فلا يجوز له اقتناء صورهنّ. أبو نقّو بلع الحبّة الثانية فوراً، وشكره بحرارة مرّة أخرى، وعاد ليطلعني على نتائج سير الخطّة التي وضعتُها، سألته: أشو صار معك خاي؟ قال: “هنا… فوق… يلعن… يلعن فوق هنا هناك فوق”.

زر الذهاب إلى الأعلى