السيناريو والسؤال: هل يصنع اليمين المتطرف أوروبا الجديدة؟
بقلم: بين جودا – ترجمة: وسنان الأعسر
طاف الكاتب بين جودا في القارة الأوروبية مؤخرا من أجل تأليف كتابه الجديد “هذه هي أوروبا”، والذي يسعى من خلاله كما يقول إلى توثيق التحول الدراماتيكي الذي تمر فيه ضغط موجات اللجوء التي تواجهها القارة العجوز، وفيه مقاله الهام هذا، يوضح كيف باتت أوروبا تميل إلى اليمين المتطرف، وما هي دوافع ذلك بعد الزلزال الهولندي المتمثل بصعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة هناك. (العربي القديم)
للأسف، لن يجادل أحد في أن بريطانيا، منذ الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الأوروبي، أنها وجهت انتباهها صوب الداخل أكثر. لقد أصبح المجال السياسي الأوروبي ميداناً معزولاً، لكن الأمر لا ينطبق فقط على المحافظين؛ إذ تعد صدمة الليبراليين البريطانيين وحيرتهم إزاء نتائج الانتخابات في هولندا – التي شهدت فوزاً تاريخياً لليمين المتطرف بقيادة خيرت فيلدرز – جزءاً من هذه العزلة أيضاً.
تسونامي اللجوء!
بعدما استهلكت الحروب الثقافية التي بدأت العام 2016 المملكة المتحدة، غاب عنها ككل التحول المناهض للمهاجرين الذي طرأ في الاتحاد الأوروبي. من احتلال حزب فيلدرز، الذي يشن حملة على “تسونامي اللجوء” للمركز الأول في هولندا، إلى حرق الحافلات والعنف الجماعي اللذين اندلعا في قلب (دبلن) في إيرلندا هذا الأسبوع، في مناهضة للمهاجرين، ناهيك عن تقدم حزبالبديل من أجل ألمانيا وحزب مارين لوبين في فرنسا في الاستطلاعات، يتفاعل المجال السياسي في أنحاء القارة كلها مع المستويات التاريخية للهجرة – التي استفاد منها اليمين المتطرف.
وفي العام ،2022 وصل ما يقارب مليون طالب لجوء إلى الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج، إضافة إلى نحو أربعة ملايين أوكراني كانوا قد التمسوا الأمان هناك بالفعل. لقد ارتفعت طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 38 في المئة منذ العام ،2019 مقتربة من أعلى مستوياتها المسجلة في 2016-2015 عندما تحدثت الصحافة الأوروبية للمرة الأخيرة عن “أزمة هجرة”. وتثير هذه الأرقام قلق الزعماء الأوروبيين، ليس فقط لأنها تشير إلى أن أياً من التدابير التي اتخذت العام 2016 لم يثبت كفايته، بل أيضاً لأنها تثير قلق الناخبين الأوروبيين.
هولندا: نهاية العهد الوسطي
في هولندا، انتهى بالتأكيد عهد رئيس الوزراء مارك روته الوسطي الذي دام 13 سنة ويعد فيلدرز مثالا متطرفاً بشكل خاص على نوع من العمل السياسي كان يكتسب أرضية في كل مكان. لقد فاز السياسي الهولندي، الذي بدأت حملته الطويلة للوصول إلى هنا قبل 17 سنة عندما أسس حزب الحرية، بربع المقاعد في البرلمان بفضل دعوته إلى وقف قبول طلبات اللجوء، وصد المهاجرين عند الحدود الهولندية، لكن تصلب المواقف واضح في أنحاء أوروبا كلها.
في ألمانيا: انتهى عصر ميركل
في ألمانيا، عندما يتعلق الأمر بالهجرة، انتهى عصر ميركل بالتأكيد أيضاً. يقول المستشار أولاف شولتز، متحدثاً عن أعداد اللاجئين: “يجب أن نرحلهم أخيراً على نطاق واسع”. وبالنظر إلى أن حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للمهاجرين يحتل في الاستطلاعات المرتبة الثانية، بنسبة 21 في المئة – متقدماً بخمس نقاط كاملة على حزب شولتز الديمقراطي الاجتماعي التاريخي – تعكس تصريحات شولتز المزاج الوطني، فقد جعل فريدريش ميرز، زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي، من الحد من الهجرة عرضه الرئيس، المليء بتعليقات حول أن ضواحي برلين ليست ألمانية بما فيه الكفاية. حتى اليسار الألماني المتشدد أعادت تشكيله الهجرة.
لقد قوضت سارة فاغنكنيشت الكاريزمية حزب اليسار في البرلمان، إذ تبني قوتها اليسارية المناهضة للمهاجرين في المجال السياسي. لا الأسرة سياسية محصنة.
السويد والدنمارك: تحوّل نحو اليمين!
في إسكندنافيا، التي طالما اعتبرتها بريطانيا منارة للقيم التقدمية، اتخذت كل من الدنمارك والسويد منعطفاً يمينياً بالتأكيد في شأن الهجرة. في الدنمارك، قاد ذلك يسار الوسط، الذي في موقفه من اللجوء أو تفكيك “غيتوهات” المهاجرين يقبع في الواقع على يمين معظم أحزاب يمين الوسط الأوروبية. وفي الوقت نفسه في السويد، حيث يعد الديمقراطيون السويديون، اليمينيون المتطرفون، أكبر حزب يدعم حكومة أقلية يمينية، يمكن أيضاً تحديد تحول نحو اليمين في شأن الهجرة. وتجري مناقشة حزم جديدة مشددة حول المكان الذي يمكن أن يعيش فيه طالبو اللجوء أو ما إذا كان يمكن ترحيلهم بسبب ما تسمى “أوجه القصور في نمط الحياة “. صحيح أن الانتخابات في إسبانيا وبولندا سارت في الاتجاه الآخر، لكن في كل منهما، انتصر يسار الوسط بفارق ضئيل على اليمين الذي أصبح متطرفاً بعمق بشأن مسألة الهجرة، ناهيك عن رسوخه.
إسبانيا: الاستثناء الإيبري!
ربما تراجعت حصة حزب “فوكس” اليميني المتطرف في إسبانيا إلى 33 مقعداً من أصل 55 مقعداً، لكنه لم يكن يحتل أي مقاعد في البرلمان على الإطلاق العام .2016 لقد دفن بالتأكيد ما يسمى “الاستثناء الأيبيري” على صعيد اليمين المتطرف. من الواضح أن المفوضية الأوروبية تراقب هذا كله بقلق، لكن ليس بذعر. صحيح أن حزب فيلدرز قد يدعم استفتاء على “نيكست” (خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي)، لكن التوقعات تشير إلى أنه سيسعى إلى التخلي عن ذلك لكي يتمكن من تشكيل ائتلاف.
إيطاليا: صفقة بسيطة!
بشكل عام، ترى المفوضية في (جورجيا ميلوني) في إيطاليا النموذج لما يبدو عليه اليمين المتطرف حين يتولى السلطة بالفعل. يعرض عملها السياسي على شركائها المترددين في الائتلاف صفقة بسيطة: في مقابل السلطة، ستتخلى عن أجندتها المناهضة للاتحاد الأوروبي، بينما تظل مخلصة لأجندتها المناهضة للجوء .
يتمثل السيناريو الحقيقي، الذي يفكر فيه المطلعون في بروكسل، ليس في استيلاء سلسلة من قادة اليمين المتطرف على السلطة ومغادرة بلدانهم للاتحاد الأوروبي، بل في سيطرة هذه الحكومات على مؤسسات بروكسل وإعادة تشكيل أوروبا على صورتها.
فرنسا: رئاسة ماكرون البطة العرجاء
سيعتمد حصول ذلك من عدمه على نتيجة انتخابات العام 2027 في فرنسا – التي تظل، فيما يتعلق بطبيعة الاتحاد الأوروبي، كما كانت أيام نابليون بونابرت، بوتقة أوروبا، ما يثير قلق الليبراليين الأوروبيين، أن رئاسة ماكرون تبدو بالفعل بطة عرجاء بسبب فقدان حزبه السيطرة على البرلمان. ونظراً إلى عدم قدرته على الترشح للمرة الثالثة، يشعر مطلعون باريسيون أن لوبين لديها فرصة حقيقية للوصول إلى الإليزيه هذه المرة – مع أسئلة حقيقية تتعلق بمدى اتباعها قواعد الأداء الخاصة بميلوني؟ واليوم، قد تستهلك المجال السياسي البريطاني مسائل حول ما إذا كانت خطة معالجة طلبات اللجوء في رواندا في الخارج قانونية أم لا – ناهيك عن من ألمانيا والدنمارك كونها قابلة للتطبيق، لكن كثيراً ما ينسى أن كال تنظران في برامج مماثلة. وفي الوقت نفسه ضمنت إيطاليا بالفعل بعض المعالجة الخارجية في ألبانيا. ويعد الس ؤال الأكبر حول ما إذا كان الاتحاد األوروبي سيتحرك، بشكل جماعي، نحو التخلي عن المعاهدات التي تدعم سياسياً: هل تنتمي بقية العقد الثالث من قانون اللجوء أو إصالحها، سؤاال القرن الـ21 إلى أقصى اليمين؟ ثمة شيء واحد ال يمكن أن يدور شك حوله، وهو أن المجتمعات األوروبية قد تغيرت بالفعل بش كل كبير بسبب الهجرة. فرنس ا، التي كانت نسبة المسلمين فيها العام 1950 تبلغ 0.55 في المئة، أصبحت اآلن تضم أكثر من 10 في المئة من المسلمين. وأصبحت ألمانيا، التي أصر المستشار هيلموت كول على أنها ليست “مجتمعاً مهاجراً”، كذلك – لقد ولدت نسبة مذهلة من سكانها تساوي 17 في المئة في الخارج. وولد 14 في المئة من سكان بريطانيا في الخارج – مثل الولايات المتحدة. حتى إيرلندا، التي كانت حتى وقت قريب بلداً تحدده الهجرة منه، أصبحت الآن نسبة المولودين في الخارج من سكانها تساوي 18 في المئة – وهي نسبة أعلى مما هي عليه في الولايات المتحدة.
كيف يبدو الأمر بالنسبة للمهاجرين؟
أثناء تجوالي في القارة من أجل تأليف كتابي الجديد “هذه هي أوروبا”، الذي يسعى إلى توثيق التحول الدراماتيكي في القارة، كان أحد أسئلتي الرئيسة هو: كيف يبدو الأمر بالنسبة إلى المهاجرين أنفسهم؟ كان أحد الأشياء التي أدهشتني أن طالبي اللجوء واللاجئين المتنوعين مثل الرجال السوريين في برلين، أو النساء األفغانيات في أثينا، صدموا هم أنفسهم كيف أن أوروبا ليست أوروبا التي توقعوها – بل قارة تحولت بسبب الهجرة إلى نوع مختلف تماماً من المجتمع . في فرنسا وألمانيا، شعر البعض أن الهجرة أكبر مما ينبغي في الواقع – هجرة أشخاص من مجموعات أخرى. ش عر كثر بأن أفراد الطبقة الوسطى المولودين في أوروبا ليست لديهم أدنى فكرة عن مدى التنوع الذي وصلت إليه المجموعات السكانية العاملة المستندة إلى الهجرة في القارة. أخبرني مهاجرون أنفسهم مراراً أن السلطات الأوروبية تتعامى عن استغلال المهاجرين أو قوة العصابات العرقية. العام ،2024 ثمة فرصة حقيقية للغاية لأن تنتخب بريطانيا حكومة بقيادة السير كير ستارمر، الملتزم قيماً أكثر ليبرالية بشأن اللجوء مقارنة بقيم المحافظين. هناك فرصة حقيقية جداً لحدوث ذلك، مع إلغاء حزب العمال خطة رواندا، تماماً إذ تبدأ دول مختلفة في الاتحاد الأوروبي العمل بنسخها الخاصة من هذه الخطة. شعرت بريطانيا في عصرها الشعبوي بالوحدة في أوروبا، عندما بدت أوروبا كتلة ليبرالية. قد تشعر بالوحدة بطريقة مختلفة تماماً في أوروبا حين يحدد سياسيون مثل خيرت فيلدرز وجورجيا ميلوني الإيقاع.
عن صحيفة (إندبندنت) البريطانية