المقال | شهادة الزور أم الرذائل والمظالم
محمد منصور – العربي القديم
أحزنني جدا ما كتبه الأستاذ غسان عبود على صفحته الشخصية على فيسبوك، عن مؤتمر (أنطاليا) الأول للمعارضة السورية الذي حمل اسم (المؤتمر السوري للتغيير) وعقد أواخر شهر أيار/ مايو ومطلع حزيران / يونيو 2011. والذي كنت أحد حضوره مع العديد من الإعلاميين والزملاء والمعارضين والناشطين السياسيين، كما قمت بإعداد وتقديم رسالة يومية مصورة عنه على الهواء مباشرة لصالح قناة أورينت التي كنت أعمل بها.
ومبعث حزني ليس إصرار الأستاذ غسان الدائم في منشوراته على أنه هو من مول المؤتمر، ثم تراجعه قليلا والاعتراف بأن آل سنقر الكرام سبقوه للتنظيم وأنه موّل بمشاركة مؤجلة منهم (قال أنهم أعطوه عقارين لهم في لبنان لتغطية حصتهم في التمويل)، فهذا موضوع يمكن يمكن لآل سنقر الرد عليه، لكن حزني الحقيقي جاء بسبب اتهام الأستاذ غسان لزميلي الكاتب الراحل حكم البابا أنه كان مخبراً للنظام، نقل له أخبار المؤتمر. فكل من يعرف الزميل حكم يدرك أنه يمكن أن يصلح لأي مهنة في العالم إلا مهنة المخبر… ولمن؟ للنظام الذي دمر مدينته حماة وقتل عشرات الآلاف من أهلها، وكان يكن عداء شديداً لكل من وما يرتبط به جملة وتفصيلا، وظل حتى رحيله عن عالمنا يناصبه العداء بلا أي خط رجعة.
ومع أنني قرأت كما قرأ غيري، ما يكتبه الأستاذ غسان من تداعيات فيسبوكية يستعيد فيها نتفاً من ذكرياته وذاكرته ويحدثنا فيها عن نشاطاته وتبرعاته وما بذله من أجل الثورة، إلا أنني لم أجد نفسي معنياً بهذا الخطاب سوى كقارئ مطلع قد يمر مرور الكرام، فيضع علامة إعجاب إن أعجبه النص والفكرة، ويلوذ بالصمت إن رأى فيه غير ما يعرفه حقيقة… فهو حر أن يقول ما يحلو له، ما دمنا نعيش موضة الاعترافات والتداعيات والاستذكارات الحكائية غير المقرونة بأية وثائق أو قرائن كما نرى في ظاهرة البودكاست المنتشرة اليوم بلا حساب… لكن منشوره الأخير الذي ذكرني فيه كشاهد مع الزميل والصديق العزيز إياد عيسى، وضعني أمام خيارين أحلاهما مر:
– إما أن أصمت وهذا يعني أنني موافق على صحة الرواية التي يذكرها
– وإما أن أكتب لأرد فيغدو هذا السجال مثار أخذ ورد ممن يريد استجلاء الحقيقية، ومن يريد الثرثرة والصيد في الماء العكر في فضاء السوشال ميديا.
وقد قررت أن أكتب متجشما عناء الأخذ والرد، لأنني شخص أؤمن أنه لا يوجد ظلم وافتراء في الدنيا، أكثر من الظلم الذي توقعه شهادة الزور، وقد جاهدت خلال سنوات طويلة ألا أكون شاهد زور على شيء شهدته بنفسي وكنت طرفاً فيه، لإيماني المطلق أن شهادة الزور هي أم المظالم والرذائل قاطبة.
منشور غسان عبود:
سأستعيد بداية منشور الأستاذ غسان عبود قبل تفنيد ما ورد فيه لمن لم يطلع عليه:
في ذلك المساء عشية انعقاد مؤتمر أنطاليا وانطلاق صيحات اسقاط النظام، كان حاضراً مراسل الجزيرة، لا يحضرني اسمه أذكر أنه كان أشقر البشرة، كان له حضورٌ رائع قام بتغطية الأمسية بحماسة على قناة الجزيرة، بعد تلك التغطية انقلبت قناة الجزيرة من حالة برودٍ تجاه حدث الثورة الى حالة المشاركة به بفعالية كبرى! (أتمنى ممن يعرف اسمه كتابته في التعليقات ليتم توثيقه)؟!
في ليلة عقد المؤتمر أشاع أولاد سنقر أنهم الممولين الوحيدين للمؤتمر، كما حاولوا الغاء كلمتي الافتتاحية فيه، وكذلك أججوا عليّ غضب بعض المشاركين في المؤتمر لأني لم أتبنى أسماؤهم وأضغط أن يكونوا أعضاءاً في اللجان المنبثقة عن المؤتمر.
الكاتب حكم البابا، الذي انضم قبل ثلاثة شهور لفريق أورينت، غضب أكثر من الجميع لأني لم أدعم ترشحه لترأس احدى اللجان، مع أني بررت له ولفريق أورينت المشارك في المؤتمر، آنذاك، بأني: “لم أدعم ترشحكم وأنا نفسي ابتعدت عن الترشح لأني أخشى أن يظن السوريون أنها ثورة أورينت على النظام ولا شأن لهم بها وخصوصاً أني والأورينت العدو الوحيد للنظام على اعلامه آنذاك”. وسأعود لهذه النقطة شرحاً فيما بعد. لكن حكم البابا ذهب في حنقه بعيداً حين ضبطهُ زملاؤه ينقل أخبار المؤتمر الى النظام السوري عبر التواصل مع فؤاد بلاط مدير تلفزيون النظام، آنذاك، كما تبين أنه يتواصل أيضاُ مع أعضاء هيئة التنسيق، وهؤلاء بينهم من يعمل لدى المخابرات السورية، يحضهم على عدم الاشتراك والاعتراف بالمؤتمر، وحين واجهته بالحقائق، بحضور الاعلاميين الناشطين جداً خلال المؤتمر محمد منصور واياد عيسى، بُهتَ، وامتقع و جه ولم يستطع الانكار. حينها قلت له بغضب: “ان أكرمني ربي بنجاح الثورة لآخذ تلك الأدلة لمحكمة في حماة تحاكمك وتشنقك في ساحة العاصي”. وطلبت منه الاستقالة من أورينت فوراً؟! طبعاً لم يكن هو المخبر الوحيد في المؤتمر! … ســــوريـا حـرّة.
مغالطات عامة وخاصة
ردا على هذا الكلام أود أن أوضح ما يلي:
الذاكرة تخون الأستاذ غسان عبود في التفاصيل العامة قبل الخاصة، وسأبدأ بالمغالطات التي تخص أحداثا عامة موثقة، يسهل التثبت من تحققها:
- تغطية قناة (الجزيرة) للثورة السورية، لم تنقلب بعد نقل أمسية مؤتمر أنطاليا التي ألقى فيها كلمة ختام المؤتمر، بل تحولت بعد تسريب صور قرية البيضا في بانياس يوم الجمعة، في الخامس عشر من نيسان (إبريل) عام 2011. والتي شكلت صدمة كبيرة في حينها، حين شوهد جنود جيش الأسد يدوسون أهالي قرية البيضا بأرجلهم ويذلونهم، وحين استكلب النظام في تكذيب هذه الصور والقول أن هؤلاء بشمركة والمكان ليس في سوريا. وقد وثقت الحدث الذي شكل تحولا في التغطية الإعلامية العربية بكل تفاصيله، في فيلم وثائقي أنتجته قناة أورينت عام 2012 بعنوان (صور بعد عام).
- لم تكن هيئة التنسيق الذي يتهم غسان عبود الزميل الراحل حكم البابا بالتواصل مع أعضائها الذين لهم علاقات بالمخابرات، قد شُكّلت في ذلك الوقت (أيار 2011) فالمعروف أن هيئة التنسيق قد شكلت في (تشرين الأول 2011) خلال اجتماع في بلدة حلبون بريف دمشق.
- لم يكن الأستاذ فؤاد بلاط في ذلك الوقت (2011) مديرا لتلفزيون النظام كما ذكر غسان عبود في منشوره، فقد غادر هذا المنصب (وكان مديرا عاما لهيئة الإذاعة والتلفزيون) منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين.. وكانت له صفة استشارية في وزارة الإعلام تتراوح فعاليتها بين وزير وآخر.
أما فيما يخص التفاصيل الخاصة بمؤتمر أنطاليا فسأوضح ما يلي:
- لم يُشِع الأخوة سنقر أنهم من مولوا المؤتمر كما يقول الأستاذ غسان. فالمؤتمر كان تجربة أولى لاجتماع السوريين على هذا النحو العلني الواسع والمعارض للنظام، والمتنوع بأطيافه، وكانت تجربة جديدة ومفرحة بقدر ما كانت مرتبكة ومتوترة. كانت هناك قضايا أخرى تشغل السوريين أكثر من قضية من مول المؤتمر، ومن دفع ولم يدفع. ولا ننسى أنه أثناء انعقاد المؤتمر تم تسريب صورة تعذيب الشهيد الطفل حمزة الخطيب، وكانت على قدر من الوحشية والاستفزاز واستأثرت حينها بالأحاديث والنقاشات. كما أن رامي مخلوف كان قد أرسل طائرة تضم عشرات الشبيحة للتشويش على المؤتمر والتظاهر ضده، وقد تصدى لها الأتراك بضرب طوق أمني حول مقر انعقاد المؤتمر لمنع أية قلاقل… ناهيك عن الخلافات السياسية داخل المؤتمر بطبيعية الحال، وخصوصا بين وفد العشائر العربية والأخوة الأكراد، والخلافات حول البيان الختامي ومحاولة إزالتها… فهل يعقل والحال هذه أن يكون هَم آل سنقر أو غيرهم أن يقولوا نحن مولنا أو فلان مول؟! هذا كلام معيب فعلاً ولم يحدث أبداً، وكان الكلام الذي انتشر أن المؤتمر موله رجال أعمال سوريون، ولم يذكر أبدا لا آل سنقر ولا غيرهم.
- نعم تم الاعتراض على إلقاء غسان عبود كلمة في حفل الختام، وتمت مناقشة إن كان هو الأحق بإلقاء كلمة أم لا.. وهذا أمر طبيعي في ظل وجود معارضين قدامي ولهم باع طويل في مقارعة النظام أكثر منه في ذلك الوقت، (لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أشهر على اندلاع الثورة)… وكان المطروح أن يلقي د. عبد الزراق عيد كلمة الختام كمعارض قديم وهو الأكبر سنا، وعضو الأمانة العامة لإعلان دمشق، ولكن الأستاذ غسان تمسك بإلقاء الكلمة، وكان له ما أراد، مراعاة له بعد إلحاح وأخذ ورد.
- لم يكن غسان عبود هو من يتبنى أولا يتبنى الأسماء للجان المنبثقة عن المؤتمر، ولم تكن له سلطة على ذلك. أساسا لم يكن هناك أي أثر ملموس للجان بعد أن انفض المؤتمر.
- بالنسبة للزميل حكم، أعترف أنه قد أثار جملة من المشاكل داخل المؤتمر بسبب طبيعته العصبية النزقة وتشبثه برأيه، وكانت إحدى أهم تلك المشاكل هي خلافه الشخصي مع الدكتور عبد الرزاق عيد، وطلبه من آل سنقر الذين كانت لهم الكلمة العليا في المؤتمر على الصعيد الإداري، أن يتم استبعاد د. عيد، وقد رفضوا ذلك بشدة بالطبع، كما انزعجوا من حكم أيضاً لأنه كان يعدهم بأنه يتواصل مع د. برهان غليون وأنه سينجح في إقناعه بحضور المؤتمر، ولكن هذا لم يحدث ولم يفلح بإقناعه بحضور المؤتمر… لكن أبداً لم يكن حكم البابا يطمح ليكون على رأس اللجان المنبثقة من المؤتمر، ولم يطلب ذلك لا من الأستاذ غسان ولا من غيره. علماً أن كلمة حكم كانت مسموعة في المؤتمر ومعتبرة ولم يكن بحاجة لأحد كي يدعمه.
- إذا كان الأستاذ غسان يقصدني بالقول أن زملاءه ضبطوه وهو يتواصل مع فؤاد بلاط، فأنا الحقيقة لم أضبط أحداً، وأساسا حكم ليس من السذاجة والبلاهة كي يضبط وهو يتحدث مع شخص لا يريد لأحد أن يعرف أنه يتحدث معه. وأذكر بعد انتهاء المؤتمر وعودتنا إلى دبي، أن حكماً قد قدم استقالته من أورينت مباشرة لأن الخلاف كانت قد تفاقم بينه وبين غسان عبود، كما أخذ يتناوله بأحاديث ساخرة في مجالسه الخاصة وهناك من أوصلها له من أولاد الحلال. لكن لا أذكر أنه تم ضبطه أثناء عقد المؤتمر وهو يتواصل مع الأستاذ فؤاد بلاط وينقل له الأخبار. التي كانت متاحة من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء التي حضرت بطبيعة الحال، بل قيل لي هذا الكلام بعد انتهاء المؤتمر وعودتنا إلى دبي. قيل أن حكم كان يتواصل مع الأستاذ بلاط. واتهمه غسان عبود بأنه مخبر.
- للتوضيح كان الأستاذ فؤاد بلاط سنداً لكل الصحفيين المشاكسين قبل الثورة، ومنهم حكم البابا الذي كانت تربطه به صداقة وثيقة تجعله ينتقد النظام أمامه وفي بيته… وكان يساعدنا بلا أي ثمن كلما استدعينا إلى أفرع الأمن للتحقيق أو وقعت عقوبات منع أو إيقاف عن العمل بحقنا، وهذا حدث معي شخصيا أكثر من مرة. وقد كتبت ذلك بعد رحيل الأستاذ فؤاد في منشور مطول على صفحتي.
أخيرا لا يخفي على أحد ان ما يكتبه غسان عبود، يحتاج لتمحيص وتدقيق في المعلومات العامة والخاصة معاً، لأنه يدخل في نسيج تاريخ ينبغي أن نحرص قدر الإمكان أن نكون شهود عدل عليه لا شهود زور. وأن الكتابة على هذا النحو، إذا أحسنّا النية في قراءتها ودوافع كتابتها، لا تعدو كونها محاولة لتعزية النفس في زمنٍ يشعر الأستاذ غسان أنه لم يعد صاحب قرار أو حضور فيه، فلا أقل أن يكون صاحب ذكرى وحكواتي ذكريات.
تعليق واحد