السُّوريُّ المتعَب والضَّحك آخر اللَّيل
يستغرب نفرٌ من المثقَّفين من عدد المشاهدات الكبير الَّذي تحصده بعض مقاطع الفيديو التَّافهة، ويستنكر ذلك آخرون، ويندب قسم ثالثٌ حظَّه وسوء طالعه، ويحاول كلُّ فرد أن ينظِّر في هذه المسألة، أو ينظر إليها من منظوره الخاصِّ، ويُجمع قسم لا بأس به من المنظِّرين على دور مؤسَّسات تكريس التَّفاهة في نشر الرَّداءة وتسويقها أيضًا؛ ولكنَّنا -وللإنصاف- لا يمكننا أن نجعل مؤسَّسات تكريس التَّفاهة شمَّاعة نفسِّر من خلالها سطوة الإعلام الرَّقميِّ الجديد، والاختراق الهائل الَّذي تحقِّقه بعض مقاطع الفيديو من حيث عدد المشاهدات، وإنَّني أميل في هذا المقام إلى تشبيه زيادة عدد المشاهدات بارتفاع مبيع بعض الكتب برغم سطحيَّتها أو بساطة أفكارها؛ لأنَّ غايات الإعلام والكتابة وأغراضهما تختلف من مكان إلى آخر، وتتأثَّر هذه الغايات-مباشرة-بالسِّياق والزَّمان والمكان والعرض والطَّلب وحاجات السُّوق أيضًا، ولا تهدف إلى تقديم المتعة والفائدة دائمًا بقدر ما تهدف إلى تسليع المتلقِّي أو تحويله إلى سلعة من خلال اللَّعب على مشاعره وعواطفه واصطياده من خلال مقاطع اللُّهو المضحكة الَّتي يبحث عنها للتَّرويح عن نفسه؛ فيغدو مثل السَّمكة الَّتي تبحث عن طعامها فتبتلع طُعم الصَّيَّاد؛ وتصير سلعته الَّتي يبيعها أو طعامه على العشاء.
مشاهدو وقت الذُّروة
والحقُّ إنَّ تأثير القيم الثَّقافيَّة والجماليَّة والفنِّيَّة والأخلاقيَّة الَّتي تكتنزها بعض الكتب ومقاطع الفيديو المرئيَّة أقلُّ بكثير من تأثيرها في غرائز المتلقِّي وحاجاته الفطريَّة؛ ولأنَّ المتلقِّي يعود إلى بيته مساء متعبًا جائعًا بعد تعب يوم طويل يبدأ بمشاهدة مقاطع الطَّعام؛ لذلك تحقِّق المقاطع الَّتي تسدُّ جوع الإنسان مشاهدات عالية؛ جوعه؛ ولا ننسى أنَّ للجوع أنواعًا؛ جوع للطَّعام، وجوع للعطف والحنان، وجوع للجنس، وجوع للضِّحكة والابتسامة بعد يوم تعب طويل؛ كان الإنسان العامل المغترب أشبه بآلة عمل؛ الكلُّ يراقبه، ولا أحد يسامره أو يبتسم في وجهه؛ وبسبب العمل ذاته قد يتشاحن مع زميله، وقد يوبِّخه مديره، فلا مكان في زمن العمل المضني للتَّسلية أو التَّرويح عن النَّفس في يوم العمل الطَّويل؛ ولهذا أيضًا صار هناك ما يُعرف بوقت الذُّروة؛ الّذَي يحتشد فيه أكبر قدر من المشاهدين في منصَّات التَّواصل الاجتماعيِّ، وغالبًا ما يكون وقت الذُّروة في ساعات المساء الأولى، بعد عودة العُمَّال المتعبين إلى بيوتهم، وعند انتظار العشاء يتابعون مقاطع تحضير الطَّعام، وبعد الطَّعام يتسامرون قليلًا من أولادهم، وبعد يوم طويل كان فيه كلُّ شخصٍ عابسًا في وجههم؛ زميل العمل، ومدير المعمل، وقد يكون يتلقَّى نظرة دونيَّة من شريكه على المقعد في حافلة النَّقل الدَّاخليِّ؛ ولهذا كلِّه يتصيَّد هذا النَّوع من البشر المتعبين البسمةَ حتَّى وإن كان صانعها شخصٌ تافه أو مهرِّج على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ حتَّى لو كانت بسمة مزيَّفة، تُسلِّع الإنسان، ومع تكرار هذا السُّلوك اليوميِّ تتبلَّد مشاعر الإنسان، ويغدو سلعة حقيقيَّة، يغدو مدمنًا على أشياء تافهة؛ بسبب قسوة الحياة ومرارتها، وليس لأيِّ سبب آخر، فتراه في معرض الكتا- لو زاره-يبحث عن المقهى والمطعم هناك، يسأل عن عناوين كتب تداعب مشاعره؛ هذا إن فكَّر بالقراءة أو كان لديه وقت للقراءة أو مال لاقتناء كتاب، وتأثير عوامل المتعة والتَّرفيه والتَّسلية في متابعي مقاطع الفيديو على قنوات التَّلفزة ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ أكثر سطوة من تأثير بساطة الفكرة ورشاقة الأسلوب في القرَّاء وروَّاد المكتبات ومعارض الكتب.
صفحات مشاهير الطَّبَّاخين
أزعمُ -بعض الأحيان- أنَّني مثقَّف يبحث عن القيمة والفائدة في كثير من مقتنياته ومشاهداته، وبرغم زعمي هذا حين أعود إلى بيتي متعبًا عند المساء بعد ساعات عمل طويلة في بلاد المهجر أجد نفسي في كثير من الأحيان -وأنا أنتظر مائدة الغداء أو العشاء- قد غرقت بين مقاطع الفيديو، التَّي تشرح تحضير وجبات الطَّعام الدَّسمة والمقبِّلات الخفيفة معها والحلويَّات اللَّذيذة بعدها، وأتجوَّل في معظم الأحيان بين صفحات مشاهير الطَّبَّاخين في سوريا وتركيا وغيرهما، ولو تذكَّرتُ مشكلة من المشكلات خلال يوم طويل من العمل أدفعها بعيدًا، وأبحث مباشرة عن ضحكة في مقطع من مسرحيَّة مدرسة المشاغبين أو أهروجة من أهاريج غوَّار الطُّوشي أو ملوك التَّفاهة في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ وهذا أنا-برغم ادَّعاءاتي الثَّقافيَّة-صرتُ سلعة مثل غيري أيضًا، ومنحتُ تلك المقاطع المصوَّرة عددًا كبيرًا من المشاهدات، وأسهمت بتحويلها إلى (تريندات)-برغم انتقادي لمحتواها-مثل: (آه يا حنان!) و(تحضير القهوة بدقيقة واحدة).
والحقُّ أنَّني لا أشعر بالنَّدم على متابعة تلك المقاطع المصوَّرة؛ لأنَّ النَّفس البشريَّة -من وجهة نظريي-تحتاج إلى التَّرفيه والإمتاع والمؤانسة بعد ضغط عمل يوميٍّ طويل، ولا يمكن إغراقها بالجدِّ ومحاصرتها بالقيم المطلقة والقوانين الصَّارمة على مدار السَّاعة؛ لذلك لا أستكثر على ذاتي أن أضحك كلَّ يوم مساء مع مقطع شهير من مقاطع مسرحيَّة (مدرسة المشاغبين) الشَّهيرة برغم انتقادي لمحتواها التَّربويِّ أو القيميِّ؛ لكنَّني وبرغم ادِّعاءاتي المنطقيَّة والعقلانيَّة أشعر بالنَّدم حين أُشاهد بعض المقاطع المرئيَّة المصوَّرة، بقصد حينًا، ودون قصدٍ أحيانًا أخرى، فلكلِّ يوم (ترينداته) التَّافهة، وقلَّما أدخل مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في الوقت الرَّاهن دون أن يعترضني مقطع مرئيٌّ أو تصريح أو تحليل أو أغنية أو تهكُّم حول مواضيع السَّاعة الرَّاهنة. أتحفنا مفتي بشَّار الأسد أحمد بدر الدِّين حسُّون سابقًا ببعض تفسيراته الخاصَّة لسور قرآنيَّة وأحداث تاريخيَّة، قلتُ في نفسي حين رأيت بعضها: لعلَّ هذا الرَّجل يُفسِّر بالاستناد إلى قوانين (مدرسة التَّفسير بالرَّأي)، وقلت حينًا آخر: لعلَّه يفسِّر بالاستناد إلى (شطحات صوفيَّة)، وتذكَّرتُ نقاشي السَّابق مع صديقٍ يؤمن-لقناعته الخاصَّة-بأنَّ القرآن الكريم لم يترك شيئًا إلَّا وتحدَّث عنه، وحين سألتُ صديقي عن الكهرباء في القرآن الكريم؛ قال لي: ألم تقرأ قوله تعالى في سورة الهُمَزة: (في عَمَدٍ مُمَدَّدة)؛ وهذه -في اعتقاده- أسلاك الكهرباء؛ ممدَّدة في أعمدة، وتصعق كلَّ من يلمسها.
تنظيرات أحمد بدر الدِّين حسُّون
عُدتُ مرَّة متعبًا من عملي، ووصلت إلى بيتي آخر اللَّيل، وبدأت أتصفَّح مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ فظهر لي أحمد بدر الدِّين حسُّون في تأبين الرَّاحل صباح فخري رحمه الله، وتحدَّث الحسُّون عن خريطة سوريا في القرآن الكريم أمام حشد من المعزِّين بصباح فخري، وفي القاعة الَّتي استبدوا فيها صور الفقيد الرَّاحل بصورة أكبر منها لبشَّار الأسد، وتساءل المفتي السَّابق عن خريطة سوريا في القرآن الكريم؛ فتذكَّرت حديث صديقي عن الكهرباء والعَمَد المُمدَّدة، وبدأتُ أضحك آخر اللَّيل، ثمَّ قرأ المفتي قوله تعالى: (والتِّين والزَّيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثمَّ رددناه أسفل سافلين)، وقال: ترسم شجرتا التَّين والزَّيتون حدود (سوريا الأسد)، دون أن يسأل عن أشجار التِّين والزَّيتون الأخرى الممتدَّة من شرق العراق إلى غرب تونس وإسبانيا على أقلِّ تقدير، ثمَّ أقحم الشَّيخ كلامه داخل الآيات القرآنيَّة الكريمة وفي سياقها، وقال: (خلقنا الإنسان في هذه البلاد- في أحسن تقويم؛ فإذا ترك هذه البلاد؛ رددناه أسفل سافلين)؛ وحين خشيت أن يردِّد شعار حزب البعث العربيِّ، ويقول: (أمَّة عربيَّة واحدة، ذات رسالة خالدة) في آخر التَّفسير رحتُ أضحك بصوت أعلى؛ فقد خلط الرَّجل تفسيره منهاج التَّثقيف الحزبيِّ في معاهد حافظ وكلِّيَّات بشَّار الأسد لتدريس الشَّريعة وفقًا للمقاصد الأسديَّة منها.
وبرغم حياة الهجرة القاسية لم يسلم المهاجرون والنَّازحون السُّوريُّون من شظايا تفسير المفتي السَّابق؛ فهم -باعتقاده- لم يجدوا في مهجرهم من يُثقِّفهم، ويتحفهم بمثل هذا التَّأويل، وفي المستقبل لن يجد المتوفَّى منهم شيخًا دعيًّا يصلِّي في جنازته، ويتحدَّث في عزائه مثل الحسُّون. وتنظيرات الحسُّون هذه مع حديث مقيت لأستاذ جامعيٍّ بعثيٍّ آخر عن الانتماء والوطنيَّة أعاداني إلى مقاطع الطَّبخ والتَّهريج حتَّى نمت وحلمت بسوريا جديدة ليس منافقون وانتهازيُّون، تشبه سوريا القديمة، الَّتي قدَّم مثقَّفوها الحقيقيُّون في إيبلا تاريخ العالم القديم وأرشيفه مدوَّنًا على رُقم ترجع للألف الثَّالث قبل الميلاد، وقدَّم أحفادهم الفينيقيُّون أقدم أبجديَّة للعالم، وساهموا بالقضاء على العبوديَّة وتسليع الإنسان، وحرَّروا البشريَّة من الجهل وتبعيَّة المجرمين.