أرشيف المجلة الشهرية

وجوه عرفتها من آل الأتاسي: شهادات من مراقب غير محايد

سيف الدين الأتاسي- العربي القديم

حمص أكثر المحافظات السورية مساحة وأكثرها تنوعاً، إذ تشغل منطقة الوسط الممتدة من بادية الشام شرقاً، والمنتهية بالحدود مع لبنان غرباً، ولقد ساهم موقعها بجعلها منطقة اتصال سياسي واجتماعي واقتصادي وإنساني مهم،  فالجغرافيا أم التاريخ . وغالباً ما عُرف آل الأتاسي في تاريخ سورية المعاصر، من خلال دورهم في العمل العام، وكان المدخل لهم المجال الديني والإفتاء.

يذكر الأستاذ فارس الأتاسي في كتابه القيم: (آل الأتاسي… في العهد العثماني)، الصادر عن جمعية الأتاسي الاجتماعية في تركيا، عن اللقاء الذي جمع السلطان العثماني سليمان القانوني، والشيخ شهاب الدين أحمد الأتاسي في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، إذ منحه السلطان منصب الإفتاء في حمص كأول مفتيّ في حمص والعائلة.

وفي القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1870، تم تعيين حسن أفندي الأتاسي ابن المفتي سعيد في منصب رئاسة البلدية في حمص، لكن مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، ورحيل العثمانيين عن سورية، حدث تغيير جوهري داخل المجتمع السوري، لكن حافظت العائلة على الدور الديني، من خلال سيرة طاهر الأتاسي، وإرسال الدارسين من العائلة للتحصيل العلمي، وسوف يتقدم هؤلاء الصفوف في تاريخ سورية المعاصر.

ويذكر التاريخ أن ثلاثة من أبناء العائلة، قد تولوا منصب الرئاسة في سورية، وكان في مقدمتهم (هاشم الأتاسي)، أبو الدستور السوري الذي تولى الرئاسة في أعوام 1936 _19949، ثم عام 1950.

ولقد كُتبت الكتب، وأُجريت الأبحاث حول هذا الرجل الجليل، وهناك أيضاً (الفريق لؤي الأتاسي) عام 1963، والدكتور نور الدين الأتاسي  من  1966 __ 1970.

لؤي الأتاسي ولقاءات مقهى الفرح

تعرفت على (الفريق لؤي الأتاسي) عام 1990 في مقهى التوليدو بحمص، كان من رواد المقهى باستمرار في فترتين صباحية ومسائية. كان صارماً شديد الحساسية، لا يحب أي أحد أن يحاسب عنه، وهو غير مستعد لدفع الحساب عن أحد. نظام “ظبط وربط”.. ملامح وجهه قاسية، لكن بداخله قلب طفل. ولم يغب عن ذاكرتي تلك الحادثة، عندما اتصل بي المحامي غالب العوير، وأبلغني أن مذيع قناة الجزيرة (أحمد منصور)، يفتش عني للحصول على موعد معي بحمص، حيث كان موجوداً في المدينة من أجل أمر هام.

تقابلنا نحن الثلاثة في 28/ نيسان/2003، بعد الغزو الأمريكي للعراق، وسقوط نظام صدام حسين. تم اللقاء في مقهى الفرح، وكان الموضوع أني من المقربين إلى لؤي الأتاسي، وعليّ إقناعه بأن يسجل مع قناة الجزيرة لبرنامج (شاهد على العصر).

بعد حديث طويل، وعدت أن أعرض الموضوع على الفريق لؤي بشكل إيجابي، واقترحت أن يعادل التعويض المادي، ما تم منحه لأمين الحافظ، وكان امتعاض منصور من قصر مدة الفريق لؤي عن مدة أمين الحافظ، لكن قلت يمكن حلقة واحدة مع الفريق لؤي الاتاسي أهم من كل حلقات أمين الحافظ، وافترقنا ومعي مسودة عقد أعطاني إياه المحامي غالب العوير.

صباح اليوم التالي ذهبت إلى مقهى التوليدو بحمص، دخلت ووجدت الفريق لؤي ممتعضاً، ولم يرحب بوجودي، ولم يقل لي اجلس. فهمت أن حديث مقهى الفرح أمس، قد نُقل له بتحريف كبير، فالمخبرون والفضوليون مع أحمد منصور كثر.

بعد فترة صمت، بدأ حديثه معي بعتاب، أنني فاوضت أحمد منصور على المبلغ، وإن الرسالة التي انتشرت في المدينة أن الفريق لؤي الأتاسي وافق على مبدأ تسجيل مذكراته، ولكن منتظر الاتفاق على السعر…!

التزمت الصمت، ولم أرد، وبادرت، أنا لم أفاوض أحمد منصور، لكن وضحت له قيمة الحلقات، وأهمية المقابلة معه، وقلت: “لاشك أنك أنت صاحب القرار بالموافقة أو الرفض…”.

بعد مدة من الصمت المزعج والمقيت، بادر بالكلام معي، وعلى وجهه ابتسامة: كم تتوقع عمولتك عن البرنامج؟

ضحكنا معاً بصوت مرتفع، لدرجة أدهشت أبا جعفر مندوب الأمن في المقهى، ثم قال لي: من يوم تركت السلطة، ودمشق والعمل العام، وعدت الجميع بعدم إعطاء أحاديث، أو أي مقابلات إعلامية، ولم يبقَ لي في مشوار العمر الكثير، وسوف أظل وفياً لكلمتي، اذهب لأحمد منصور، واعتذر منه.

بعدها بشهور، وفي 24 تشرين الثاني عام 2003 توفي رحمة الله عليه.

نور الدين الأتاسي: كواليس التحضير للجنازة والدفن

أما الدكتور(نور الدين الأتاسي)، والذي أمضى 22 سنة في زنزانة في سجن المزة بدمشق، من دون أن يحاكم أو توجه له تهمة، والذي أطلق سراحه ليموت في باريس، بعد أسبوع من وصوله إليها محمولاً على نقالة في كانون الأول عام 1992، فقد كنت شاهداً على كواليس التحضير للجنازة والدفن.

من وقت وصول خبر وفاته رحمه الله إلى بيت العائلة بحمص، كان الغموض يلف كل شيء. هل وصل الجثمان من باريس؟ الجنازة على صلاة الظهر أم العصر، أم نؤجل..؟ ماذا نقول في أوراق النعي، هل نكتب الرئيس السوري السابق؟

بعد مدة وجيزة، كانت دورية للأمن في السيارة، مقابل شقة بيت العائلة بحمص، تحصي أنفاس الناس كالعادة.

النهار قصير في الشتاء، وبارد في جو حمص، على كلّ وجدنا شباباً من العائلة، بيدهم أوراق نعي يلصقونها على باب مدخل بيت العائلة. كلو عادي، لكنْ طابعين الاسم (الشهيد نور الدين الأتاسي)، وقد أصبح تداول أوراق النعي كمنشور سياسي، وبدا استنفار من أجهزة الأمن لتمزيق أوراق النعي، وخاصة من دار الحكومة، والمقاهي والجوامع. في حوالي التاسعة مساء جاء ضابط من الأمن السياسي بلباس مدني كالعادة، قدّم العزاء، وأبلغنا أننا كنا في عجلة من أمرنا، وطبعنا أوراق النعي، وأن مراسم رئاسة الجمهورية سوف تسلم السيارة التي تنقل النعش أوراق نعي للمرحوم.

المهم بالنسبة لنا الرسالة وصلت،  وصل النعش إلى منزله، ثم المسجد، بعدها انطلقنا في جنازة مهيبة بالسيارات نحو مقبرة العائلة على طريق حمص/ دمشق في أرض قرية كفرعايا. كان رتل سيارات المشيعين يصدر زموراً واحداً متقطعاً كل بضع ثوان، وبإيقاع موحد وحزين وعميق وجليل، مع حضور أمني مكثف

بعد أسابيع، تم وضع شاهدة القبر يزينها تسبقها آية قرآنية عن الشهداء ووصف: (قبر المجاهد نور الدين الأتاسي). وتاريخ استهشاده. هنا لا سلطة لكم… ما أضعفكم!

والدي راشد الأتاسي وقائمة الأحرار

ومن جولة الذاكرة أحببت أن أذكر شهادة الأستاذ المحامي إدوارد حشوة عن والدي المحامي راشد الأتاسي  1928-1991

كان راشد الأتاسي يمثل الجناح الأقرب للناس من عائلة الأتاسي. حين طلب منه الأستاذ إدوارد، وحج ديبو العدوي، والشيخ نديم الوفائي، والمحامي موريس صليبي، وأُدخل لأول مرة ذلك الشاب المتقد بالحماس (غازي زعيتر) من بابا عمرو البطلة.

وشكل راشد الأتاسي قائمة الأحرار في أول انتخابات، جرت في سورية بعد استلام الطاغية الأب في عام 1972، ضد قائمة السلطة (الجبهة الوطنية التقدمية)، وبعد مهرجانات ونشاطات انتخابية في أحياء حمص الشعبية، سقطت قائمة النظام كلها.

وبعد مشاورات معمقة، وخوفاً من وحشية النظام كان رأي والدي أن هذا الانتصار هو رسالة معارضة، ويجب تجنب القمع؛ لذلك بناء على كل ما سبق تم استقالة جميع الفائزين،  وقال: لم نكن نسعى إلى المناصب،  ولكن سجلنا موقفاً، وكان ذلك أول معارضة في الزمن الصعب.

عصام فكري وعبد الحميد الأتاسي

أيضاً تزاملت على مقاعد الدراسة مع عصام فكري الأتاسي. (1959  __  31/10/2013) كان المرحوم جريئاً، وشعلة من النشاط، وكان يعرف أن هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأن أمام الناس مهمات شاقة، وتضحيات كبرى. كان من قادة الحراك الشعبي السوري، نظم ساحة الساعة، عندما صدحت الأصوات في  18/04/2011: “سلمية…. سلمية… إسلام… ومسيحية” سط مدينة حمص، لكن النظام واجههم بالنار، وحصلت المجزرة، وافته المنية شهيداً تحت التعذيب في أقبية المخابرات التابعة للنظام.

ومن المصادفات الجميلة أنني تعرفت في باريس على المخضرم المهندس عبد الحميد الأتاسي، وهو أحد أبرز الموقعين على إعلان دمشق، وأحد أشهر المناضلين من أجل حرية السوريين. بدأ عبد الحميد الأتاسي برفض الاستبداد من سبعينات القرن الماضي، وقد فرض عليه موقفه هذا مغادرة سورية عام 1978.

كان عبد الحميد الأتاسي مثالياً، ويملك الكثير من الخبرات، يمتلك الروح السورية الأصيلة، لم يصبه الخذلان من تصرفات المعارضة السورية المفككة، وكان يعرف موت السياسة تحت ظلال الأبد السوري.

توفي المرحوم بعيداً عن وطنه، ودُفن في باريس 16/07/2021.

رحم الله المناضل عبد الحميد الأتاسي، ولابد أن يبزغ فجر الحرية على سورية التي تعشق ولو بعد حين.

منصور الأتاسي: أتعب أفرع الأمن بحمص

بدأنا نسمع اسم منصور الأتاسي (أبو مطيع)،عندما كنا طلاباً في الثانوية 1976، كان مؤسسة متنقلة، يتكلم في كل المواضيع: توكيل محامٍ لمظلوم وزيارته في سجنه، نشاطات اجتماعية، كتابة مقالات، توزيع جريدة (صوت الشعب) سراً وعلانية، جمع تبرعات. وكان منصور الأتاسي عنده حس سياسي، ويقول لنا، لن يسقط النظام إلا الحزب الشيوعي السوري، لكن لابد من توحيده. أتعب أفرع الأمن بحمص، كان معروفاً بالمواقف الواضحة، وجاهر برأيه حول رفضه التوريث، ورفضه تحويل سورية من جمهورية إلى جملكية.

أسس اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في 18/10/2002؛ لذلك كانت هناك اجتماعات أسبوعية تقريباً بدمشق مع الأستاذ قدري جميل، ودانيال نعمة، ولما تفجرت الثورة السورية في آذار 2011، كان عضواً في هيئة التنسيق، ثم زادت الضغوط عليه في الداخل السوري، فغادر حمص نحو تركيا مرغماً، أسس حزب اليسار الديمقراطي السوري، وعُرف عن المرحوم أبي مطيع، أنه رجل التوافق والصبر والاستماع أكثر من الكلام، وظل أبو مطيع يناضل من أجل الحرية بقلمه ولسانه وعلاقاته، حتى وافته المنية في إسطنبول في 19.09/2019.

نعاه كثير من أبناء الشعب السوري، واقتبس ما قال عنه المفكر أحمد نسيم البرقاوي، حيث يقول: “حين سيكتب المؤرخ عن مكافح صلب ضد الديكتاتورية والطغيان في سورية، سيكون اسم منصور الأتاسي واحداً من ألمع الأسماء”.

حملات تشويه مبرمجة!

لاشك أن (آل الاتاسي)، والعائلات السياسية الكبيرة في سورية، لهم دور هام يجب الاعتراف،كما يجب الاعتراف أنه تم تغييبهم بشكل متعمد، ونفذت حملات تشويه مبرمجة ضد هذه الأسر العريقة والكريمة، وممارسة أشد أشكال الإلغاء والتهميش والتمييز ضدها.

 ومن تجارب الأمم أن في كل دولة في العالم هناك أرشيف وطني يتولى الإشراف عليه خبراء، وأساتذة الجامعات، ليس لهم هدف إلا الحقيقة،  وتدوينها كما يليق بها، باعتبارها تراثاً وطنياً مجيداً، واعتبار هذا الأرشيف ذاكرة الوطن وتاريخه.

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى