حين كانت زنجبار عربية وتابعة لعُمان: السلطان علي بن حمود وقصة التعليم النظامي في زنجبار
بقلم: د. عبدالله المدني
في عام 1964 تعرض عرب زبجبار لعملية تطهير عرقي وحشية بشعة، حيث سيقوا بالآلاف إلى مقابر جماعية مجهزة خصيصاً لهم وتم قتلهم ودفن الآلاف منهم في المقابر الجماعية خلال الحملة ضد السكان العرب وقف خلفها الأوغندي جون أوكيلو، وقد وثق الإعلام الإيطالي في حينه بعض تلك المجازر بكاميرات سينمائية، فقدم لنا وثيقة بصرية غاية في القسوة والوحشية. وبذلك خسر العرب وجودهم في هذه الجزيرة التي كانت مملكة تابعة لسلطة عمان. إطلالة على تاريخ زنجبار، يقدمها الباحث عبد الله المدني، من خلال عرضه لكتاب جديد صدر في البحرين قبل أشهر، عن تاريخ أحد سلاطين زنجبار الأقوياء (العربي القديم).
***
ظلت جزيرة زنجبار ضمن ممتلكات الإمبراطورية العمانية لعقود طويلة، ولم تنفصل عن سلطنة عمان إلا في عام 1862، حينما حدث انشقاق داخل العائلة البوسعيدية الحاكمة بُعيد وفاة السلطان سعيد بن سلطان سنة 1856، الذي كان يحكم عمان وزنجبار معاً باسم سلطان عمان منذ عام 1804. وقد تمت تسوية الخلاف داخل الأسرة بين ولديه المتنازعين على وراثته (ثويني وماجد)، من خلال تقسيم عمان وزنجبار إلى سلطنتين، فصار ماجد سلطاناً لزنجبار، بينما صار أخوه ثويني سلطاناً على عمان. ومذاك بقيت زنجبار عربية تحتفظ بعلاقات جيدة مع مسقط حتى عام 1964، الذي وقع فيه انقلاب بقيادة الماركسي عبيد كرومي ضد الحكم الملكي الدستوري للسلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب.
كيف خسرت زنجبار عروبتها؟
وتتلخص ظروف خسارة العرب العمانيين لهذا الجزء من بلادهم، في أنه خلال الانتخابات البرلمانية التي شهدتها زنجبار عام 1963، بُعيد حصولها على الاستقلال من بريطانيا في تلك السنة وإقامة حكم ملكي دستوري، احتفظ حزب زنجبار القومي (الأفروشيرازي الماركسي) بأغلبيته البرلمانية، فيما عمل السلطان جمشيد على المحافظة على قبضة العرب على الجزيرة، الأمر الذي ولد أحقاداً لدى السكان الأفارقة، تطورت إلى استهداف السكان العرب بالقتل بقيادة أحد ملاك الأراضي الأوغنديين ويدعى «جون أوكيلو»، فكانت النتيجة حدوث مجازر راح ضحيتها ما بين 5,000 و15,000 مواطن من أصول عربية عمانية. وفي صبيحة 12 يناير 1964، قام مئات من المسلحين الأفارقة بخلع السلطان ونفيه مع عائلته إلى لندن، وفي اليوم التالي وضعوا الرجال المسنين في شاحنة والنساء والأطفال في شاحنة أخرى، وتم اقتيادهم إلى ملعب كرة قدم حيث تم قتلهم بدم بارد.
سيرة السلطان في كتاب
كانت المقدمة السابقة مجرد توطئة للحديث عن أحد سلاطين زنجبار من العائلة البوسعيدية العمانية، من بين 11 سلطاناً تولوا حكم الجزيرة وملحقاتها، ابتداءً من السلطان السيد ماجد بن سعيد الذي حكم من عام 1856 إلى عام 1870، وانتهاءً بالسلطان السيد جمشيد بن عبدالله، الذي لم يحكم سوى عام واحد (من 1963 إلى 1964). هذا السلطان هو السيد علي بن حمود البوسعيدي، الذي صدر مؤخراً كتاب أنيق عن سيرته وحياته وإنجازاته من إعداد الباحث البحريني المجتهد الزميل د. عبدالله محمد السليطي (تم تدشينه في احتفال ومحاضرة بالمتحف الوطني في المنامة بتاريخ 26 فبراير 2023).
وُلد السيد علي بن حمود بن محمد بن سعيد البوسعيدي في 7 يونيو 1884 بجزيرة زنجبار، ابناً أكبر لوالده سلطان زنجبار السابع السيد حمود بن محمد من زوجته السيدة خنفورة بنت السلطان ماجد بن سعيد، التي أنجبت إضافة إلى السيد علي كلاً من السيد ماجد بن حمود (توفي في حياة والديه عام 1899) والسيد سعود بن حمود والسيد تيمور بن حمود والسيد فيصل بن حمود والسيد محمد بن حمود، علاوة على أربع بنات، هن: معتوقة وبشان وبوران وحكيمة، علماً بأن السيدة معتوقة بنت حمود تزوجها السلطان السيد خليفة بن حارب سنة 1899، قبل توليه الحكم، وعاشت معه قرابة 41 عاماً ( 12 سنة قبل أن يصبح سلطاناً، و29 عاماً بعد أن أصبح سلطاناً على زنجبار)، وأنجبت له ثلاثة أبناء هم (السيد ثويني بن خليفة المُتوفى عام 1906، والسيد عبدالوهاب بن خليفة المُتوفى عام 1912، والسيد عبدالله بن خليفة المُتوفى عام 1963).
الحرب الإنجليزية الزنجبارية
ويُعد والد المُتَرجم له «السلطان حمود بن محمد بن سعيد»، واحداً من أشهر سلاطين زنجبار العمانيين. فخلال عهده الذي دام من 27 أغسطس 1896 إلى تاريخ وفاته في 18 يوليو 1902، وقعت أقصر حرب في التاريخ، وهي الحرب الإنجليزية الزنجبارية التي بدأت في 27 أغسطس 1896 ولم تستمر سوى أقل من 40 دقيقة فقط. وملخص القصة، أنه بعد وفاة سلطان زنجبار الخامس السيد حمد بن ثويني البوسعيدي (حكم من 1893 إلى 1896) في تلك السنة، وتحديداً في 27 أغسطس، استولى ابن عمه وصهره خالد بن برغش على الحكم بطريقة غير شرعية، الأمر الذي أغضب الإنجليز واعتبروه بمثابة تمرد ضدهم وخروج على بنود معاهدة 1886، التي نصت على أن ارتقاء العرش في زنجبار لا يتم إلا بموافقة القنصل البريطاني. وقتها كان القنصل البريطاني «سير باسيل كيف» ميالاً لتنصيب السيد حمود بن محمد بن سعيد البوسعيدي. وهكذا أعطى الإنجليز لخالد بن برغش مهلة ساعة واحدة لإخلاء قصر الحكم في العاصمة «ستون تاون» والاستسلام، لكن خالد، الذي يصنف كأقصر حكام زنجبار عهداً، رفض الإنذار البريطاني وجهز جيشاً من نحو ثلاثة آلاف فرد من الخدم والعبيد لمحاربة القوات الإنجليزية. وحينما انتهت مهلة الساعة في تمام التاسعة بتوقيت شرق أفريقيا، قامت البحرية الملكية البريطانية المكونة من ثلاثة طراريد وزورقَي مدفعية و150 بحاراً، بقيادة الأدميرال هاري راوسون، مسنودة بتسعمائة عنصر من الجيش الزنجباري بقيادة العميد لويد ماثيوز بقصف قصر الحكم بنيران المدفعية. لم يتمكن خالد بن برغش من الصمود، فهرب مع رجاله إلى مقر القنصل الألماني بالجزيرة الذي منحه حق اللجوء، ثم تمّ نفيه إلى دار السلام في تنجانيقا، التي عاش فيها إلى أن احتلتها بريطانيا عام 1916، فاضطُر حينها أن يسلم نفسه للبريطانيين الذين نفوه مرة أخرى إلى سيشيل ثم إلى جزيرة سانت هيلانة، قبل أن يسمحوا له بالعيش في مومباسا إلى حين وفاته عام 1927.
إلى ذلك، اشتُهر السلطان حمود بن محمد (والد المُتَرجم له)، بأنه بعد تنصيبه سلطاناً على زنجبار قام بما لم يقم به أسلافه من قبل، وهو حظر الرِّق نهائياً في بلاده والإعلان عن أن جميع الأرقّاء سوف يحررون. ويبدو أن قيامه باتخاذ هذه الخطوة غير المسبوقة كان استجابة لطلب بريطاني، بدليل أن لندن كافأته في العشرين من أغسطس 1898 بتقليده وسام الفارس الكبير (GCSI).
تنصيب السلطان الثامن في قصر العجائب
بالعودة إلى سيرة ابنه السلطان علي بن حمود، نجد أن والده اختار له إكمال تعليمه في بريطانيا، فأرسله إلى لندن للدراسة بمدرسة هارو (Harrow) الداخلية النخبوية للبنين، التي تأسست عام 1572 من قبل جون ليون بموجب امتياز ملكي من الملكة إليزابيث الأولى.
ومن الواضح أن الرجل تشرّب الثقافة الغربية إبان دراسته في بريطانيا، وتماهى مع مظاهرها وتعلم لغاتها وأتقن فنون التعامل والتصرف سريعاً، ما جعله مهيأً لتمثيل والده على أكمل وجه، في حفل تنصيب الملك إدوارد السابع في ويستمنستر بلندن سنة 1901. بعد تلك المهمة الرسمية، التي أُوكلت له وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، بعام واحد وتحديداً في يوليو 1902، طلب منه قطع دراسته والعودة إلى بلاده لتولي عرش زنجبار، باعتباره الوريث الشرعي وأكبر أنجال السلطان حمود بن محمد، الذي وافته المنية بتاريخ 20 يوليو 1902، حيث تمّ تنصيبه سلطاناً ثامناً لزنجبار في حفل أقيم بالقصر السلطاني المعروف بقصر العجائب في جزيرة أنغوجا بزنجبار، وصار يعرف بالسلطان علي الثاني، هذا علماً بأن تاج زنجبار ــ بحسب بعض الروايات ــ كاد يذهب إلى عمه خالد بن محمد بن سعيد البوسعيدي، باعتباره كبير العائلة الحاكمة، لولا أن الأخير رفض أن يحل مكان أخيه السلطان المُتوفى من جهة، وتحبيذ الإنجليز لعلي بن حمود ــ رغم حداثة سنه ــ بسبب ثقافته الإنجليزية وتلقيه العلم في مدرسة هارو من جهة أخرى.
تولى عرش زنجبار شاباً
وهكذا تولى علي بن حمود عرش زنجبار شاباً يافعاً، وأصبح القنصل البريطاني في الجزيرة آنذاك السيد روجرز وصياً عليه إلى حين بلوغه السن القانونية (21 عاماً). وطبقاً لما نشره الباحث العماني الدكتور سليمان المحذوري في صحيفة الوطن العمانية (23/10/2010)، فإن السلطان علي حاول التخلص من قضية الوصاية التي جعلت القنصل البريطاني هو الآمر الناهي وصاحب القرار الأول في شؤون زنجبار، فأوفد شخصية مقربة منه هو «يعرب بن سليمان الدرمكي» إلى بريطانيا، لعرض مشكلة الوصاية على وزير الخارجية البريطاني، خصوصاً أن جده السلطان السيد سعيد بن سلطان تولى السلطة وعمره في حدود 15 سنة دون وصاية. لكن يبدو أن مطالبه لم تلقَ آذاناً صاغية من لندن. وفي السنة الأولى لجلوسه على العرش (1902)، تزوج للمرة الأولى من إحدى السيدات في حفل أقيم بقصره السلطاني، لكنه ما لبث أن طلقها ليتزوج في عام 1904 من ابنة سلطان عمان ومسقط الخامس السيد فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (1864 ــ 1913)، التي أنجبت له ابنين هما: السيد سعود بن علي (وُلد في زنجبار سنة 1907، وأكمل تعليمه في القاهرة وتزوج فتاة من منطقة تمباتو الواقعة شمال زنجبار، وأنجب منها علي وحمود وناصر وصبري)، والسيد فريد بن علي (وُلد في أنغوجا عام 1908، وأكمل تعليمه بالقاهرة وأنجب السيد علي بن فريد والسيدة عالية بنت فريد). كما رزق السلطان الشاب من زوجته الثانية بابنتين هما: السيدة زينة بنت علي، والسيدة تحفة بنت علي (تزوجها سلطان زنجبار العاشر عبدالله بن خليفة سنة 1924). وفي السنة الأولى أيضاً، وربما تأثراً بما تعلمه ورآه في إنجلترا، أصدر أوامر لم تصدر قط من أسلافه، وكانت موجهة إلى أعيان البلاد ووجهائها بضرورة ارتداء المعاطف والسراويل الأوروبية مع طربوش في المحافل والمناسبات الرسمية.
في مارس عام 1903، غادر السلطان علي بلاده بحراً إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فاستُقبل لدى وصوله إلى ميناء جدة استقبالاً حاراً من قبل حكام الحجاز من الأشراف آنذاك، وأطلقت له المدفعية 27 طلقة، وأقام في ضيافة شريف مكة طوال فترة وجوده في الأراضي المقدسة. ويقول الباحث عيسى بن ناصر الإسماعيلي في كتابه المترجم إلى العربية «زنجبار والتكالب الاستعماري وتجارة الرق» (دبي/ دار الغرير/ 2012) ما مفاده، أن السلطان علي بن حمود حينما عاد إلى بلاده من مكة، كان أكثر إصراراً على مقاومة تسلط ونفوذ ووصاية القنصل البريطاني.
تحدى الإنجليز
وفي نوفمبر عام 1907 أقدم السلطان علي، وكان وقتها قد أزيلت عنه الوصاية بعد بلوغه السن القانونية، على تحدي الإنجليز بخطوة أخرى، تمثلت في قيامه بزيارة إلى القسطنطينية، عاصمة دولة الخلافة العثمانية، حيث استُقبل بما يليق به كسلطان مسلم، والتقى السلطان العثماني الذي قلده أعلى الأوسمة (الوشاح الرفيع للدولة العثمانية). وقتها خشي الإنجليز من تقاربه مع الأتراك العثمانيين، خصوصاً أنه كان متعاطفاً مع مشروع الجامعة الإسلامية بغية وضع حد للتسلط البريطاني المتعاظم في زنجبار، وإضفاء طابع الاستقلالية على حكمه.
لم يهنأ السلطان علي بحكم بلاده طويلاً، ولم يُتح له إحداث تغييرات أو تحقيق إنجازات كثيرة كان يطمح إليها، بسبب اعتلال صحته واضطراره للسفر إلى أوروبا للتردد على مصحات فرنسا وسويسرا من أجل العلاج. ومما يذكر عنه أنه خلال وجوده في أوروبا للعلاج حضر حفل تنصيب الملك جورج الخامس في مايو 1911.
ويبدو أن رحلاته العلاجية لم تحقق له شيئاً، بدليل تدهور صحته إلى درجة لم يستطع معها القيام بمسؤوليات الحكم، فآثر حينها أن يتنازل عن الحكم في التاسع من ديسمبر 1911 لابن عمه السيد «خليفة بن حارب بن ثويني بن سعيد بن سلطان البوسعيدي»، وهو في الوقت نفسه زوج شقيقته السيدة معتوقة بنت حمود. وسواء أكان تنازله عن الحكم بسبب اعتلال صحته (كما تقول الرواية البريطانية)، أو كان بضغط من الإنجليز (كما تقول المصادر المناوئة للبريطانيين)، فإن الرجل قرر وقتها أن يسافر مجدداً إلى سويسرا وفرنسا عله يجد علاجاً من سقمه، وظل هناك يصارع المرض لسنوات إلى أن تُوفي في العاصمة الفرنسية في العشرين من ديسمبر 1918، حيث ووري الثرى بمقابر المسلمين في باريس بعد الصلاة عليه.
استبدال الريال الزنجباري
ومن بين الإنجازات التي تُذكر له قبل وفاته، استبدال العملة الرسمية المحلية (الريال الزنجباري) بعملة ورقية جديدة هي الروبية الزنجبارية، التي طبعت خصيصاً لزنجبار من خمس فئات، حاملة على وجهها شجرة القرنفل. لكن الإنجاز الأكبر الذي يحسب له هو إدخال التعليم النظامي الوطني في زنجبار. فقد لاحظ أن نقص الخدمات التعليمية في بلاده قد حرم مواطنيه المسلمين من تولي المناصب الإدارية في الحكومة لصالح خريجي مدارس التنصير الأجنبية ومدارس رعايا بريطانيا الهنود، التي كانت بريطانيا تدعمها وتجبر حكومته على الإنفاق عليها وتشغيلها، بالرغم من رفضها قبول أي طالب مواطن ما لم يكن مسيحياً أو هندياً. ومن هنا قرر السلطان علي أن يؤسس مدرسة داخل قصره، ثم شجع على افتتاح مدارس القرآن الأهلية في المدن والأرياف، ثم أقدم على خطوة جريئة تمثلت في تدشين أول مدرسة نظامية عصرية في البلاد سنة 1908 لتدريس أبناء المواطنين العلوم الحديثة باللغتين السواحلية والإنجليزية.
وقد سرد مؤلف كتاب «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار» الشيخ سعيد بن علي المغيري بعض الأحداث التي وقعت في عهده، ومنها: فرض أول ضريبة على أموال الأموات، وبناء مقر للمعتمد البريطاني، وتأسيس جمعية عربية مع إصدار جريدة سميت «الإصلاح» من قبل عرب زنجبار، وإدخال أول ماكينة كهربائية لإنارة البلاد والبيوت، وتأسيس خط حديدي بطول سبعة أميال لربط زنجبار بمنطقة «بوبوبو» (توقف الخط عن العمل عام 1928 بعد انتشار السيارات كوسيلة للتنقل).
المصدر: (عكاظ) السعودية