علم النفس والسلوك

في زمن الإنجاز: هل بقي للمعنى ملاذ أخلاقي؟

لقد تحوّلت البيوت إلى محطات انتظار، والمكاتب إلى خشبات أداء، والمدن إلى صالات عبور لا توقّف فيها

محمد صبّــاح * – العربي القديم

لا يُولد المعنى من فراغ، ولا ينبثق من الوصايا الجاهزة. إنه تجربة تُنتَزع من تماس الذات مع العالم، من القلق الذي يُربك اليقين، ومن خيبة تُصيب المُعتقد حين تنكشف هشاشته. المعنى لا يُفرَض، بل يُعاش. ولهذا، فإن الأخلاق ليست نظامًا خارجيًا لتنظيم السلوك، بل أفق داخلي يُعيد للوجود حيويته، ويمنح العلاقة بالآخر شرطها التأسيسي.

كما في تجربة «هانز كاستروب» في الجبل السحري، حين وجد نفسه معلقًا بين الحياة والموت في مصحّة لا يحدث فيها شيء، لكن كل شيء يتغيّر داخليًا، تتجلى الأخلاق لا كواجب مُسبق، بل كتوتر وجودي، كإصغاء خافت للمعنى في زمن التبخر. لم يكن بحاجة إلى وصايا، بل إلى أن يصمد في مواجهة هشاشته، ويعيد اكتشاف العلاقة بالآخر كشرط للنجاة.

لقد استُهلكت الأخلاق عندما تحوّلت إلى بنية بيروقراطية، بلا حرارة وجودية، وصارت تُدار كما تُدار أنظمة المرور: لوائح، عقوبات، توجيهات. لكنها فقدت بذلك دفقها الأول، ذاك الذي يجعل الإنسان يختبر ذاته من خلال غيره. فإذا كانت الأخلاق تُعنى فعلاً بإمكانية العيش المشترك، فهي إذًا موضع المعنى لا شكله. إنها ليست مجرد واجبات، بل إمكانية التشارك في الحياة على نحو يجعل الوجود قابلًا للتحمّل.

نجد تجليًا لهذا العمق في ملحمة جلجامش. لم يكن بطلاً أخلاقيًا بالمعنى المدرسي، لكن موت «أنكيدو» فجّر فيه سؤالًا لا يُمكن التملص منه: ما الذي يمنح الحياة قيمتها؟ لقد أصبح الفقدان في تجربته كشفًا وجوديًا، لا مجرد ألم شخصي. وهو ما يجعل من المعنى شأناً أخلاقيًا بقدر ما هو أنطولوجي.

المعنى كتجربة ارتجاج لا كوصية جاهزة

المعنى لا يُصاغ من سلاسل منطقية، ولا يُستخرج من تقنين سلوكي. إنه يُولد من تلك اللحظات التي يفقد فيها العالم استقراره، فتنكسر الذات على تماس الغياب، وتُجبَر على إعادة ترتيب علاقتها بالوجود. عندها، لا تكون الأخلاق امتثالاً، بل استجابة حية لاهتزاز الداخل.

إن فقد الآخر لا يمزّق فقط النسيج العاطفي، بل يُعيد صياغة أسس الإدراك. يصبح الإنسان أمام نفسه، لا كفاعل، بل كمُساءَل: «من أنا دون هذا الآخر؟» حينها، تتحوّل الأخلاق من منظومة إلى نداء، من قانون إلى اعتراف، من واجب إلى إمكان.

ليست الأخلاق إذًا انضباطًا، بل فعل بقاء روحي. إنها الطريقة التي يداوي بها الإنسان غربته، لا عبر التماثل، بل من خلال التلاقي، الحضور، والتشارك. بهذا المعنى، الأخلاق ليست ضميرًا أخلاقيًا يُراقب من الداخل، بل لغة غير منطوقة تُبقي الوجود قابلًا للتجاور، للحب، وللاعتراف.

الشتات الأخلاقي في زمن الإنجاز

الإنسان المعاصر لم يعُد يُسائل وجوده، بل يسابقه. في عالم تحوّل فيه الإنجاز إلى غاية قصوى، غابت أسئلة المعنى، وحلّت مكانها جداول الأداء. الأخلاق لم تُلغَ، بل تفكّكت، وأُعيد تدويرها إلى تعليمات سلوكية وظيفية تُناسب إيقاع المؤسسات.

صار الإنسان يؤدي أدوارًا أكثر مما يعيش حالات، ينجز أكثر مما يتأمل، يستهلك أكثر مما يشعر. المعنى اختُزل في النتيجة، والإنتاجية صارت الدليل الوحيد على «القيمة». لقد فُقدت الحاجة إلى التأمل، إلى اللقاء، إلى الاعتراف بالبطء كشرط للحضور.

وهكذا، فإن الأخلاق لم تختفِ، بل استُبدلت: لا بوصفها أفقًا مشتركًا، بل كنظام ضبط داخلي يجعل الفرد أكثر امتثالاً للمنطق الوظيفي. في هذا السياق، لا يُطلب من الإنسان أن يكون صالحًا، بل منجزًا. وهذا هو الشتات الأخلاقي الحقيقي: عندما لا تعود الغاية هي العيش معًا، بل الاستمرار الفردي بأي ثمن.

هشاشة الوجود: من التشارك إلى التوازي

إنّ الكائن الحديث لم يعُد يُقيم في العالم، بل يمرّ به. لم يعد الآخر حضورًا، بل مجاورة. هذا الانسحاب التدريجي للعلاقة الإنسانية جعل من العيش اليومي نوعًا من التوازي الصامت: الجميع يشتغل، يتحرك، يتحدث، لكن بلا تلامس حقيقي.

لقد تحوّلت البيوت إلى محطات انتظار، والمكاتب إلى خشبات أداء، والمدن إلى صالات عبور لا توقّف فيها. حتى اللغة، التي كانت موطنًا للعلاقة، غدت أداة لتبليغ المعطيات. سقطت الكلمات الكبرى، وبقيت التطبيقات.

الفرد لا يعاني من عزلة طارئة، بل من تنظيم اجتماعي يجعل العزلة ضرورة. فالخوف من التورط الوجودي في العلاقة جعلنا نُحيّد كل ما قد يُقلقنا: الحميمية، الحوار، الصمت المشترك. وهذه الهشاشة ليست ضعفًا، بل عرض من أعراض العقلنة الشاملة للحياة.

لقد استبدل الإنسان الحديث سؤاله الأصلي «كيف نكون معًا؟» بسؤال «كيف أنجو وحدي؟». لكن لا نجاة في الوجود دون الآخر، لأن المعنى لا يُبنى في الانعزال، بل في المخاطرة. وكل محاولة للهروب من هذه المخاطرة، هي خطوة نحو تفريغ الحياة من إمكانية العمق.

نحو أخلاق ممكنة: استعادة المعنى من رماد اليومي

لسنا بحاجة إلى أخلاق جديدة، بل إلى إعادة استنطاق الأخلاق القديمة بما يُناسب هشاشتنا الحالية. الأخلاق ليست مشروعًا نظريًا يُستأنف، بل هي علاقة تُجدد نفسها حين نجرؤ على اللقاء. نحتاج إلى أخلاق بطيئة، تسمح بالخطأ، وتستوعب الغموض، ولا تختزل الإنسان في وظيفته.

أن نكون أخلاقيين اليوم لا يعني أن نتقن القواعد، بل أن نعيد الثقة في الوجود المشترك، أن نُفسح مجالًا للصمت، للاعتراف، للقلق. هذه اللحظات، مهما بدت ضئيلة، هي البذور الحقيقية للمعنى. لا يأتي المعنى من فوق، بل من التفاصيل: من كلمة صدق، من نظرة حقيقية، من صمت لا يخاف من نفسه.

الأخلاق الممكنة لا تُفصَل عن الحياة، بل تُحيا بها. إنها إمكان الإنصات في عالم يصرخ، والمشاركة في زمن يعزل، والانكشاف في ثقافة تُفضّل الأقنعة. إن الأخلاق ليست أداة لتجميل العالم، بل فعل يقاوم تفكّكه، ويحاول بصبرٍ أن يُعيد للعيش البشري شرعيته.

خاتمة

ليس السؤال اليوم: «ما هي الأخلاق التي نحتاجها؟» بل: «ما نوع الوجود الذي نرغب فيه؟» لأننا لا نستطيع بناء معنى في غياب علاقة، ولا نستطيع إقامة علاقة في غياب أفق أخلاقي. الأخلاق ليست ظلّ المعنى، بل شرط إمكانه. وكل محاولة لفصل أحدهما عن الآخر، هي إعلان مستتر بانتهاء الإنسان ككائن قادر على العيش معاً .

_________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى