السلم الأهلي والعدالة الانتقالية: لا للثأر… نعم للقصاص العادل
السوريون لا يسعون للانتقام، بل للكرامة. والكرامة لا تُبنى على دماء معلقة ولا جراح مفتوحة

علي الجاسم – العربي القديم
بعد سقوط نظام بشار الأسد، وطي صفحة دامية من تاريخ سوريا امتدت لأكثر من نصف قرن من القمع والاستبداد، تدخل البلاد مرحلة دقيقة وحاسمة في مسيرتها نحو بناء دولة مدنية حرة قائمة على العدالة والمواطنة.
فبينما ظل يحتفل السوريون لأشهر بزوال أحد أكثر الأنظمة دموية في العصر الحديث، تتجه الأنظار الآن إلى التحديات الأعمق: ترميم المجتمع السوري المنهك، وتحقيق العدالة لمن تضرروا وضحوا خلال الثورة، وضمان عدم عودة الاستبداد بأشكال جديدة… ويبدو المؤتمر الصحفي الذي دعت إليه وزارة الإعلام أمس مع رئيس لجنة السلم الأهلي مخيبا لآمال الضحايا.
في هذه المرحلة الانتقالية، يُعد السلم الأهلي والعدالة الانتقالية من أبرز الأولويات التي يجب العمل عليها بشكل حثيث ومنهجي، لتأسيس بيئة مستقرة تُعيد الثقة بين أبناء الشعب، وتضع أسسًا عادلة لمستقبل مشترك.
السلم الأهلي: إعادة بناء الثقة بعد القطيعة
لم يكن النزاع السوري صراعًا بين أطراف متكافئة، بل كان محاولة كبح ثورة شعبية سلمية طالبت بالكرامة والحرية. وقد عمّق النظام الانقسامات داخل المجتمع عبر تأجيج الطائفية وتغذية الشك والعداوة بين المكونات، ما أفضى إلى تمزق النسيج الوطني.
مع انهيار بنية النظام الأمنية والعسكرية، تتاح الآن فرصة حقيقية لإعادة بناء سلم أهلي قائم على الاعتراف والعدالة، لا على القمع أو التنازلات السياسية. فالمطلوب اليوم ليس فقط وقف العنف، بل خلق مناخ جديد يعزز المشاركة المجتمعية، والهوية الوطنية الجامعة، واحترام التنوع دون استغلاله سياسياً.
ومع أن بعض المبادرات الأهلية بدأت تعيد روح التواصل بين المجتمعات المحلية، إلا أن هذا الجهد يظل هشًا ما لم يُدعَم بإرادة سياسية واضحة وبتطهير مؤسسات الدولة من آثار النظام السابق. وجاء المؤتمر الصحفي بالأمس ليؤكد انعدام النية لتحقيق ذلك…
العدالة الانتقالية: لا مصالحة دون محاسبة
العدالة الانتقالية ليست عملية شكلية ولا تفاوضًا على آلام الضحايا، بل هي حق لا يسقط بالتقادم، وأداة لضمان عدم تكرار الاستبداد.
ويخطئ من يعتقد أن جبر الضرر يتحقق عبر التعويضات المالية أو الكلمات الرمزية.
القصاص العادل هو الركن الأساسي لأي عدالة حقيقية.
في سوريا، حيث وُثّقت آلاف الجرائم والانتهاكات، لا يمكن بناء مستقبل دون محاسبة القتلة والمعذبين.
ولا يمكن السماح للمجرمين أن يختفوا خلف تسويات سياسية أو صفقات دولية.
ومن أبرز الأسماء التي يجب أن تكون على رأس قوائم المحاسبة:
فادي صقر: أحد رموز القمع الدموي في دمشق، والمتورط في عمليات تعذيب وقتل خارج القانون.
سقراط الرحية: أحد ضباط النظام المتورطين في تصفيات ميدانية بحق المدنيين، خاصة في الساحل السوري.
عدم محاسبة هؤلاء وغيرهم سيكون طعنة في قلب الثورة، ورسالة سيئة لكل من يخطط لمستقبل سوريا الديمقراطية.
دور المجتمع الدولي: بين التواطؤ والصمت
لقد أظهر المجتمع الدولي عجزًا أخلاقيًا كبيرًا خلال سنوات الثورة، حيث تغاضى عن جرائم موثقة، واكتفى ببيانات الإدانة. والآن، في مرحلة ما بعد النظام، يتوجب عليه دعم العدالة لا التسويات الملوثة.
المطلوب هو دعم المحاكم الوطنية المستقلة، والضغط لتفعيل آليات دولية لملاحقة الجناة، وضمان عدم شرعنة أي قوى كانت شريكة في قتل السوريين.
بعد انتصار الثورة وسقوط النظام، يبدأ التحدي الأصعب: بناء دولة تحترم الإنسان، وتحمي حقوقه، وتضمن مستقبله. لا سلام بدون عدالة، ولا سلم أهلي بدون محاسبة، ولا مصالحة بدون اعتراف وندم.
السوريون لا يسعون للانتقام، بل للكرامة. والكرامة لا تُبنى على دماء معلقة ولا جراح مفتوحة، بل على عدالة جذرية تُنصف الضحايا وتضع الجناة حيث يستحقون.