العربي الآن

خطاب الكراهية المتصاعد (سوريا أنموذجاً)

لم تبلغ موجات خطاب الكراهية في سوريا هذا الحجم من قبل، ولم تنخرط فيها شرائح واسعة من الشعب كما حدث مؤخراً

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم

تناولت العديد من الكتب والدراسات العلمية موضوع الكراهية والتحريض – لا سيما خطاب الكراهية – من جوانب متعددة، حيث سعت كل دراسة إلى الوقوف على الأسباب والدوافع التي أُعدت من أجلها.

بعض الدراسات ركزت على الأسباب السياسية التي تهدف إلى استمالة أصوات انتخابية يسهل التأثير فيها، أو إلى تشتيت انتباه الرأي العام عن قضايا مصيرية وهامة، كما سلطت دراسات أخرى الضوء على الأسباب الاجتماعية، وفي مقدمتها الصراعات المتراكمة التي لم تُحل بشكل عادل وجذري، وكذلك آثار التنشئة والتربية غير السليمة التي تزرع رفض الآخر، وتُبرر التحريض والعنف والقتل أحياناً.

أما على المستوى النفسي فقد أشارت بعض الأبحاث إلى ما يمكن تسميته “داء الكراهية” المتجذر في نفوس بعض الأفراد كمرض واضطرابات نفسية تحتاج جهوداً جبارة لمعالجتها. في الحالة السورية – التي تشهد اليوم إحدى أسوأ موجات الكراهية في القرن الحادي والعشرين – يمكن القول إن جميع الأسباب السابقة تجتمع، ومضافاً إليها عوامل أخرى كالجهل والتجهيل المتعمد والممنهج، والذي مورس على فئات واسعة من المجتمع، وإضافة إلى تدهور مستوى التعليم ونقص الوعي خلال العقد ونصف الماضيين، والأخطر من ذلك الانغلاق الثقافي وغياب الانفتاح الفكري لدى الفئات التي تُعد “متعلمة” بالمعايير التقليدية للدراسة والتحصيل العلمي.

على مدى العقود الماضية، عاش السوريون جنباً إلى جنب، عرباً وكرداً وتركماناً، مسلمين ومسيحيين، سنة واسماعليين وعلويين، دروزاً وبدواً وغيرهم في نسيج اجتماعي متنوع، وكما هو الحال في جميع المجتمعات والدول كان من الطبيعي أن تنشأ خلافات، وتحدث مشكلات، بل وجرائم أحياناً بين المواطنين، فسوريا لم تكن ولن تكون دولة فاضلة مثالية، لكن ما كان يحدث بقي – في المجمل – ضمن منطق الحياة المجتمعية، ولم يكن مقبولاً – لا قانوناً ولا عرفاً – أن يقف المجتمع إلى جانب المعتدي ضد صاحب الحق، بل على العكس كانت الكلمة الفصل – مجتمعياً على الأقل ضمن منظومة العادات والتقاليد السورية – دائماً في صف المظلوم بغض النظر عن لونه أو قوميته أو طائفته أو دينه، ولا مجال هنا لسرد آلاف الحوادث الشهيرة في التاريخ المجتمعي السوري التي تُظهر بوضوح وقوف فئات المجتمع – على اختلاف انتماءاتها – إلى جانب صاحب الحق.

خلال السنوات الأخيرة، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي منحت المنبر للجميع دون رقيب أو رادع، تصاعدت حملات التجييش الطائفي، وظهرت هجمات وقحة تستهدف كل من يرفض الانزلاق إلى مستنقع الفتنة والدعوة إلى الاقتتال، وبمرور الوقت أخذت هذه الحملات والخطابات التي تحض على الكراهية والعنف والقتل والتنكيل تزداد اتساعاً وحدَّة، حتى انجرفت في تيارها – مع الأسف الشديد – بعض النخب الإعلامية والثقافية من معظم المكونات.

لم تبلغ موجات خطاب الكراهية في سوريا هذا الحجم من قبل، ولم تنخرط فيها شرائح واسعة من الشعب كما حدث مؤخراً، وخاصة بعد أن بدأ كثير من السوريين في الخارج – لا سيما في أوروبا – يدركون العواقب القانونية والشخصية لتحريضهم وتضليلهم من الدول التي يقيمون فيها، ولكن ومع ذلك سرعان ما عادت بعض الجهات لتأجيج خطاب الكراهية من جديد – بوتيرة غير مسبوقة – وارتبط ذلك بشكل واضح بالأحداث الجارية في مدينة السويداء، هكذا حتى انفجر هذا الخطاب من بعض المنابر التي تتخفى وراء عباءات دينية أو مذهبية أو قومية أو قبلية، وبلغ حدَّاً غير معهود من الشماتة والدعوات الصريحة إلى قتل حتى النساء والأطفال والشيوخ، وهم الفئات التي كانت الأعراف والتقاليد السورية – بتنوعها – تُجمع على توقيرهم واحترامهم والنأي بهم عن الصراعات والنزاعات.

لا أدري ولا أعلم – وأقولها بألم بالغ – إن كان هناك قاع أعمق من الذي وصلت إليه سوريا اليوم.

لا أدري إن كان بقي شيء بعد هذا الانحدار الأخلاقي حين نرى من يتباهى بغدره بطفلٍ سُنِّيٍ، أو يتفاخر بقتل مدنيٍّ علويٍ، أو يحرِّض على سفك دم شيخ دُرزيٍّ، أو يشمت بمقتلِ امرأةٍ كرديَّة، أو يروِّج ضد رجل دين مسيحي، أو أو.. الخ من أبناء هذا البلد الحزين.

ما الذي تبقى من إنسانية السوريين حين يصبح القتل في مهد الحضارات والرسالات السماوية مدعاة للفخر، وحين يصبح الغدر بطولة، وتكون الشماتة شجاعة؟

ما الذي يمكن أن يُقال بعد أن أصبح التحريض على دماء السوريين مادة تسويقية، ومنصة تتباهى بعدد المتابعين لها في زمنٍ فقد فيه جزء لا يُستهان به من السوريين آخر ما تبقى لديهم من ضمير وأخلاق؟!

تقف سوريا اليوم، مهما بلغت دقة التحليلات ومهما تنوعت القراءات السياسية لتوافقات القوى الدولية، والأحداث الإقليمية، والمشاريع الاقتصادية الكبرى على حافة انهيار مجتمعي خطير يهدد بحرب أهلية دامية، وأنهار من الدم إذا لم تتوقف خطابات الكراهية والتحريض التي تمارسها مجموعات متطرفة وتتبعها قطعان من الجهلة والأغبياء، والتي تقود سوريا بكل تأكيد نحو الهاوية.

لا حلول حقيقية أمام دمشق، ولا أمام سائر القوى الفاعلة على الأرض قبل كبح جماح أبواق التطبيل والتشبيح في الداخل والخارج، وما لم تُحاسب الأصوات المتطرفة التي بات متاحاً تتبعها وملاحقتها قضائياً في زمن بات من السهل فيه التوثيق والأرشفة والتبليغ.

ولا بد من الإسراع في إطلاق جولات مصالحة وطنية حقيقية، ودعوة جادة لحوار وطني شامل لا يُقصي أحداً من أبناء سوريا، ويكفل مشاركة جميع مكوناتها دون تمييز.

ليس مطلباً مستحيلاً أن يحلم السوري بوطن يسوده الأمان، ويعيش فيه بحرية وكرامة وديمقراطية كما يليق به، وأن يستعيد حقه في الحياة قبل كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى