أرشيف المجلة الشهرية

مصعب العودة الله: شهيد الصحافة وشاهد عيان حوران

بدا أشبه بساعي بريد على دراجة، ينقل الخبر، وينشد المحبة والتآزر، وانتصار قيم الخير والثورة والحرية. 

أحمد صلال- العربي القديم

في 22 آب من العام 2012، فقدت سوريا كلماته الشجاعة في وجه الاستبداد والتوحش الأمني، وفقدت معه ثورتها رمزاً ثورياً مخلصاُ، حقق الكثير في عالم الصحافة السورية، ونقل الخبر في السنة الأولى من انطلاق الثورة… وفي أخطر الظروف وأشرس الملاحقات التي دفع ثمنها حياته في النهاية

أبو سعيد والدراجة الهوائية

اليوم، وبعد 11سنة، ما زال الصحافي السوري مصعب العودة الله، حكاية لا تنسى، واسماً يرقد بدفء في ذاكرة عائلته ومحبيه وأبناء بلدته، وكذا الكثير من السوريين. يبقى مصعب حادثة تتكرر في أذهان من شهدوا تنقلاته آنذاك، على دراجة هوائية بين مدن وبلدات وقرى درعا، محاولاً كسر الحصار الإعلامي، والتعتيم القاتل الذي فرضه النظام على نقل الأخبار. ابن بلدة نوى الشاب الثلاثيني، ذو الوجه الطافح بالابتسامة، كان يجمع المساعدات والتبرعات مخاطراً بحياته، ومستغلاً عمله في الإعلام الرسمي كصحفي في جريدة (تشرين).

هكذا يبدو العودة الله لمن لا يعرفه من السوريين الجدد، التواقين لنموذج من الحياة والحرية… يشبه ساعي البريد على دراجة، ينقل الخبر، وينشد المحبة والتآزر، وانتصار قيم الخير والثورة والحرية. 

هو الكاتب والصحفي والناشط في “اتحاد تنسيقيات حوران”، وعضو في “الهيئة العامة للثورة السورية”، خريج معهد إعداد الإعلاميين التابع لوزارة الإعلام، وطالب في كلية الإعلام في جامعة دمشق، عرف بالثقافة والرقي في صحيفة “تشرين” التي كان يعمل فيها محرراً في قسمها الرياضي  ثم الثقافي، الجريدة الحكومية التي لم تنعَه، بل نسبت مقتله لجماعات مسلحة، ولم تصرف رواتبه ومستحقاته لأهله، هو ابن نوى1977 وقلب نوى، هو ابن كل سوريا. خرج العودة الله للحياة، حاملاً معه قضايا سورية عصية وثقيلة، خلقت معه، وكبرت معه، وأتعبته في كتاباته المتعددة، ومقالاته الموجعة، وتقاريره النارية التي يعدها لكل من وكالة رويترز، وتلفزيون أورينت. أبو سعيد هو الاسم الحركي لعودة الله للوقوف في وجه كل من يريد خراب سوريا، دافع عن وحدة التراب السوري والاستقلال عن نظام الأسد المُحتل، وكشف بفيض حبره النظام السوري وممارساته الهمجية بحق المدنيين، مما عرضه أن يكون على قائمة المطلوبين للمخابرات العسكرية وفروع أمنية أخرى، حيث دفع العودة لمساعد في الأمن مبلغاً غير قليل من المال500 دولار، ولكن دون جدوى، وبقي المساعد يبتزه للحصول على مبالغ أخرى.

تحركاتك باتت مكشوفة

تعرض مصعب للاعتقال ليوم واحد على أن يستكمل التحقيق، وأبلغه ضابط كبير “إن تحركاتك باتت مكشوفة”، وكان العودة الله قد تعرض لإطلاق نار من دورية أمنية، قبل اغتياله بشهر، ورفض وائل الحلقي الذي تربطه بالعودة الله صلة وثيقة، وهو وزير الصحة للنظام، ورئيس لاحق لحكومته، إرسال سيارة إسعاف، وعاود الحلقي الاتصال به وتلقينه تعليمات طبية، من أجل  إسعاف نفسه، وفيما بعد نقله أصدقاؤه لمشفى “المواساة” للخضوع لعملية جراحية.

غادرنا العودة الله حاملاً في قلبه إيماناً عظيماً بالحرية، وفي جيبه حفنة كرامة، سقط على أرض بيته في نهر عيشة مضرجاً بالدماء، خمس رصاصات من الجبن والخزي والعار لنظام دموي، إحداها استقرت في الرأس، الذي لم يخشَ النظام المجرم واستخباراته، ولا دولة بحالها، زعزع الأمن القومي بها. ويذكر الأهالي أن مصعب العودة الله، ترك بيته المطل على طريق رئيسي تجري فيه الاشتباكات، مما اضطره للجوء إلى منزل أحد أقاربه آنذاك، طرق باب بيت أقربائه قوات الجيش وعناصر الأمن، ففتح الباب العودة الله وعرف عن نفسه، وأنه يعمل في صحيفة “تشرين”، فطلبوا منه اصطحابهم لبيته، حيث وجده الجيران فيما بعد ميتاً، وجثته بقيت محجوزة، جثة العودة الله ترعب النظام، واستطاعت خطيبته عبير أسد تسلم الجثة فيما بعد، ثم الاتصال بأهله ليدفنوها.

كان العودة الله اسما محبوبا في صحيفة “تشرين”، الصحفي الفذ الحيوي الحضور، الحر الكلمة، الثائر بالموقف والوجود، من كان يصدق من زملائه الذين عرفوه في الصحيفة أن عودة الله، كان يوجه الصفحات والتنسيقيات ويؤثر في جمهور درعا والرأي العام السوري سراً، يوجه مثلما أراد، العودة الله الأكثر وضوحاً والأشد حزماً، كان ثورياً يحمل قيم العدالة في قلبه أينما حل، ويقاتل لأجلها، ليس الاستبداد قدراً، هذا ما أثبته ولا نزال نحاول إثباته حتى اليوم.

ويعد العودة الله، الحالة رقم 54 بين 461 إعلامياً سورياً، قتلوا منذ منتصف مارس/آذار 2011، وحتى نهاية عام 2020، بحسب التقرير السنوي الصادر عن المركز السوري للحريات الصحافية لعام 2020، بعنوان “سوريا: عام آخر من الخوف”، والذي وثق مقتل 146 صحافياً على أيدي مجموعات مسلحة، من بينهم 33 إعلامياً، فقدوا حياتهم تحت التعذيب في سجون النظام الذي قتل 315 إعلامياً حتى نهاية 2020.

الاغتيال ومحنة العقل المهزوم

كثيرة هي الأقلام التي اختار الطغاة وقف نبضها، وتدفق مدادها إما بكاتم الصوت، أو القتل أو الاعتقال والاختطاف، أو تكسيرها بجنازير الدبابات، وكلها كانت ترسم معادلة بسيطة، هي الصراع بين الفكر، وبدائية القوة ووحشيتها، ومع ذلك يبقى لاغتيال الصحافي الجريء والكاتب الحر المدهش العودة الله  معانٍ أخرى، ورمزية أكثر بشاعة من المعادلة السابقة، فاغتيال هذا الشاب الذي أسميه «القلم الوسيم»، يؤشر على انهزام صارخ لقوى الظلام، ومنتجي الموت، وإفلاس كامل للعقل الشمولي الذي كان العودة الله من أجرأ من انتقده، وتنبأ بهزيمته، ليس في سوريا فحسب، بل في كل الوطن العربي.

إن العقل المهزوم الذي قرر اغتيال مصعب العودة الله، يعترف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بأنه عاجز تماماً عن مواجهة هذا العالم المتحرر في سوريا وغير سوريا إلا بأدوات الماضي، وببشاعة استخدام القوة التي تمارس أقصى ردود فعلها، وبالحقد المعتق في بقايا عقل طائفي مهووس، كان يعتقد أن العالم ملكه وحده، وأنه منتصر لا محالة، وأنه محتكر الحقيقة والبطولة والعدالة، وهو في واقع الأمر عكس كل ذلك، إما بسبب الجهل، أو بسبب طيش القوة وغرورها، وإدمانه لأدوات القمع التي كانت تحقق له بالدم وحده كل شيء حتى الموت للآخر، فهذا الآخر في نظرها ونظر ولي أمرها إما عميل، أو جاسوس أو كافر أو مرتد.

إن العقل المهزوم الذي اغتال مصعب العودة الله، أراد إرهاب الشعب السوري، كما أراد إرهاب كل الأحرار العرب، وأراد أن يقول لسوريا والسوريين خذوا حرية بلا أمن، فهذا العقل الذي ارتهن للجريمة فقط كوسيلة وحيدة في العمل السياسي، يريد القول إننا في عز النهار نقتل ونختفى، وإننا في وضح النهار نمارس لعبة الدم غير نادمين وغير خائفين.

إن قتلة مصعب العودة الله، يريدون أسر سوريا في دوامة العنف والخوف وفي أيام القتل الطائفي… إن قتلة مصعب العودة الله، تصوروا أنهم سيعيدون عقارب الزمن إلى الوراء، والاستمرار في كتابة تاريخهم وتاريخ غيرهم بالدم فقط، فهم المرعوبون من المستقبل والعاجزون عن امتلاك أي من أدوات التعامل معه، والعودة الله بتركيزه اللافت على المستقبل القادم وعلى الحرية القادمة، وعلى النصر القادم يفجر فيهم غضب العجز وروح الهزيمة.

إن العقل المهزوم، لو لم تتوفر له وسيلة قتل مصعب العودة الله بالرصاص، لما توانى لحظة واحدة عن اغتياله سياسياً أو أخلاقياً، عبر الأكاذيب والشائعات، وبيانات الإنترنت الملفقة، أو المقالات الموقعة بأسماء شخصيات وهمية في مواقع، مازالت ترفع شعارات ثورجية، أثبت الواقع كم هي فاشلة وكاذبة ومضللة، فالعقل المهزوم لا يعرف إلا الاغتيال، فإن لم يكن بالنار، فبالكذب والافتراء والشائعة والبيانات السرية، إنها أدواته التي لا غنى عنها في جمهوريات الرعب التي أبدعت قهر الإنسان من أجل القهر.

عرف مصعب العودة الله بين زملائه بابتسامته التي لم تفارق وجهه، وبتفاؤله المستمر، وبشخصيته المحبوبة بين الجميع، وبطبيعته المرحة، بالإضافة إلى أدائه الإبداعي والمميز في الوسط المهني، وبرسالته الصحفية التي تمسك بها حتى آخر نفس، وكان دائماً هو من يدفع الزملاء نحو إكمال إيصال الرسالة عند تعبهم من تغطية الأحداث.

ذكريات شخصية

أعرفه منذ عام 2003، كان مدرباً لي في ورشات صحافية للشباب، حينها كان العودة الله المسؤول عن قسم الصحافة الرياضية في الورشات، مصعب الأنيق لا تزال صورته تراودني آخر مرة، وهو على المنبر بحيوية ووسامة وذكاء حاد، وأناقة ونظافة من الخارج والداخل، حيوي يلوح بالقلم بالهواء، لافتاً نظرنا لأهمية العناوين في الصحافة الرياضية، متحدثاً لنا عن تجربته المهنية الشخصية. مصعب يا صديقي وأستاذي ومعلمي، هناك ظلم في هذا العالم، ظلم لا يطاق، كغيابك الذي أبكاني كثيراً، ومازال يبكيني حتى اليوم، لا أعرف ما أكتب، هنا الآن، فرحة سوريا التي ينقصها قلمك وحضورك.

إن جريمة قتل الصحافي مصعب العودة الله، كانت موجهة لكل منا معشر الصحفيين المؤمنين بالحرية والتحرر والديمقراطية، وتحرير العقل السياسي، ومهمتنا في التضامن مع عودة الله، ليست بمقال رثائي، بل في الاستمرار بالدفاع عن نهجه، وتعرية القتلة، وفضح العقل المهزوم.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى