بين إسقاط النظام وتقويض الدولة: قراءة في التجربتين العراقية والسورية
الفارق الجوهري إذاً بين "إسقاط النظام" و"سقوط الدولة" يكمن في الوعي المؤسسي والوطني.

فارس العلي – العربي القديم
لطالما مثّلت مقولة “إسقاط النظام” شعارًا مركزيًا في حركات التغيير السياسي، غير أن هذه الدعوة كثيرًا ما تؤول إلى نتائج كارثية حينما يُفهم النظام على أنه مرادف للدولة، أو حين يُمارَس إسقاط النظام بوصفه تفكيكًا شاملًا لمؤسسات الدولة، لا محاسبة لمنظومتها الاستبدادية أو استبدالها بشكل من أشكال التداول المدني للسلطة. هذه الإشكالية البنيوية تتجلى بوضوح في تجربتين حديثتين: العراق بعد العام 2003، وسوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع.
في العراق، أدّت عملية “إسقاط النظام” بقيادة الولايات المتحدة الأميركية إلى تفكيك الدولة العراقية عبر قرارين مركزيين من الحاكم المدني بول بريمر: الأول حلّ الجيش العراقي، والثاني اجتثاث حزب البعث. هذان القراران لم يُفضيا إلى بناء ديمقراطية كما وعد المحتل، بل أسّسا لفراغ مؤسسي وأمني أعاد تشكيل البلاد على أسس ما دون وطنية، قائمة على الطوائف والعرقيات والانتماءات المحلية. تحوّل الجيش الوطني إلى ميلشيات طائفية متناحرة، وانهارت البنية البيروقراطية التي كانت تشكّل صمام أمان للدولة الحديثة، لتدخل البلاد في دوامة من العنف المستمر، عانت منها كل مكونات المجتمع العراقي حتى اليوم.
تكرر هذا السيناريو بطريقة أشد قسوة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، حين جاء أحمد الشرع إلى الحكم في خضم الفوضى السياسية التي أعقبت انهيار النظام. لكن ما سقط لم يكن النظام فقط، بل الدولة بمفهومها المؤسساتي والسيادي. تم تدمير الجيش السوري، لا كأداة استبدادية بيد النظام السابق، بل كهيكل وطني عام. في المقابل، ظهرت فصائل مسلّحة لا تخضع لأي مرجعية مركزية، تحوّل كثير منها إلى عصابات وميليشيات محلية ذات ولاءات خارجية، كرّست الانقسام المناطقي والطائفي وأضعفت مفهوم الانتماء للوطن الواحد. كذلك، جرى استبدال البيروقراطية المدنية بمراكز نفوذ غير شرعية، قائمة على المحسوبيات، والسلاح، والانتماء الديني أو المذهبي.
لا يمكن بناء دولة على أساس الطائفة. حين يُعاد تعريف الحاكم بوصفه ممثلًا لطائفة، ويُختزل المجتمع إلى “أقليات” و”أكثريات”، فإن ما يُنتَج ليس دولة، بل نظام نزاعات مزمنة. لبنان والعراق نماذج حية لهذا النمط من الفشل البنيوي. في سوريا، أصبح الطرح الطائفي بعد 2015 أداة إدارة يومية، حيث طُمست الهوية الوطنية لصالح منطق “الحصة الطائفية”، ما أدى إلى إعادة إنتاج الحرب تحت مسميات الهوية والانتماء.
الفارق الجوهري إذاً بين “إسقاط النظام” و”سقوط الدولة” يكمن في الوعي المؤسسي والوطني. النظام هو منظومة سلطة قابلة للمحاسبة، للتغيير، وللإزاحة إن لزم، بينما الدولة هي الإطار العام الذي يحفظ الاجتماع السياسي، ويفترض استمراره لضمان الاستقرار. كل تجربة إسقاط لا تراعي هذا الفرق، ستنتهي إلى تدمير الذات الوطنية.
إن أهم درس يُستخلص من التجربتين العراقية والسورية هو أن معالجة الاستبداد لا تكون بتفكيك الدولة، بل بإعادة تأسيسها على أسس مدنية، قانونية، وعادلة. فالمعضلة ليست في إسقاط رأس النظام، بل في من سيعيد بناء الدولة بعده، وبأي أدوات، ولأي مشروع وطني.