"إنصاف البرعي" أول قاضية أحداث في سوريا
بقلم: خالد عواد الأحمد
ذات يوم كانوني من عام 1958 ضجت أرجاء القصر العدلي في حلب بالتصفيق وقوفاً بعد إعلان تولي المحامية “إنصاف البرعي” منصة القضاء وتسلمها محاكم الأحداث بعد أن أصدر مجلس القضاء الأعلى في الإقليم الشمالي موافقته على تعيينها لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في البلدان العربية في 14 نوفمبر من ذلك العام، ولتسبق بذلك ما يعرف بأول قاضية عربية وهي القاضية “زكية اسماعيل حقي” التي تولت منصبها كقاضية في فبراير من عام 1959
أي بعد شهرين من تولي القاضية المصرية التي شاءت الأقدار أن تعيش في سوريا بعد اقترانها بالسياسي والمحامي السوري المخضرم “سليم عقيل” وهو الاقتران الذي جسد روح الوحدة بين سوريا ومصر بداية بزوغها.
ورغم أن في مدينة حلب آنذاك محامين أكفاء إلا أنها كانت المحامية الوحيدة من بنات جنسها واتسمت بالذكاء والنبوغ فلمع اسمها وازداد لمعاناً بنجاحها في معظم القضايا التي وكلت للمرافعة فيها كما قالت مجلة المصور المصرية في تقرير صحفي نشر عنها بتاريخ 14 نوفمبر من العام 1958
من السيدة زينب إلى حلب
وتنحدر “إنصاف عبد السلام البرعي” من أسرة مصرية فهي من مواليد منطقة الدواوين بحي السيدة زينب في القاهرة 1929 ووالدها كان أستاذاً للغة الانكليزية في مدارس القاهرة، درست في كلية الحقوق بجامعة القاهرة وتخرجت بدرجة جيد.
وروت رائدة الأعمال “فاتن عقيل” لكاتب هذه السطور أن والدتها رسبت في المرحلة الثانوية بمادة اللغة الإنكليزية للمفارقة رغم كون والدها أستاذاً لهذه المادة، ولكنها أكملت في دورة تكميلية فيما بعد ونجحت بعد أن حجزها والدها في المنزل لثلاثة أشهر تفرغ خلالها لتعليمها هذه اللغة التي برعت فيها فيما بعد إضافة إلى اللغة الفرنسية والعربية.
من القاهرة إلى حلب
بعد نيلها شهادة البكالوريا تزوجت “إنصاف البرعي” من ابن عمتها ودخلت إلى الجامعة وهي حامل بابنها البكر “توفيق” وتمكنت من اجتياز سنوات الحقوق الأربع واضطرت للانفصال عن زوجها بعد تخرجها والتحقت بسلك المحاماة حيث تمرنت على يد أهم محاميي القاهرة آنذاك وبدأت بمزاولة المهنة حيث افتتحت مكتبين أحدهما في القاهرة والثاني في مدينة بنها، وتسترسل محدثتنا قائلة إن اللقاء الأول الذي جمع والدتها بوالدها المحامي والسياسي “سليم عقيل” كان من خلال مؤتمر للمحامين العرب أقيم في القاهرة عام 1955 وهناك كان أول تعارف بينهما حيث كان والدي أعزبَ آنذاك ، وكان يردد مقولة أمام زملائه الذين كانوا يسألونه عن عدم زواجه إذا التقيت بإنسانة مثل الأستاذة إنصاف فسأقبل بالزواج منها، ونشأت حالة صداقة ومراسلات بريدية بينهما تبادلا فيها أفكارهما السياسية وطموحاتهما ومشاعر الود والإعجاب.
بعد سنتين أي في عام 1957 كان هناك مؤتمر للمحامين العرب في دمشق حضرته “إنصاف البرعي” وتقول ابنتها أن والدها عرض على زوجته المستقبلية آنذاك زيارة حلب لتتعرف على أهله وبالفعل سافرت معه إلى مدينته وسُرّت جداً بالتعرف على عائلته، وتتابع محدثتنا: “بعد عودتها إلى مصر اتصل والدي بعمي الإعلامي نذير عقيل الذي كان يعمل في إذاعة صوت العرب بالقاهرة وأخبره برغبة الاقتران بالمحامية إنصاف الرعي فقام بزيارة أهلها وإتمام الخطوبة لعدم تمكن والدي من السفر إلى القاهرة وتم عقد القران والزواج بتاريخ 7/1/ 1958 أي بعد الوحدة بين سوريا ومصر التي أعلِنَت في الـ22 من فبراير في العام 1958، ونشرت الصحف والمجلات المصرية والسورية عن قصتهما باعتبارهما أول من حقق الوحدة بين البلدين على أرض الواقع.
أول قاضية للأحداث في الوطن العربي
بعد زفافها انتقلت “إنصاف البرعي” لتعيش في مدينة حلب مع عائلة زوجها ورزقت ثلاثة أولاد ” خالد ” و”محمد ” وأنا “آخر العنقود” وتضيف فاتن: بعد وقوع الإنفصال بين سوريا ومصر عام 1961 باتت العلاقات بين البلدين صعبة للغاية وحُرمت والدتي من زيارة بلدها وأهلها لمدة 4 سنوات وكان هذا الأمر صعباً للغاية عليها وعانت من وطأته النفسية وبعد فتح الطريق بين سوريا ومصر سافرت إلى بلدها، وتروي محدثتنا أن والدتها لدى وصولها إلى أرض مطار القاهرة سجدت وقبلت الأرض تعبيراً عن اشتياقها لبلادها الذي طال.
وأشارت محدثتنا إلى أن والدتها كانت ثاني محامية تمارس هذه المهنة في سوريا ولكنها تمكنت من أن تكون أول قاضية للأحداث في الوطن العربي ، وهي المحاكم المختصة بالنظر في قضايا الأحداث القاصرين، أي من هم دون الثامنة عشرة
وفي العام 1972 ترشحت للإدارة المحلية في مدينة حلب بتشجيع من زوجها ولكنها لم تنجح لتتوظف بعدها في البنك التجاري السوري كمحامية له، ولكن تم منعها من مزاولة المحاماة بشكل حر.
وروت فاتن أن والدها “سليم عقيل” تعرض لعدة اعتقالات نهاية السبعينات فكانت والدتها إلى جانبه دائماً وتسعى للإفراج عنه في كل اعتقال ونجحت في كل محاولاتها إلا في اعتقاله الأخير في عهد حافظ الأسد عام 1980 الذي استمر حتى العام 1989 واستلمت والدتها خلال هذه الفترة مكتب والدها للمحاماة وكانت تقوم بالدعاوى والدفوعات وتقدم أسماء محامين من أصدقاء والدي لأنها شطبت من نقابة المحامين ولكن كان لديها إصرار عجيب رغم الصعوبات والعوائق التي كانت تقف أمامها، وأشارت محدثتنا إلى أن والدتها كانت إنسانة قوية ومرحة جداً ككل المصريين المعروفين بخفة ظلهم، ونظراً لغياب الوالد المعتقل كان عليها أن تكون أماً وأباً في آن واحد وأن تتعامل بصرامة وشدة مع أبنائها إلى جانب أنها كانت بمثابة عمود البيت والسند الحقيقي لكل فرد فيه من عائلة والدي الكبيرة.
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023