لماذا يُساء فهم تمكين المرأة؟ وكيف نواجه ذلك في المشهد السوري الحالي
الضرورة المُلحة لتمكين المرأة تصطدم بسوء فهم عميق لمفهوم التمكين نفسه

لارا المحمد – العربي القديم
تبرز قضية تمكين المرأة في سوريا كإحدى القضايا الشائكة التي تتقاطع فيها الرؤى المتباينة والمفاهيم المتضاربة. فبين دُعاة التمكين ومعارضيه، وبين الفهم الصحيح والفهم المغلوط، ضاعت حقوق المرأة السورية وتطلعاتها في متاهات الخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي.
لم يعد الحديث عن تمكين المرأة في سوريا اليوم مجرد ترف فكري بل أصبح ضرورة مُلّحة فرضتها الظروف التي عاشتها وتعيشها المرأة السورية. فالحرب التي مزقت النسيج الاجتماعي السوري، وشتتت الأسر، وأفقدت الكثير من النساء أرباب الأسر والمعيلين لها، دفعت بالمرأة السورية إلى الواجهة لتتحمل مسؤوليات جديدة لم تكن مستعدة لها.
لكن المفارقة المؤلمة أن هذه الضرورة المُلحة لتمكين المرأة تصطدم بسوء فهم عميق لمفهوم التمكين نفسه، سواء من قِبل المجتمع أو من قِبل صنّاع القرار أو حتى من قبل بعض المنظمات التي تدعي العمل على تمكين المرأة. هذا السوء في الفهم يحول دون تحقيق تمكين حقيقي وفعال للمرأة السورية، ويجعل الكثير من الجهود المبذولة في هذا المجال تذهب سدى.
النظرة النمطية لدور المرأة
تسود في المجتمع السوري كما في العديد من المجتمعات العربية، نظرة نمطية لدور المرأة تحصره في إطار الأسرة والمنزل. هذه النظرة تعتبر أن المرأة مخلوقة أساساً للزواج والإنجاب ورعاية الأسرة، وأن أي دور آخر هو دور ثانوي أو مكمل. هذه النظرة النمطية تتجاهل حقيقة أن المرأة السورية (عبر التاريخ) كانت دائماً شريكة فاعلة في بناء المجتمع، سواء في المجال الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي.
تفاقمت هذه النظرة النمطية خلال فترة الحرب رغم أنّ الواقع فرض على المرأة أدواراً جديدة ومسؤوليات إضافية. فالمرأة التي أصبحت معيلة لأسرتها بعد فقدان زوجها أو أخيها أو أبيها، لا تزال تواجه نظرة مجتمعية تحصرها في دور (الضحية) أو (المحتاجة للمساعدة)، وليس كفاعلة قادرة على التغيير والمشاركة في بناء المجتمع.
الخلط بين المفاهيم الدينية والموروث الثقافي
لعل أحد أبرز أسباب سوء فهم تمكين المرأة في المجتمع السوري هو الخلط المستمر بين المفاهيم الدينية والموروث الثقافي. فكثيراً ما يتم تبرير الممارسات التقليدية المُقيدة للمرأة باسم الدين، في حين أنها في الحقيقة ممارسات ثقافية وأعراف وتقاليد متوارثة لا تمت للدين بصلة. هذا الخلط ليس وليد اليوم، بل هو نتاج تراكمات تاريخية طويلة، تداخلت فيها التفسيرات الدينية مع الأعراف والتقاليد، حتى أصبح من الصعب التمييز بينهما. وقد استغل البعض هذا الخلط لمقاومة أي محاولات لتمكين المرأة بحجة أنها تتعارض مع الثوابت الدينية، بينما هي في الواقع تتعارض مع عادات وتقاليد قد تكون ظالمة.
الخوف من مفهوم “الجندرة” وسوء فهمه
تكشف المتابعة الدقيقة للخطاب المجتمعي السوري عن وجود مخاوف عميقة وفهم ملتبس لمفهوم الجندرة، حيث يتم تصويره أحياناً كتهديد للهوية الثقافية. يمكننا فهم مصطلح الجندرة بشكل أبسط على أنه المنظومة المجتمعية التي تحدد أدوار كل من الرجل والمرأة وما يُتوقع منهما اجتماعياً. والحقيقة أنّ تبني هذا المنظور لا يهدف لطمس الفروقات الطبيعية بين الجنسين كما يُشاع، بل يسعى لتحقيق توازن مجتمعي يضمن العدالة والمساواة في الحقوق والفرص والامتيازات.
في المشهد السوري الحالي، يبدو هذا الخوف من مفهوم الجندرة أكثر حدة، خاصة مع انتشار خطاب يربط بين هذا المفهوم وبين (أجندات غربية) تهدف إلى تدمير المجتمع. هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أن قضايا المساواة والعدالة هي قضايا إنسانية عالمية، وليست حكراً على ثقافة دون أخرى.
تأثير سنوات الحرب على فهم تمكين المرأة تغير الأدوار الاجتماعية
أدّت الحرب في سوريا إلى تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية للمجتمع السوري. فقد أصبحت العديد من النساء معيلات لأسرهن بعد فقدان الرجال (بسبب الوفاة أو الاعتقال أو الهجرة)، مما فرض عليهن أدواراً جديدة لم يكن مستعدات لها. فوجدت المرأة السورية نفسها فجأةً المعيل الوحيد لأسرتها، واضطرت للعمل في بيئات غير آمنة، وواجهت صنوفاً من التحرش والاستغلال، لكنها استمرت في كفاحها لتأمين لقمة العيش لعائلتها.
هذا التغير المفاجئ في الأدوار الاجتماعية أدى إلى ارتباك في فهم مفهوم تمكين المرأة. فمن جهة أصبح هناك اعتراف متزايد بأهمية دور المرأة في المجتمع وقدرتها على تحمل المسؤولية، ومن جهة أخرى أصبح يُنظر إلى تمكين المرأة على أنه (ضرورة) فرضتها الظروف، وليس(حقاً ) أصيلاً للمرأة.
الفقر والبطالة وتأثيرهما على فهم التمكين
تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا بشكل كبير أدى إلى تضاعف معدلات البطالة بين السوريين ، وأصبحت فرص العمل نادرة، وحتى المتاح منها يفتقر غالباً للظروف اللائقة ويقدم أجوراً لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية.
هذا الوضع الاقتصادي المتردي يجعل الأولوية للبقاء على قيد الحياة وتأمين الاحتياجات الأساسية، وليس للحقوق والحريات. وبالتالي، فإن مفهوم تمكين المرأة قد يُفهم على أنه (رفاهية) لا يمكن تحملها في ظل الظروف الحالية، أو أنه مفهوم ( نخبوي) لا يمسّ احتياجات المرأة العادية.
في هذا السياق، يصبح التمكين الاقتصادي للمرأة هو الشكل الأكثر إلحاحاً من أشكال التمكين. لكن هذا التركيز على الجانب الاقتصادي قد يؤدي إلى إهمال جوانب أخرى من التمكين (مثل التمكين السياسي والاجتماعي والثقافي)، مما يؤدي إلى فهم مجتزأ لمفهوم تمكين المرأة..
استغلال قضايا المرأة في الصراعات السياسية
في سوريا، أصبحت قضايا المرأة وتمكينها موضوعاً للاستغلال السياسي. فبعض الأطراف تتبنى خطاباً ( تقدمياً ) حول حقوق المرأة لكسب التأييد الدولي، بينما تمارس في الواقع سياسات تمييزية. وفي المقابل، تتبنى أطراف أخرى خطاباً ( محافظاً) لكسب تأييد بعض شرائح المجتمع.
هذا الاستغلال السياسي يؤدي إلى تشويه مفهوم تمكين المرأة وربطه بأجندات سياسية معينة. فبدلاً من أن يكون التمكين هدفاً إنسانياً نبيلاً يسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة، يصبح أداة في الصراع السياسي، مما يفقده مصداقيته ويزيد من سوء فهمه.
فرض نماذج جاهزة دون مراعاة السياق المحلي
كثير من برامج تمكين المرأة في سوريا تفرض نماذج جاهزة مستوردة من الخارج، دون مراعاة كافية للسياق المحلي واحتياجات النساء الفعلية. هذه النماذج الجاهزة قد تكون ناجحة في سياقات أخرى، لكنها قد لا تكون مناسبة للسياق السوري بخصوصياته الثقافية والاجتماعية.
هذا الفرض للنماذج الجاهزة يؤدي إلى رد فعل عكسي من المجتمع، ويزيد من سوء فهم مفهوم تمكين المرأة. فبدلاً من أن يُنظر إلى التمكين على أنه عملية تنبع من داخل المجتمع وتستجيب لاحتياجاته، يُنظر إليه على أنه (استيراد) أو ( تقليد) للغرب، مما يزيد من مقاومة المجتمع له.
نحو فهم صحيح لتمكين المرأة في المشهد السوري:
لتحقيق فهم صحيح لتمكين المرأة في المشهد السوري، نحتاج أولاً إلى إعادة تعريف مفهوم التمكين بما يتناسب مع السياق السوري. هذا التعريف يجب أن يراعي الخصوصية الثقافية والاجتماعية للمجتمع السوري، وأن يستجيب للاحتياجات الفعلية للمرأة السورية. جوهر تمكين المرأة يكمن في تهيئة الظروف والبيئة التي تسمح لها بممارسة حقوقها الكاملة، وتطوير قدراتها الذاتية، والسعي لتحقيق طموحاتها الشخصية والمهنية دون عوائق مجتمعية أو قانونية.
ولمواجهة سوء فهم تمكين المرأة نحتاج إلى تمييز واضح بين الدين والموروث الثقافي. وهذا التمييز يتطلب جهداً فكرياً وثقافياً كبيراً يشارك فيه علماء الدين والمفكرون والمثقفون والحقوقيون ومنظمات المجتمع المدني. كما يتطلب حواراً مجتمعياً واسعاً حول مفهوم التمكين وعلاقته بالدين والثقافة.
لتحقيق تمكين حقيقي وفعال للمرأة السورية نحتاج إلى تبني مقاربة شاملة للتمكين تشمل جميع جوانب حياة المرأة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ولتحقيق فهم صحيح لتمكين المرأة في المشهد السوري، نحتاج إلى الاستماع إلى أصوات النساء السوريات أنفسهن. فهن الأقدر على تحديد احتياجاتهن وطموحاتهن، وهن الأعلم بالتحديات التي يواجهنها. كما يتطلب الاعتراف بتنوع النساء السوريات واختلاف احتياجاتهن وطموحاتهن، وعدم التعامل معهن كفئة متجانسة.
نؤكد أنّ تمكين المرأة السورية ليس ترفاً فكرياً أو شعاراً رناناً، بل هو أولوية مهمة وضرورة مُلّحة لبناء مستقبل سوريا، فلا يمكن تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة دون مشاركة فاعلة من نصف المجتمع. إنّ الطريق نحو تمكين حقيقي للمرأة السورية قد يكون طويلاً وشاقاً، لكنه طريق لا بد من سلوكه إذا أردنا بناء سوريا جديدة، سوريا العدالة والمساواة والكرامة للجميع.