الأقليات والأكثرية في سوريا: نحو عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة
أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في الأزمة السورية هي اللجوء إلى السلاح والاستقواء بالخارج

محمد الشيخ علي – العربي القديم
تعيش سوريا منذ عقود حالة معقدة من التداخل بين الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية، انعكست على بنية الدولة والمجتمع والسياسة. ومع اندلاع الثورة السورية، برزت قضية العلاقة بين الأقليات والأكثريات بوصفها إحدى أهم القضايا التي تحتاج إلى معالجة جذرية، إذا ما أُريد للبلاد أن تتجه نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية.
إن بناء مستقبل سوريا اليوم بعد انتصار الثورة لا يمكن أن يقوم على منطق الغلبة أو الإقصاء، بل على مبدأ المواطنة الذي يساوي بين السوريين جميعاً، ويجعل من الانتماء للوطن هو الهوية الجامعة الوحيدة.
أولاً: حكومة الأكثرية ومسؤولية ترسيخ مبدأ المواطنة
في أي نظام سياسي ديمقراطي، تكون للأكثرية المنتخبة شرعية إدارة الحكم، غير أن هذه الشرعية لا تكتمل إلا إذا احترمت حقوق الأقليات وقدّمت نموذجاً في العدالة والمساواة؛ فالأكثرية الحاكمة لا ينبغي أن تتحول إلى أداة إقصاء، بل إلى ضامن حقيقي للتنوع وحقوق الجميع.
على الحكومة الحالية في سوريا، مهما كان لونها السياسي أو القومي أو المذهبي، أن ترسخ مفهوم المواطنة من خلال:
القانون العادل والمساواة أمامه: بحيث لا يكون الانتماء الديني أو القومي معياراً في توزيع الحقوق والفرص.
ضمان المشاركة السياسية للأقليات، ليس فقط بالتمثيل الرمزي، بل بمشاركتهم الفعلية في صنع القرار.
إصلاح المناهج التعليمية لتكريس قيم التعددية والانتماء الوطني بدلاً من العصبيات الضيقة.
لقد أثبتت التجارب العالمية أن الدول التي نجحت في إدارة تنوعها، مثل سويسرا التي تضم لغات وثقافات متعددة، أو ماليزيا التي تحتوي خليطاً من الملايو والصينيين والهنود، إنما فعلت ذلك بترسيخ المواطنة والعدالة في مؤسسات الدولة.
وهذا الدرس بالغ الأهمية لسوريا، حيث يشكل التنوع غنىً حضارياً إذا ما تمّت إدارته بالحكمة والعدل، لا بالخوف أو التمييز.
ثانياً: التعاون سبيل النهوض
من الخطأ الاعتقاد أن بناء مجتمع متماسك يتطلب أن يحب جميع أفراده بعضهم بعضاً. فالحب شعور إنساني عاطفي لا يُفرض، بينما الاحترام المتبادل هو قيمة اجتماعية يمكن أن تُبنى بالتربية والقانون والثقافة.
في مجتمع متعدد مثل سوريا، يجب أن يكون شعار المرحلة القادمة:
“لسنا مضطرين أن نتشابه، ولكننا مضطرون أن نحترم بعضنا ونتعاون من أجل مصلحتنا المشتركة.” إن الأمم التي حققت نهضتها لم تكن بالضرورة متجانسة.
الهند، على سبيل المثال، تضم أكثر من 2000 مجموعة عرقية، وأكثر من 1600 لغة ولهجة، إضافة إلى تعدد ديني واسع (هندوس، مسلمون، سيخ، مسيحيون، بوذيون…)، ومع ذلك حافظت على استقرارها السياسي ونموها الاقتصادي بفضل نظام ديمقراطي يحترم التنوع.
الإمارات العربية المتحدة، رغم وجود مزيج سكاني من جنسيات وثقافات مختلفة، استطاعت أن تخلق نموذجاً للتعايش والاحترام، ما انعكس في ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي.
أوروبا الغربية بدولها المتنوعة دينياً ولغوياً (كألمانيا وفرنسا وبلجيكا)، تمكّنت من تحويل تنوعها إلى مصدر قوة ثقافية واقتصادية.
من هنا، فإن العمل المشترك بين السوريين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم، سيعود بالنفع على الجميع:
على مستوى الأفراد من حيث فرص العمل والاستقرار،
وعلى مستوى الدولة من حيث التنمية والأمن والاستقلال الوطني.
ثالثاً: رفض الاستقواء بالسلاح أو بالخارج…
أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في الأزمة السورية هي اللجوء إلى السلاح والاستقواء بالخارج، سواء من قبل فئات معارضة أو موالية. فقد أثبت التاريخ أن الاستعانة بالخارج لا تجلب حلاً، بل تعمّق الانقسام وتحوّل البلاد إلى ساحة صراع لمصالح الآخرين.
الحل الحقيقي يكمن في الحوار الوطني الداخلي القائم على مبدأ:
“حرمة الدم السوري فوق كل اعتبار.”
لا يمكن أن تُبنى سوريا جديدة على الدم والانتقام، بل على المصالحة والعفو المتبادل، وعلى الاعتراف بالأخطاء من جميع الأطراف. إن مطالبة طرف واحد بأن يعترف بأخطائه هي حماقة، والمساواة بين الخطأ الجسيم الذي دمر بلداً وبين الخطأ الصغير الذي يجب أن يعالج حماقة أكبر,
ويجب أن يلتزم الجميع بأن السلاح مكانه في يد الدولة وحدها، وأن القوة تُمارس في إطار القانون، لا العصبيات أو الفصائل أو الولاءات الخارجية.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى تجربة جنوب إفريقيا، التي خرجت من نظام الفصل العنصري عبر لجنة الحقيقة والمصالحة التي أسسها نيلسون مانديلا، فاختارت العدالة الانتقالية بدلاً من الثأر، فأنقذت البلاد من حرب أهلية مدمرة. وهذا ما يمكن أن تتعلمه سوريا: أن الطريق إلى السلم يبدأ بالاعتراف المتبادل، والاحترام، والحوار، والاحتكام إلى القانون.
من مصدر ضعف إلى مصدر قوة
الخلاصة إن مستقبل سوريا يتوقف على قدرتها على صياغة عقد وطني جديد يقوم على المواطنة، والاحترام، وحرمة الدم.
عقدٌ يعترف بتعدد المجتمع السوري ويحوّله من مصدر ضعف إلى مصدر قوة.
لن يتحقق ذلك إلا إذا:
احترمت الأكثرية حقوق الأقليات،
والتزمت الأقليات بالعمل ضمن الإطار الوطني،
ورفض الجميع منطق السلاح والوصاية الخارجية.
حينها فقط يمكن أن تُبنى سوريا التي نحلم بها: دولة لكل أبنائها، يسود فيها القانون، ويزدهر فيها الاقتصاد، وتُصان فيها الكرامة الإنسانية دون تمييز أو خوف.