دلالات وقضايا | هل وظَّف العامريُّ اقتباساتٍ مفيدة للدِّفاع عن عناوينه المثيرة؟
مهنا بلال الرشيد
أحالنا الدُّكتور سامي العامريُّ من كتابه: (الوجود التَّاريخيِّ للأنبياء) إلى كتابه: (براهين النُّبوَّة والرَّدُ على اعتراضات المستشرقين والمنصِّرين)؛ كيلا يكرِّر مبحثًا يحتوي على الأدلَّة ذاتها في كتابين؛ لكنَّنا عند عودتنا إلى الكتاب وجدناه يدلِّل على وجود الخالق -عزَّ وجلَّ- أكثر من تدليله على وجود الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه جميعًا.
ولا يكتفي العامريُّ بهذا الخروج من التَّدليل على وجود الأنبياء ومعجزاتهم إلى التَّدليل على وجود الخالق بل يخرج إلى مقارنة (الشَّخص الألوهيِّ المؤمن بوجود الخالق الَّذي يُسيِّر هذا الكون، ويُرسل الرُّسل المؤيَّدين بالمعجزات لهداية البشر) بـ (الشَّخصِ الرُّبوبيِّ الَّذي يؤمن بأنَّ الإله خلق الكون، ولم يرسل الرُّسل، بل ترك البشر يتصارعون للسَّيطرة على المدن والدُّول كما هو الحال، الَّتي تصوِّرها لنا المراجع التَّاريخيَّة منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حتَّى وقتنا الرَّاهن.
كذلك يُقحم العامريُّ في هذه الفقرة مباحث شائكة جدًّا مثل: خصوصيَّة النُّبوَّة والعدل الإلهيِّ، والعدل والأخلاق، والخير والشَّرّ؛ وهذه قضايا وثنائيَّات جدليَّة شائكة وحسَّاسة جدًّا صعُب على أشهر فلاسفة التَّاريخ أن يقولوا كلمة الفصل فيها خلال كتب طويلة أفردوها لهذه القضايا؛ فلماذا ترك العامريُّ البرهة على وجود الأنبياء ومعجزاتهم؟ ولماذا بدأ الحديث في هذه القضايا؟ هل سخَّر هذه القضايا للبرهنة على وجود الأنبياء؟ لذل سنعرض أقواله في هذه القضايا للقارئ الكريم.
الرُّبوبيُّ والألوهيُّ عند سامي العامريِّ
رأى العامريُّ أنَّ وعي الرُّبوبيِّين وعيٌ مبتور؛ فَهُم يؤمنون بوجود الإله الخالق الواحد المفارق للطَّبيعة، ويعتقدون أنَّه ذات فاعلة ومريدة، ومع ذلك ينكرون وجود الرُّسل، ويرون أنَّ الكون يعمل ميكانيكيًّا دون حاجة (للعناية الإلهيَّة)، ويبدو لنا أنَّ العامريَّ متأثِّر بفكرة القدِّيس أوغسطين حول (نظريَّة العناية الإلهيَّة)، وهي (نظريَّة مطوَّرة عن نظريَّة شعب الله المختار اليهوديَّة). وكذلك يرى الرُّبوبيُّون-بحسب العامريِّ-أنَّ العقل بإمكانه أن يقود صاحبه في هذا الكون إلى معرفة الله بدل الكتاب المقدَّس؛ لذلك يعتقد الرُّبوبيُّون بعدم وجود المعجزات؛ وعدم قدرة الرُّسل على فعلها؛ لأنَّ قوانين الكون ثابتة، ولا تتغيَّر، ومع ذلك يعتقد الرُّبوبيُّون بحياة أخرى؛ فيها ثواب وعقاب بعد الموت؛ ويبدو لنا أنَّ وصول العامريِّ إلى هذه الفكرة دفعه لمزيد من الاستطراد للحديث عن معضلة (الخير والشَّرِّ) أو (الثَّواب على الخير) و(العقاب على الشَّرِّ) بعد الموت بدل إثبات وجود الرُّسل.
وجد العامريُّ أنَّ اعتقاد الرُّبوبيُّين بإهمال الإله هذا الكون أو تخلِّيه عن إدارته بعد إبداع خلقه دليل على تصوُّرهم الطُّفوليِّ القاصر والمطابق لتصوُّرات الوثنيَّات القديمة في بابل ومصر واليونان. ونسأل ههنا: هل يُعتبر الحديث عن الفكر الطُّفوليِّ لدى غير المؤمن بالرُّسل ومعجزاتهم دليلًا على وجود الرُّسل؟
وجد العامرُّ أنَّ وعي الأُلوهيِّ صحيح مقابل وعي الرُّبوبيِّ الخاطئ؛ لأنَّ الألوهيَّ يتشوَّف إلى رسالة السَّماء من بوَّابة النُّبوَّة، ويترقَّى من العلم بوجود الرَّبِّ إلى العلم بحقيقته ومراداته؛ لأنَّ الحكمة الكاملة لا تنتحر، وإنَّما هي حُبلى بالمعنى والأمل، وكمال الصِّفات عنده وجه لكمال الذَّات. ونتساءل ههنا عن الكيفيَّة الَّتي يترقَّى بها الألوهيِّ من العلم بوجود الرَّبِّ إلى العلم بمراداته؟ وهل تصلح هذه الكيفيَّة-مهما كان نوعها-لتصير دليلًا على وجود الأنبياء والمعجزات؟ وهل مثل هذا الكلام الإنشائيِّ يدلُّل على وجود الأنبياء ومعجزاتهم أو يزيد المسألة تعقيدًا، أو لا يضرُّ ولا ينفع في هذا الباب؟
تحدَّث العامريُّ في فقرة سابقة عن الفيلسوف (الرُّبوبيِّ بحسب تعبيره) جان جاك روسو، ثمَّ راح يتَّهم الرُّبوبيَّ بأنَّه أسيرُ الجهل بخالقه بسبب سكرة الإعجاب بعقله، واستتج بعد ذلك أنَّ حال الرُّبوبيِّ أسوأ من حال الملحد المنكر لوجود الخالق؛ لذلك يدلُّ اعتقاد الرُّبوبيِّين على كسلهم المعرفيِّ، الَّذي أوقفهم على تُخوم الإيمان والإلحاد؛ (ونرى أنَّ العامريَّ دائمًا ينقد النَّصرانيَّة أو المسيحيَّة، ويدافع عن اليهوديَّة برغم إقراره بتحريف التَّوراة وأخطائها)، ثمَّ راح يستنتج أنَّ كُفْرَ بعض الملحدين وبعض الرُّبوبيِّين بسبب فساد النَّصرانيَّة ومؤسَّساتها قادهم إلى الكفر بالأديان كلِّها، ونتساءل ههنا: إن كان الفساد مقتصرًا على مؤسَّسات النَّصرانيَّة أم أنَّ هذا الفساد الفكريَّ يدخل إلى النُّصوص الخاطئة والمحرَّفة في التَّوراة ذاتها، الَّتي كتبها محرِّروها خلال ألف عام تقريبًا؟ ونستفسر عن أسباب ابتعاد العامريِّ عن نقد أخطاء التَّوراة وتفنيدها؟
خلص العامريُّ إلى أنَّ الإيمان بوجود الخالق يجب أن يقود ضرورة إلى الإيمان بوجود الأنبياء، وإن لم يصل الرُّبوبيُّ إلى الإيمان بالأنبياء فهذا بسبب قصور وعيه؛ ونعود هنا لنتساءل، ونقول: إن دلَّ هذا الكون على وجود خالقه؛ فهل يصلح هذا الكون الكبير ليكون دليلًا على صِدق الأنبياء وصدق معجزاتهم وصِدق تواصلهم مع الخالق من خلال الوحي؟ لماذا يعدُّ العامريُّ أدلَّة وجود الخالق أدلَّة على صِدق الأنبياء وأدلَّة على وجودهم أيضًا؟
خصوصيَّة النُّبوَّة والعدل الإلهيُّ عند العامريِّ
ردَّ العامريُّ على مَن يعتقد أنَّ اصطفاء الله بعض البشر ليكونوا أنبياء تضييق على البشر وظلم لفئتين منهم؛ أولئك الَّذين لم يكونوا في عِداد الأنبياء وأولئك الَّذين لم يصلهم أيُّ رسول؛ ليقول العامريُّ بعد ذلك: إنَّ اصطفاء الأنبياء لا يكون إلَّا بعد اختبارهم وابتلائهم، ولو نزل الوحي الخاصُّ بالأنبياء على النَّاس كلِّهم، أو إن أجبر الله البشر كلَّهم على الإيمان بالنُّبوَّة ستفقد رسالة النَّبيِّ قيمتها، ولن يكون هناك جدوى من دعوة النَّبيِّ قومَه إلى التَّصديق؛ لأنَّ تصديق المؤمنين مع قدرتهم على التَّكذيب هو الَّذي يميِّزهم من الكافرين المنكرين أو المشكِّكين؛ لذلك يجب على كلِّ صاحب عقل يبلغه خبر النَّبيِّ أن يصدِّقه، ويؤمن به بإرادته واختياره لا بإلزام الخالق وتسييره؛ لأنَّ وقوف الرُّبوبيِّ -(أي المؤمن بالرَّبَّ دون الإيمان بالأنبياء)- على تخوم الإيمان والإلحاد دليل على كسله المعرفيِّ بحسب رأي العامريّ؛ وما دام الأمر هكذا لماذا يوجب العامريُّ على الإنسان أن يؤمن بالأنبياء مع أنَّ الله-سبحانه وتعالى-ترك للبشر حرِّيَّة الاختيار؟ أي بمعنى آخر: لماذا يفرض العامريُّ على النَّاس أن يؤمنوا بالأنبياء المذكورين في التَّوراة دون دليل قطعيٍّ على نبوَّاتهم جميعًا؟ وهو الَّذي يقرُّ بأخطاء التَّوراة، وقد أثبت الدَّارسون تحرير التَّوراة وكتابتها من قبل مجموعة من الكُتَّاب على مدار ألف سنة تقريبًا!
يمكننا بعد ذلك أن نتساءل عن الفائدة من وجود العقل إن اتَّهمْنا كلَّ من لم يؤمن بآباء التَّوراة وأنبيائها بقصور في وعيه وعقله؟ ثمَّ لماذا اتَّهم العامريُّ عقل المتأمِّل بالقصور، وانتقل بعد ذلك إلى إجبار المتأمِّل على تصديق أخبار آباء التَّوراة وأنبيائها كي يتخلَّص من قصور عقله، الَّذي اتَّهمه العامريُّ به؛ ليتجاوز مرحلة الإيمان بالرُّبوبيَّة، ويصل إلى الإيمان بالألوهيَّة؟ وما الفائدة من ازدواجيَّة العقل أو وظائفه المتناقضة؟ فإعماله للتَّأمُّل في عظمة خالق هذا الكون دليل عقليٌّ على وجود الخالق عند العامريِّ! وإنكار العقلِ وجودَ بعض آباء التَّوراة أو بعض معجزات أنبيائها دليل على قصوره! فهل يُصادر العامريُّ عَقلَ الإنسان، ويجبره على الإيمان بما يقوله العامريُّ في كتابيه: (الوجود التَّاريخيُّ للأنبياء) و(براهين النُّبوَّة) مع أنَّ الله خلق عقل الإنسان للتَّأمَّل؟ لماذا يتناقض العامريُّ حين يرى أنَّ تخيير النَّاس أفضل من تسييرهم وإجبارهم على التَّصديق بالمعجزات؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان-بعد إعمال العقل-والتَّصديق بمعجزات الأنبياء ووجود الآباء؛ أي (الملوك أو الرُّسل قبل إبراهيم عليه السَّلام)؟ وإن وصلوا إلى شيء غير هذا الإيمان أو غير هذه النَّتيجة، الَّتي يقرِّرها لهم العامريُّ سلفًا؛ فهذا دليل على قصور في عقولهم؟ فأيُّ تناقض في برهان العامريِّ هذا؟ وأيَّة مصادرة لكلِّ تأمُّل عقليٍّ لا يوصل إلى النَّتائج الَّتي قرَّرها العامريُّ قبل الحجاج والنِّقاش؟!
كيف يمكن للعقول المسيَّرة أو المجبرة على التَّصديق أن تميِّز النَّبيَّ الحقيقيَّ من المتنبِّي أو من مدَّعي النَّبوَّة طالما أنَّ البشر ملزمون بتصديق مَن يصلهم خبر نبوَّته؟ يقول العامريُّ: (والإنسان إذا امتلك عقلًا، وإرادة حرَّة، وجارحة على الفعل قادرة، وبلغه خبر النَّبيِّ، لزمه تصديق النَّبيِّ فيما أخبر، والعمل بما جاء به وشرع، وإذا قصَّر في ذلك فهو مذنب، وإنزال الوعيد به هو عين العدل).
هل وصول خبر مَن يدَّعي النُّبوَّة دليل على صِدق ادِّعائه؟ وماذا إن كانت طريقة وصول الخبر عن طريق أنواع من الوحي-(كنزول جبريل ملاك الوحي أو صعود الرَّسول إلى السَّماء)-هي ذاتها مَدارَ نقاش واحتجاج واعتراض؟ وماذا لو رَفضها العقل أو رفضتها الإرادة الحرَّة، الَّتي يدعونا العامريُّ إلى تصديق هذه الأخبار من خلالها بعد إعمالها وإعمال العقل؟ ونلخِّص هذه الأفكار بقولنا: هل كانت براهين العامريِّ السَّابقة على وجود الآباء وبعض معجزات الأنبياء مقنعةً؟ وهل يُمكن تسمية أيِّ نقاشٍ أو أيِّ كلامٍ إنشائيٍّ أو أيَّة اقتباسات من هنا وهناك برهانًا إن لم تقنعنا عقلًا ومنطقًا؟ هل هذا النَّوع من الكلام سردٌ عاطفيٌّ أو برهان عقليٌّ؟ وما الفرق بين البرهان والدَّعوة العاطفيَّة-من خلال التَّرغيب والتَّرهيب-إلى التَّسليم والتَّصديق إذا فقد البرهان إقناعه، وتحوَّل في معظم حالاته من البرهنة على وجود الآباء وصِدق معجزات الأنبياء إلى البرهنة على وجود خالق لهذا الكون؟ مع أنَّ التَّدليل على وجود الخالق يختلف تمامًا عن البرهنة على تواصل البشر مع الخالق عن طريق معجزة نزول الوحي أو معجزة الصُّعود إلى السَّماء، لا سيَّما أنَّ كثيرًا ممَّن أنكر النُّبوَّة والمعجزات من فلاسفة الرُّبوبيَّة ومفِّكريها قد آمنوا بوجود خلَّاق عظيم، وإن اختلفوا في تحديد كنهه وصفاته؟!
يبدو أنَّ الإنسان-بحسب سرد العامريِّ-محاسب على فعله نتيجة إعمال عقله وبعد (أن تبلغه الحجَّة الرَّسوليَّة عن طريق نبيٍّ أو رسول)، فماذا عن أولئك الَّذين لم يصلهم شيء من ذلك؟ هل نعدَّهم بين مع غير المكلَّفين بشيء؟ وماذا لو رفض العقل (الحجَّة-المعجزة) ولم يصدِّق خبرها أساسًا؛ مثل رفضِ خبر الصُعود إلى السَّماء؟ ومادام الأمر أمرَ إعجاز وتحدٍّ لماذا كان الصُّعود إلى السَّماء ليلًا، ولم يكن على مرأى النَّاس؟ وأيُّ حجَّة نقيمها على البشر حين نلزم عقولهم بالإيمان بمعجزة لم يرَوها أساسًا؟
العقل والأخلاق بين سامي العامريِّ والمذهب الرُّبوبيِّ
ساوى العامريُّ بين الملحد المنكر لوجود الإله، والرُّبوبيِّ المؤمن بوجوده، حين تحدَّث عن مفهوم العقل التَّطوُّريِّ المصمَّم للحفاظ على حياة الكائن الحيِّ وليس لإدراك الحقائق، ونسب هذه الفكرة إلى الملحدين من منكري وجود الذَّات الإلهيَّة والقائلين بنظريَّة التَّطوُّر؛ ولهذا السَّبب لا يثق العامريُّ بالعقل، ويستشهد بقول (الفيلسوف الملحد جون غراي): “العقل البشريُّ يخدم نجاحًا تطوُّريًّا لا [يخدم بلوغ] الحقيقة”. ويبدو لنا أنَّ استشهاد العامريِّ في محلِّه إن كان مؤمنًا بصحَّة نظريَّة داروين في النُّشوء والتَّطوُّر والارتقاء، وأتصوَّر أنَّ رأي العامريِّ مهزوز ههنا، فإن قال بعدم صحَّة نظريَّة داروين فقد أعاد نفسه إلى عدم جدوى وجود العقل المسيَّر نحو الإيمان بالآباء وخوارق المعجزات، والعقل المسيَّر يسلب الإنسان إرادته الحرَّة، ويُعفيه من تبعات الإيمان؛ لأنَّ الإيمان صار خارج حدود قدرة الإنسان وإرادته الحرَّة على الاختيار، وإن قال العامريُّ: إنَّ نظريَّة داروين صحيحة، فقد أوقع نفسه في مشكلتين؛ يعترف في المشكلة الأولى بعدم جدوى عقل الإنسان؛ لأنَّه عقلٌ تطوُّريٌّ مصمَّمٌ للحفاظ على حياة الكائن، وهو قاصر عن إدراك معجزات الرُّسل والإيمان بها، ويؤكِّد في المشكلة الثَّانية صحَّة نظريَّة داروين في أصل الإنسان وتطوُّره عن كائنات أخرى؛ بمعنى آخر: ينفي وجود آدم؛ لأنَّ آباء البشر الأوائل هم كائنات أخرى؛ تطوّرنا عنها جيلًا بعد جيل، وينفي وجود الرُّسل كلَّهم من آدم حتَّى محمَّد صلوات الله عليهم جميعًا؛ لأنَّ آدم وباقي البشر كلَّهم جاؤوا نتيجة تطوُّر مجموعة من القِردة أو تطوُّر أنواع الإنسان الأخرى، الَّتي سبقت وجود الإنسان البشريِّ أو الإنسان العاقل، ولم يهبط أحدٌ من الجنَّة كما تقول التَّوراة، الَّتي يتفانى العامريُّ بالدِّفاع عن مقولاتها.
الرُّبوبيُّون-بحسب أقوال العامريِّ-يتصوَّرون وجود إله بعيد عن عباده، لا يرحمهم، ولا يرأف لحالهم، وتصوُّرهم هذا يجب أن يقود إلى قصور عقل الإنسان؛ لأنَّ الإله غير الرَّحيم قد يخلق عقلًا لا يهتدي إلى الحقيقة؛ وبحسب هذه المقدِّمات (غير المتناسقة من وجهة نظري) يستنتج العامريُّ أنَّ العقل قاصر، ولا يكتمل إلَّا بالإيمان بوجود الخالق، الَّذي أرسل الرُّسل؛ لنؤمن بمعجزاتهم، ويكملوا عقولنا، ويخلِّصوها من تلاعب الشَّياطين فيها، ويقتبس من الفيلسوف الفرنسيِّ ديكارت، ويقول: (إنَّ ما يحسبه الإنسان حقًّا بدلالة عقله عليه، قد يكون-في حقيقته-مجرَّد أثر عن تلاعب شيطانه بدماغه). ومن الغريب أنَّ العامريَّ يقتبس مجدَّدًا من ديكارت، ويدلُّ اقتباسه على إيمان ديكارت بالعقل مع شكَّه بوجود الإله، وشكِّه بوجود رحمته إن كان موجودًا؛ ومن هنا تبدو لنا استشهادات العامريِّ إن لم تكن حشوًا مضطربًّا؛ فهي أقرب إلى نفي آرائه بدل إثباتها، على نحو هذا الاقتباس من التَّأمُّل الثَّالث من تأمُّلات ديكارت، الَّذي يقول فيه: (عليَّ أن أبحث إن كان هناك إله…وإذا وجدتُ أنَّ هناك واحدًا، فعليَّ عندها أن أبحث إن كان مخادعًا؛ لأنَّه بغير معرفة هاتين الحقيقتين لا أرى أنَّه بإمكاني البتَّة أن أكون واثقًا في أيِّ شيء)؛ ومن هنا يبدو لنا أنَّ العامريَّ يعدُّ ديكارت مؤمنًا ألوهيًّا في الاقتباس الأوَّل، ثمَّ يعدل عن ذلك، ويعدُّه -في الاقتباس الثَّاني- ملحدًا أو ربوبيًّا، لا يؤمن بكمال صفات الخالق؛ ليستنتج العامريُّ بعد ذلك أنَّ العقل الفاسد، الَّذي تصوَّر وجود إله غير كامل لا يستحقَّ التَّصديق؛ لذلك يجب أن نؤمن قبل الاستماع لأحاديث الشَّياطين في عقولنا القاصرة. ويبدو أنَّ العامريَّ مشغوف بالدَّعوة إلى تعطيل العقل، ويرغب من المتلقِّي أن يُعلن إيمانه حتَّى لو اضطرَّ إلى القول بنقص الخالق وعدم كماله؛ فالمهمُّ عنده أن تؤمن بالآباء ومعجزات الأنبياء المذكورين في التَّوراة.
خلص العامريُّ إلى أنَّ أتباع المذهب الرُّبوبيِّ يؤمنون بأنَّ الخالق غير كامل الصِّفات، ويفضِّلون البرهان العقليَّ على غيره، ثمَّ استنتج أنْ لا سبيل للثِّقة في العقل إلَّا بعد الثَّقة في خالقه، وإنكار كمال الإله يمنع الثِّقة في العقل؛ والعقل-عند العامريِّ-عاجز عن إدراك الحقِّ بمفرده؛ لذلك لن يكتمل هذا العقل إلَّا من خلال الإيمان بالآباء ومعجزات الرُّسل، الَّذين يكملون نقص العقل من خلال نقل رسالة الخالق إلى أنبيائه؛ وهنا يمكننا أن نسأل العامريِّ عن دليله على خلق الله هذا العقل العاجز؟ ولماذا أوجب الله على البشر الإيمان طالما أنَّه زوَّدهم بالعقول النَّاقصة؟ ويصل العامريُّ بعد ذلك-ودون دليل أو برهان عقليٍّ-إلى أنَّ فكرة (الرُّبوبيَّة أو الإيمان بالرِّبِّ دون الإيمان برسله ومعجزاتهم) إمكانيَّة فلسفيَّة مستحيلة، وبهذه الطَّريق يغلق العامريُّ كلَّ طريق أمام العقل؛ ولا يبقي له بابًا مفتوحًا إلَّا باب الإيمان بالآباء ومعجزات الأنبياء؛ وبهذا الإيمان-بحسب العامريِّ دائمًا-يسدُّ الإنسان ثغرة النَّقص في عقله، ويبتعد عن طريق الفلسفات المستحيلة. ونحن هنا وإن كنَّا نلمح ضعفًا ملحوظًا في استدلالات العامريِّ وبراهينه فإنَّنا نضعها أمام القارئ؛ ليبدي وجهة نظره فيها؛ ولكنَّنا-ومع ذلك-يمكننا أن نشير إلى كتب مهمَّة تُغني النِّقاش في هذا المجال، ونستغرب من تخصيص العامريِّ فقرات مهمَّة في كتابه للحديث عن العقل والإرادة الحرَّة والأخلاق والشَّرِّ والاكتفاء باقتباسين من (تأمُّلات) رينيه ديكارت، مع أنَّ أفضل نقاش لهذه القضايا جاء في كلٍّ من كتب: (نقد العقل المحض) لإيمانويل كانط، وكتاب: (العالم إرادة وتمثُّلًا) لآرثر شوبنهاور، وكتاب: (ما وراء الخير والشَّرِّ) لفريدريش نيتشه، ونحن ههنا لسنا في صدد استعراض ثقافيٍّ حول هذه الكتب والقضايا؛ لكنَّ نقاش هذه القضايا دون معرفة دُنيا بأشهر الأقوال فيها يبقى نقاشًا قاصرًا من وجهة نظرنا أيضًا.
إن كان الدِّفاع عن الرُّبوبيِّين والملحدين لا يعنينا أبدًا فإنَّنا نعتني جدًّا بضرورة اعتناء العامريِّ بجودة النِّقاش ودَعمِ الاستنتاجات بأدلَّتها، لا سيَّما حين استنتج أنَّ أزمة معظم الرُّبوبيِّين تتجلَّى بإيمانهم بتطوُّر الإنسان العشوائيِّ دون أن يدعم استنتاجه بأيِّ اقتباس من أيِّ مصدر أو مرجع، مع أنَّ معظم أتباع نظريَّة التَّطوُّر الدَّاروينيَّة يؤمنون -في حدود علمنا- بأنَّ النُّشوء والتَّطوُّر والارتقاء كان نتيجة انتخابات طبيعيَّة معقَّدة ومنظَّمة جدًّا، أسفرت عن التَّكيُّف، وحدثت عبر مئات الألوف أو الملايين من السَّنوات، ولم يحدث أيُّ تطوُّر -لا تطوُّر العقل، ولا تطوُّر غيره- دون حاجة لهذا التَّطوُّر، الَّذي تلخِّصه قواعد: البقاء للأقوى، والبقاء للأنسب أو البقاء للأصلح. ولأنَّ الخالق دون مرتبة الكمال عند الرُّبوبيِّين-بحسب اعتقاد العامريُّ-يخلص إلى عدم الثَّقة بالعقل عندهم مع أنَّ الأغلبيَّة السَّاحقة من الفلاسفة الَّذين يُصنِّفهم العامريُّ ضمن فلاسفة (المذهب الرُّبوبيِّ) يؤمنون بالعقل، ويبنون فلسفتهم نتيجة نقاشات عقليَّة عميقة جدًّا.
من الغريب لدى العامريِّ أنَّ كثيرًا من استشهاداته اللَّاحقة تنقض مقدِّماته ونقاشاته السَّالفة، وبعد أن اتَّهم مَن أطلق عليهم (فلاسفة المذهب الرُّبوبيِّ) بأنَّ الإله الَّذي يتصوَّرونه هو إله غير مكتمل نقض فكرته بنفسه حين اقتبس قولًا لتوماس باين بوصفه أحد أعظم منظِّري الرُّبوبيَّة، وأثبت له قوله: (الدِّين الحقُّ هو دين الرُّبوبيَّة، وأقصد بذلك سابقًا والآن الإيمان بإله واحد، والتَّخلُّق بصفاته الأخلاقيَّة، أو ممارسة ما سُمِّي بالفضائل الخلقيَّة)، وهذا الاقتباس يدلُّ على أنَّ الإله عند مَن سمَّاهم بفلاسفة المذهب الرُّبوبيِّ هو إله واحد ويمتلك الفضائل الأخلاقيَّة.
بعد هذه القضايا سينتقل العامريُّ للحديث عن مشكلة الشَّرِّ، وسينتقد النَّصرانيَّة (المسيحيَّة)، وسيلخِّص زبدة أدلَّته وبراهينه السَّابقة؛ لذلك سنعرض جملة أدلَّته، وسنرجع إلى اعتراضاته على المنهج (الأركيولوجيِّ-الآثاريِّ) الَّذي استعان به لإثبات وجود بعض الآباء بدءً مقال الأسبوع القادم.