تحرير المرأة .. المعركة مستمرة
تحرير المرأة، قد يكون مجردَ شعار ينادي به بعضهم في العلن بينما يُمارسون نقيضه في الخفاء
قبل 124 عاماً أصدر الأديب والمصلح الاجتماعي المصري قاسم أمين كتاب “تحرير المرأة”، مثيراً آنذاك الكثير من الجدل في أوساط المثقفين والعامة على السواء، إذ ناشد من خلاله بتحرير المرأة في مصر والعالم العربي، متناولاً على نحو خاص معاناة المرأة في بلاده من القهر والظلم بسبب الموروثات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
وعلى الرغم من الطابع الإسلامي التنويري لخطاب أمين الذي حاول في كتابه الصادر عام (1899) إثبات أن الدين لا يتعارض مع إصلاح واقع المرأة لتعزيز دورها في النهضة، إلا أن سيف الموروث بقي مُسلطاً على رقاب النساء، لا في زمنه فحسب، بل حتى وقتنا هذا.
نادى أمين (1863-1908) بتعليم المرأة ومعاملتها معاملة الند للند ومشاركتها في الحقوق والواجبات بالعدل والمساواة مع الرجل، حتى أنه تطرق إلى مسألة شكل الحجاب الذي ترتديه النساء المسلمات، معتبراً أن الحجاب السائد ليس من الإسلام، وأن التشدّد في ارتدائه يُخالف الشريعة الإسلامية، ولذلك يجب التخفيف منه.
لم تكن دعوات المصلح الاجتماعي الراحل إلى نزع الحجاب بشكل كامل، لكنه مع ذلك أصبح هدفاً مباشراً لألسنة الأصوليين، فوصفوه بـ”الزنديق والكافر”.
بعد 75 عاماً من نشر كتاب قاسم أمين، حاول المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي في كتابه “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، تفكيك بنية الفرد والمجتمع في البلدان العربية، وفي الفصل الذي استعرض فيه واقع المرأة، اعتبر أن “مجرد إرسال البنات إلى المدرسة وإزالة الحجاب عن وجوههن، ومنحهن بعض الحقوق المدنية والمهنية لا يُحقق تحرير المرأة، فالتحرير لا يتحقق بمجرد اقتباس العادات والملابس والمدارس الغربية، فهذه ليست إلا مظاهر خارجية كثيراً ما تُخفي العلاقات التقليدية، وبالتالي تمنع تغييرها”
في الكتاب نفسه الذي نشره باللغة الإنكليزية عام 1975 قبل أن يُترجمه بنفسه إلى العربية، يُقسّم شرابي الاضطهاد في المجتمع العربي إلى 3 أنواع، اضطهاد الفقير، واضطهاد الطفل، واضطهاد المرأة، وحول النوع الأخير يقول “من المفجع أن يُولد الإنسان أنثى في مجتمعنا. لا أعرف مجتمعاً في العالم، حتى المجتمعات البدائية، وضع الأنثى فيه مثل وضعها في المجتمع العربي. ومهما حاولنا إخفاء هذا الواقع أو تبريره فالحقيقة بارزة أمامنا وهي تصفعنا كل يوم”.
لا تزال كلمات أمين وشرابي وغيرهم كثر تُحاكي إلى حد كبير واقعنا اليوم، فرغم التغييرات التي شهدتها المجتمعات العربية، بحكم العولمة، لا بحكم إرادة التغيير، إلا أن عجلة الزمن تبدو متوقفة عند زمن مضى، وحتى القوانين التي تم تعديلها أو استبدالها لإنصاف المرأة كإنسان له احترامه وكيانه المستقل، لم تستطع أن تُفكك أو تهدم سلطة العادات والتقاليد التي لا تزال جاثمة بثقلها على النساء، وهكذا، غالباً ما تبدو القوانين مرنة لتُناسب مقاس المجتمع لا حقوقهنّ.
من المستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن، يقول شرابي في كتابه، ويضيف “المرأة هي التي تصنع الإنسان العربي. وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد، فالإنسان العربي غير قابل للتغيير. وعندما قال نابليون إن اليد الي تهز السرير هي اليد التي تهز العالم، قصد بذلك أن المرأة لا الرجل هي قاعدة المجتمع وركيزته”.
يؤكد شرابي (1927-2005) أن المجتمعات العربية إذا كانت جادة في التحديث الحضاري، عليها قبل كل شيء أن تُعيد إلى نصف المجتمع إنسانيته الكاملة، ويتساءل: “كيف لنا أن نُجابه التحديات التي تُهددنا وأن نبني مجتمعاً جديداً في حين أن نصفنا مشلول؟ فعندما يكون النصف مشلولاً يصبح الكل مشلولاً أيضاً. إن نقطة انطلاقنا إذن، أن الإنسان العربي هو الرجل والمرأة على حد سواء”.
لكن، مع ذلك، إذا ما نظرنا إلى آثار التمييز الذي تعيشه المرأة في المجتمعات العربية سنجد ما يُثير الاهتمام، فقد أشارت نتائج أولية لدراسة أجراها شرابي عن تركيبة العائلة ودور الأم في تكوين شخصية الطفل، إلى أن الأولوية والاهتمام الزائد الذي يُعطى للصبي على حساب البنت، يُتيح للأخيرة شيئاً من الحرية يجعلها قادرة على تطوير قواها الذاتية في استقلال وسرعة لا تتوفر لدى الصبي.
وتقول الدراسة ذاتها إن التربية التقليدية وتحميل الفتيات أعباءً كبيرة منذ الطفولة مقابل الاهتمام الزائد بالذكور تؤدي إلى جعل شخصية الأنثى تتكون باكراً، بحيث يصبح في إمكانها القيام بواجبات وأعباء لا يستطيع الذكر القيام بها في مثل سنّها.
يستشهد شرابي الذي عمل أستاذاً للفكر الأوروبي في جامعة جورج تاون الأميركية بتجربته في التدريس الجامعي خلال 20 عاماً، لافتاً إلى أن الفتاة العربية عندما تُتاح لها الفرص التي تتاح لزميلها الشاب تستطيع أن تتفوق عليه في كثير من الأحيان، وهذا بفضل “الصفات والمزايا التي اكتسبتها في الصغر”.
ويتابع “لاحظت أن طلابي العرب كثيراً ما كانوا يطلبون مساعدتي في ترتيب أمورهم أو في التوسط لهم أو في ما شاكل من المساعدات، فيُظهرون بذلك الكثير من الاتكالية في سلوكهم، أما الطالبات العربيات فكنّ يرفضن المساعدة إلا في الحالات الملحة، مُظهرات بذلك اعتماداً على النفس واستقلالية ذاتية تُثير الإعجاب، وأستطيع القول إن الطالبات كنّ دائماً الأقوى شكيمة، والأقدر على حل المشكلات ومواجهة الصعاب”.
على أنّ وصف واقع المرأة العربية دون وجود مقياس معياري، يُبقي هذه المسألة مفتوحة للاجتهادات، ولهذا قد تُفيد بعض المقارنات في تفكيك القضية بشكل أكثر منهجية، وفي هذا الصدد أورد المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ (1930-1978) في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة” وصفاً مختصراً ومعبراً، إذ يقول “لا يُمكن للمرء أن يكتشف مأساة المرأة العربية، المتمثلة في اضطهادها وتنوعها وشعوريتها المضاعفة واستلاب شخصيتها، إلا عندما يرى المرأة الغربية التي تحررت من الأسر الذكوري وأسر التقليد”.
خلال فترة قصيرة قضاها في العاصمة الفرنسية باريس (1966-1967)، لاحظ الحافظ الفارق الشاسع بين واقع المرأة العربية ونظيرتها الغربية “إن الشرقي الذي يتحدث إلى امرأة غربية لا يُمكن إلا أن يُفاجئ أنها تتحدث بدون تحرج، بلا غصّة أو خنوع أو شعور بالنقص إزاء الرجل، بلا شك في نيّات الرجل الاغتصابية المقنّعة، بلا دلع حريمي أو شعورية خالية من أي تأثير عقلاني، وقد لمست عياناً خلال دراستي في باريس كيف تقف المرأة إلى جانب الرجل لا وراءه”.
على أن تحرير المرأة، قد يكون مجردَ شعار ينادي به بعضهم في العلن بينما يُمارسون نقيضه في الخفاء، إذ يُلاحظ مثلاً أن العديد من المهاجرين العرب الذين عاشوا في الغرب وتعرفوا عن تجربته، لم يتخلوا عن القيم السائدة في مجتمعاتهم العربية التي تحط من منزلة المرأة وتضعها في مكانة أدنى من الرجل.
الأخطر من هذا، ربما، أن تقف المرأة ذاتها عائقاً أمام تحريرها، ذلك أن العقلية الذكورية، كثقافة وممارسة، لا تقتصر على الرجال فحسب، فالعديد من النساء نشأن على التصورات ذاتها وأورثنها لبناتهن، وهكذا دواليك.
من الواضح أن الرجل، باعتباره في مركز السلطة، سواء في العائلة أو في نظام الحكم، لن يتنازل بسهولة عن مكاسبه الموروثة منذ آلاف السنين، ولهذا ليس لدى المرأة من خيار سوى انتزاع حقوقها بنفسها، على أن تكون الغاية في نهاية المطاف إحداث توازن يُحقق العلاقة التكاملية، لا التفاضلية، بين الجنسين.
في مقابلة تلفزيونية عام 1988، قال الشاعر السوري الراحل نزار قباني “لا أتصور أن إنساناً حمل المرأة على كتفيه خلال 40 عاماً أكثر مما حملته، لكني قررت الآن أن أنزلها! لماذا؟ لأنها لم تفعل شيئاً لقضيتها”.
أضاف قباني “الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، والذي يُريد أن يصل إلى تحقيق قضية لا بد أن يكون مستعداً للتضحية في سبيلها، ومع وجود بعض الاستثناءات، إلا أن المرأة بصورة عامة في الشرق العربي مستريحة. تحب أن تبقى الأميرة ذات الامتيازات، وتحب أن تُقدَّم لها الحرية على طبق من ذهب”.
في نهاية المطاف، لا يمكن أن يحدث التغيير في المجتمع العربي، من دون تحول جذري في العلاقة مع المرأة والنظرة إليها، وهذا يعني شيئاً واحداً، كما يقول هشام شرابي: تحرير المرأة.