الرأي العام

يا له من زمن رهيب نعيش فيه!

د. علي حافظ

في عام  1973، وفي حفل توزيع “جوائز الأوسكار” السنوي الخامس والأربعين، كان من المفروض أن يحصل الممثل الشهير مارلون براندو على جائزة أفضل ممثل، عن أدائه الرائع في فيلم “العرّاب”، لكنه لم يأتِ حتى إلى الحفل، وبدلاً منه اعتلت خشبة المسرح الناشطة الشجاعة ساشين ليتلفيذر مرتدية فستاناً تقليدياً من جلد الغزال يمثل السكان الأمريكيين الأصليين من الهنود الحمر. في البداية رفضت قبول الجائزة نيابة عن براندو، ومن ثمّ اقتربت نحو الميكروفون، وألقت خطاباً تاريخياً، حول سوء معاملة السكان الأصليين، وعرضهم بشكل مهين في أفلام هوليوود.

بدت الفتاة محترمة، وهادئة ورصينة جداً، واستمرّت في خطابها، رغم سماعها لصيحات الاستهجان الهستيرية الغاضبة، وتعرّضها لسوء المعاملة من مضيف الحفل الفنان جون واين، في نهاية الخطاب الذي حاول مهاجمتها، لولا تدخل حرّاس الأمن!

أوضح براندو قرار التخلي عن الجائزة بحقيقة أنه لم يفكر أبداً في التتويج الاحتفالي، وأنه قرر استخدام لحظة الشهرة تلك، من أجل إعطاء مجال أثيري حرّ لأقلية محرومة، مؤكداً أن إساءة معاملة الأمريكيين الأصليين لا تقل وحشية عن العنصرية العميقة والمدمرة ضد السود، في حين وصف بعض الممثلين، والصحفيين والنقاد أداء ليتلفيذر، بأنه إهانة للكرامة، وجرح للشعور الوطني الأمريكي، معتبرين الممثل نفسه جباناً وغريباً، لكن الأكاديمية قدمت لها اعتذاراً طال انتظاره، وأقامت احتفالاً على شرفها، لكن بعد مرور خمسين عاماً على الحادث المشين!

كانت المعاملة التي تلقتها الفتاة اللطيفة في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 1973 وبعده غير معقولة، ووقحة وفظيعة، ما أثبت بشكل قاطع وجهة نظر مارلون براندو بأنه “يتم التعامل مع السكان الأصليين في الولايات المتحدة بشكل فظيع، دون أي سبب سوى العنصرية”.  

لم يكتفِ براندو بهذا الحد من انتقاده للسلطة في بلده، بل أصرّ دائماً على أن صديقته مارلين مونرو قد قُتلت على يد المخابرات الأمريكية، بسبب علاقتها الحميمية مع الرئيس جون كينيدي، ولم يؤمن أبداً بانتحارها. حاول التأكيد بأنها كانت ناضجة، وأكثر إدراكاً مما قيل عنها: “أصيبت بصدمة، لكنها تمتّعت بذكاء عاطفي قوي، وحدس شديد تجاه مشاعر الآخرين. هذه الصفة هي أكثر أهمية من الذكاء!”.

وصف الممثل الشهير فتاته الجميلة مونرو مراراً وتكراراً، بأنها كانت “أثمن شيء في حياته”، بحيث أثّر موتها بشدة عليه، وأصابه بعلّة عاطفية جعلته يبتعد عن التمثيل، ويعيش منعزلاً في جزيرة تاهيتي، حتى وفاته عام 2004!

حدث هذا في سبعينيات القرن الماضي وليس الآن، لكن مع ذلك يحدث اليوم ما هو أسوأ وأبشع، في ما يتعلّق بالدفاع عن الفلسطينيين الذين يتعرّضون لأبشع المحارق والكوارث، بحيث لا يملكون الإرادة الكافية، لمحاولة الحفاظ على أنفسهم على قيد الحياة. من الصعب أن نتخيل كيف يمكن لأي شخص في هذا الوقت بالذات من القرن الواحد والعشرين، أن يكون ضعيفاً جداً، لدرجة أنه يشعر بالخوف، أو الوجل، أو الإهانة من المناشدة، للتعاطف الإنساني الأساسي مع أهالي البلد المستباح بالحديد والنار. يا له من زمن رهيب نعيش فيه، كما لو أننا ما زلنا غارقين في مستنقع الشيوعية الحربية، أو الفاشية، أو المكارثية التي تعود إلى قرن الأيدولوجيات القاتلة! كأننا تحولنا إلى مجرد أرقام صغيرة، صغيرة جداً، في هذا العصر الرقمي الذي يعتبر عصر التفاهة، والكراهية والعنصرية بامتياز؟!

“الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها” – حسبما يقول مارتن لوثر – لأنه مهما حاولنا رمي القطع النقدية على الأرض، فسيظهر أحد الوجهين، ولا يمكن أن يظهر وجه واحد دائماً: الوجه الذي يريد بعضهم ظهوره فقط!

يملك الناس الحق في التعبير عن وجهات نظرهم، حتى ولو كانت مخالفة، أو لا تتفق مع السياق الغربي العام. والمبادئ الإنسانية هي مبادئ جماعية عامة، لا يمكن خصّها بفئة واحدة محددة، أو جعلها استثناءً لجهة دون أخرى، وإلا ما فائدة القوانين، والدساتير المدونة على صفحات فقدت فجأة ألوان أحبارها ومعانيها الأصلية، وأخذت تظهر في لون واحد من الدماء؟!

لقد أصبح العالم مكاناً مخيفاً جداً لا يصلح للعيش، بحيث لا يمكن الانتماء إلى هذه البشرية الفاسدة، وهذا العالم الذي يبدأ كل يوم بالمجازر… فبالأمس قتل بشار الأسد مئات الألوف من الناس الأبرياء، وهجّر نصف سكان سورية، وتركهم في ظروف صعبة وقاسية، جعلتهم أكثر الشعوب اضطهاداً وظلماً، ولم يحرّك أحد ساكناً، واليوم يتكرّر المشهد في قطاع غزة!

علينا ألا ننسى أفكار حنا أرندت التي “علمتنا أن الدفاع عن الحق دائماً ضروري، وواجب أخلاقي، حتى لو كانت الحقيقة أحياناً مؤلمة، وغير مريحة”، ونتحدث ببلاغة واحترام وموضوعية مناصرين أصحاب الحق، في مكان من هذا الكون المهان بالانحياز، والتمييز والإقصاء… نحن بحاجة إلى التعبير بوضوح، عما نشعر به، وكيف نرى الأشياء رغم رعبها وظلاميتها.. نحن نرى بأن غزة قد أصبحت مقبرة للإنسانية، مثلما أصبحت قبلها المدن السورية، لاسيما حلب.. نحن نتمنى أن نستخدم أصواتنا، لرفع الظلم، وعدم تكريسه مرة أخرى، والتعبير عن تضامننا مع المظلومين، والمضطهدين والمهجرين، حتى ولو في أبسط الأشكال…

أن تكون صوتاً للمظلوم هو أمر مرهق، لكن لا شيء مرهق ومعذب أكثر، من أن تكون مظلوماً إلى النهاية، ولا يسمعك من هو أقرب الناس إليك، أو يقف معك أحد… حتى ولو صمتنا لبعض الوقت، لكن هذا لا يعني أننا موافقون، ومستسلمون للأمر الواقع، فـ “الصمت يكون أكثر بلاغة في كثير من الأحيان”.

فيديو الناشطة الهندية ساشين ليتلفيذر موجود على هذا الرابط:

تعليق واحد

  1. متى يستطيع الانسان ان يعيش بسلام مهما اختلفت جنسيته او قوميته او بلده او اصله .. كلنا نتوجع ونتألم وكلنا ننزف عندما نجرح .. صدقني دكتور نفس الدم العندي عندهم .
    متى يفهم العالم ؟
    ومتى تنتهي العنصريه والعبودية والاستبداد؟

زر الذهاب إلى الأعلى