حماس من الألف حتى الآن
كتب عدنان عبد الرزاق:
كلّ ما يجري، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، عصيّ على الفهم والتحليل والمنطق، وإن كان مردّه الأعمّ، للاستقواء والهيمنة وربط حكام المنطقة بطرائق عمالة بمستويات متباينة، منعاً لأي التقاء وحدوي، أو شكل تكتلي، يحيل هذه المنطقة الغنية بثرواتها ورأسمالها البشري والمتكئة على إرث، ورابط روحي مؤثر، إلى قوة مهيمنة.
هذا إن لم نُرجع تفسير الجنون الحاصل، للسهولة والهروب من توضيح ما يجري، إلى المؤامرة المرسومة، على الأقل، منذ مخطط موشيه شاريت، وبن غوريون، ومخطط برنارد لويس الذي اعتمده الكونغرس عام 1983. ليكون منطلق تفتيت المنطقة “العالم الإسلامي العربي” إلى دويلات، وتحويل جهة وشكل الصراع، إلى بيني وديني مذهبي، وهو ما اُتفق لاحقاً على تسميته “الشرق الأوسط الجديد” وفق وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس عام 2006.
بيد أن ما حصل منذ السابع من أكتوبر لعام 2023، بدا أنه، وبأبسط الألفاظ، تمرّد على المرسوم، وخروج على أي حسبة وصندوق، حتى وإن ألبسناه حلّة “نظرية المؤامرة”، على أنه استمرار للتفتيت، وإعادة رسم الجغرافيا المتفق عليها، وإن بأكلاف كبيرة، وأثمان باهظة للأطراف جميعها.
ببساطة، لأن تحطيم “الأساطير الصهيونية” من جيش لا يقهر، وتفوّق لا يُجارى، وأمان لا تُمسّ حماه، بات، بعد الصفعة الحمساوية الأليمة أكاذيب، من الصعب ترميمها، أو إعادة تمريرها، كحامل لمشاريع كثيرة بالمنطقة، إن بدأت بحلم التوسع، وفق مخطط شاريت، وبن غوريون، لا تنتهي عند سلام الاستقواء، ودفع العرب، فرادى، للهرولة صوب تل أبيب، لنيل شرف توقيع اتفاقات الرضوخ والاستسلام.
قصارى القول: خرجت حماس، وبجناحها العسكري “لقسّام” خاصة، عن سرب المنطقة الذي استمرأ معظمه الهوان، أو ربط مصيره بأقطاب دولية، أو ربما ملّ الدوران في حلقة “النضال والتحرير” بزمن لم يعد بأبجدياته مكاناً للحقوق والعدالة.
وحماس التي ولدت عملياً من رحم هزيمة حزيران 1967، ونشطت بقطاع غزة، كفرع لجماعة الإخوان المسلمين، بعد التضييق المصري على الجماعة، قبل أن تأخذ اسمها كحركة مقاومة إسلامية، بقيادة، أحمد ياسين، والبدء بالتحضير لنواتها الأولى “المجمّع الإسلامي” عام 1973)عبارة عن جامع، وعيادة طبية، ورياض أطفال، ولجنة زكاة( لتلاقي الانطلاقة جذباً وإقبالاً، في مجتمع مقموع، ومحاصر بالاحتلال، إقبالاً وقبولاً، خاصة بعد تصميم المؤسس ياسين على قوننة الحركة “كفرع لجماعة الإخوان”، والحصول على ترخيص من الاحتلال الإسرائيلي الذي يرى مراقبون أنه حاول تقوية شوكة الإسلاميين، لضربهم بمنظمة التحرير المزدهرة وقتذاك، بعد أن غضّ الاحتلال النظر عن تمدّد الحركة إلى الضفة الغربية، وتأسيس الجامعات، والنوادي والمدارس.
ومع التمدّد والتهافت الشبابي، برزت نشاطات فرع الجماعة في غزة وربما في الضفة، وخاصة في قطاع التعليم والتعليم العالي، كندّ للتمدّد العلماني الذي تنشره منظمة التحرير، ما خلق ملامح اصطدام تنبّأت له “الجماعة”، وأعدت له وفق شعارها “حركة الجهاد الإسلامي” كخيار كفاح مسلح، لاستعادة كامل الأرض المحتلة، لتحمي كينونتها الناشئة، حتى من منظمة التحرير، وبعض دول الإقليم التي أقرّت بخرائط عام 1967.
بيد أن التحوّل الأبرز بتأسيس “الحركة” تنامى، إبان انتفاضة 1987، وقت رأت “الجماعة” ضرورة الانتقال من الإسلام الوعظي أو التقليدي، إلى الإسلام الكفاحي أو الجهادي، فكان تاريخ 9 أكتوبر من ذلك العام، موعد تأسيس الحركة، بقيادة أحمد ياسين، إلى جانب ستة من قادة الجماعة، ليأتي الإعلان في 14 أكتوبر، الإعلان الرسمي عن الاسم والإستراتيجية “الجهاد المسلح ضد الاحتلال”، من خلال أول بيان وزّعته جماعة الإخوان المسلمين باسم “حركة المقاومة الإسلامية – حماس”.
ولم تبقَ “حماس” حبيسة غزة طويلاً، بل في العام التالي،19٨8 وفي شهر كانون الثاني، تمددت إلى الضفة الغربية، عبر تنظيم ومأسسة، ومقرّات “اعتماد مجلس شورى عام، لينتخب الهيئة السياسية” منافسة “منظمة التحرير” ومتلقفة الاهتمام والجماهيرية والاستقطاب، خاصة بعد عملياتها العسكرية وقتذاك، وتغيير اسم الجناح العسكري، من “المجاهدون الفلسطينيون” بقيادة صلاح شحادة، إلى “كتائب عز الدين القسام” عام 1990 بقيادات لم تزل بالذواكر حتى اليوم، من أمثال: بشير حمّاد، وعماد عقل، ويحيى عيّاش، ومحمد الضيف.
لم تخفِ “حماس” مذ ولادتها أنها فرع، أو امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، بل أكدت في آب عام 1988، خلال ميثاقها الذي حدّد منطلقات الحركة وأهدافها، أنها جناح من أجنحة الجماعة بفلسطين، معتبرة أرض فلسطين، كل فلسطين، أرض وقف إسلامي، على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصحّ التفريط بها، أو بجزء منها، وأن تحرير فلسطين هو فرض عيّن على كل مسلم، حيثما كان، رافضة عروض منظمة التحرير، بالانضمام إلى المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 ورافضة الحلول السياسية، ومبادرة السلام الفلسطينية التي خرجت بذلك العام، رافعة شعار “صراع وجود، لا صراع حدود” عام 1991، ساحبة الشرعية عن أي وفد فلسطيني يشارك بعملية السلام، بل أصدرت إلى جانب تسع فصائل بياناً يدعو قيادة منظمة التحرير إلى التراجع، عن قرارها المشاركة في مؤتمر مدريد “الهادف إلى تصفية قضيتنا وبيت المقدس”، ثم عارضت بشدة “اتفاقيّة أوسلو “، وقدّرت على لسان الشيخ أحمد ياسين، أن الذين وقعوا “الاعتراف بدولة إسرائيل” سلّموا بذلك “بكل ما اغتصبته من أرضنا، وتراثنا ومقدساتنا وحضارتنا”.
وربما بذلك الموقف، وعدم الاعتراف بعملية السلام، كحلّ وحيد، لاستعادة المغتصبات، بداية للتحول للعمل المسلح، إذ ساهم اعتقال الاحتلال الإسرائيلي للمؤسس أحمد ياسين عام 1989، والحكم بسجنه مدى الحياة، قبل أن يتم الإفراج عن “ياسين” بصفقة تبادل بين إسرائيل والأردن التي سلّمت تل أبيب اثنين من “الموساد” حاولا اغتيال رئيس المكتب السياسي وقتذاك، خالد مشعل، عبر حقنه بمادة سمّية، بقصة شهيرة ومعروفة.
والأرجح لم يغب عن الذاكرة بعد، إبعاد 415 ناشطاً وقيادياً من حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، إلى “مرج الزهور” بجنوبي لينان عام 1992، على إثر أسر “حماس” الجندي الإسرائيلي، نسيم توليدانو وقتله، قبل أن تعود، وتهدأ المواجهات، ويعود المبعدون، إثر تجدّد التفاوض للسلام عامي 1993 و1994 لكن الهدوء، ما لبث أن تبدّد، وتصاعدت المواجهات بمنحى جديد تجلّى بعلميات استشهادية، داخل أراضي الكيان، كما شهدت حافلات بالقدس، تبعتها تفجيرات بعسقلان، ثمّ بتل أبيب عام 1996، رداً على اغتيال إسرائيل قائد الجناح العسكري بالحركة “القسام” يحيى عياش.
بالتوازي مع بروز شوكة حماس، وتداول اسم الحركة كقوة ضاربة، حتى بعمق الاحتلال، تصاعد “عداء الأخوة” مع منظمة التحرير التي انتخبت مجلسها التشريعي عام 1996، من دون مشاركة “حماس” التي قاطعت الانتخابات، لأنها “تجري تحت سقف اتفاق أوسلو”، لترد منظمة التحرير “فتح” بملاحقة كوادر حماس، والتضييق عليهم، خاصة بالضفة الغربية، وتعتقل الناطق الرسمي باسم “حماس” عبد العزيز الرنتيسي، أحد أبرز المبعدين سابقاً إلى مرج الزهور.
ويمكننا اعتبار تاريخ الانتفاضة الثانية، أيلول عام 2000، بداية تحسّن بين “فتح وحماس”، ليكون بتصعيد ما بعد أحداث سبتمبر أيلول العام التالي بنيويورك بالولايات المتحدة “تهديم مبنى التجارة العالمية” الضربة الموجعة لحماس، بعد استغلال الاحتلال الفرصة السانحة، ووصف حماس بالإرهابية، كما اليوم بعد هجوم 7 أكتوبر تماماً، لتبدأ تصفية القيادات البارزة من أمثال: جمال سليم، وجمال منصور، ومحمود أبو هنّود ، وصلاح شحادة، وإبراهيم مقادمة ، وإسماعيل أبو شنب، وصولاً للاغتيال الذي ضجت به المنطقة والعالَم فجر 22 آذار 2004، اغتيال الاحتلال للشيخ أحمد ياسين، وهو على كرسيه المتحرك، عندما خرج، وسبعة من رفاقه من مسجد المجمّع الإسلامي، في حي الصبرة في قطاع غزة. وتتالت الاغتيالات، لتطاول خليفة ياسين بقيادة حماس، عبد العزيز الرنتيسي.
ورغم أن الاغتيالات، وتصفية القيادات الأبرز بحماس، سياسياً وعسكرياً، أوجعت الحركة، لكنها أثّرت على حسن العلاقة مع “فتح”، ليكون بالانتخابات المحلية التي دعا إليها، رئيس منظمة تحرير فلسطين ياسر عرفات عام 2004 وتحقيقها نتائج بالصناديق، مرحلة جديدة، تلت وفاة، أو مقتل الزعيم الفلسطيني عرفات، وانتخاب محمود عباس في تشرين الثاني 2004 رئيساً للسلطة ومنظمة التحرير، وما سمّي بعد ذاك، بيانات القاهرة بالامتناع عن العمل المسلح، ومحاولات دمج “حماس والجهاد” بمنظمة التحرير، لتأتي فرقة الأخوة، خلال انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، كانون الثاني، وقت فازت حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس، وما سبقه من جلاء الاحتلال عن قطاع غزة في أيلول عام 2005، لترى حماس نفسها ويراها جلّ الفلسطينيين تُمسك بزمام الأمور، ليس بالقطاع فقط، بل بما بعده.
هنا، من الجدير ذكره رغم الوجع، أن “فتح وحماس” اصطدمتا، عبر صراع مسلح لنحو عامين، حتى عام 2007، وقت أعلنت الحركة سيطرتها الكاملة على قطاع غزة، وجرى كما هو معروف انقسام إداري وسياسي، بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ليمرّ القطاع، بعد مفاوضات لمّ الشمل، بين حماس وفتح، بعواصم عربية عدة فشلت تماماً عام 2020، بحروب مع الاحتلال، كحرب عام 2001، وحرب عام 2008، وحرب 2021، تأتي بكل مرة على تدمير القطاع، وقتل الآلاف من الفلسطينيين، في حين يتطور بروز حماس، حرباً تلو الأخرى، كندّ لا يُستهان به، خاصة بعد مرحلة تطوير الأسلحة والصواريخ التي تجلّت بحرب 2021، قبل أن تكسر ظهر إسرائيل، وتبدّد هيبة الجيش الذي لا يقهر، بحرب أكتوبر عام 2023.
نهاية القول: لا يستوي أي قول، قبل أن تضع الحرب على غزة اليوم أوزارها، رغم عظيم ما يقال عن بطولات المقاومين الفلسطينيين، وتمريغهم الغطرسة والاستقواء الإسرائيلي بالوحل، أو ما ظهر، ومنذ السابع من أكتوبر 2023، من دخول واشنطن الحرب، وليس دعمها وتمويلها، كما في السابق، وانحياز العالم الديمقراطي برمته، إثر تحطيم “رجال القسام” دفاعات وأسوار، وجدار العدو الذي دفعت له الولايات المتحدة أكثر من 13 مليار دولار، لتحمي نجمتها الواحدة والخمسين، بعد أعظم عمل بطولي سطّره العرب، بالشكل والطريقة والنتائج، وقلة الإمكانات.
كما من الوجع الاستباقي الإشارة، إلى ضعف وذلّ الحكام العرب، حتى بمدّ زهاء مليوني فلسطيني بغزة، بأبسط إكسير الحياة، من ماء وطعام ووقود، بعد إطباق الحصار، وهجمات الإبادة التي يشهدها ويشاهدها العالم بأسره..
وربما من الضرورة التاريخية بمكان التنويه إلى الخديعة الكبرى التي تعرّض لها مقاتلو حماس، بل الحركة برمتها، ممن ادعوا الممانعة ووحدة الساحات، بعد أخذ إيران وحزب الله وما تبقّى لسوريا من قرار، وضع المزهريات، إلا من بعض مفرقعات بجنوبي لبنان، لم تعد قطرة من ماء وجوههم المسفوك على أعتاب الحقائق وساحات القتال.
ولعل بما برّره، وادعاه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله يوم الجمعة 4 تشرين الثاني بأول ظهور له، بعد نحو شهر من مقتلة غزة وبطولة أهليها، كان الدليل الأبرز على المقاومة اللفظية، والفتوحات القولية التي آثر ذلك الحلف المزعوم اعتمادها، لتمرير المشروع الفارسي، والنضال على المنابر، حتى آخر قطرة دم عربي.. إن لم نقل سنّي.
ما أشبه اليوم بالأمس القريب والأمس البعيد…
القريب وقت حاول العراق التمرد على الحظيرة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، فأسس قواعد علمية وإنتاجية، بعد وقوفه كجبل من نار، أمام التمدد الفارسي وقهره بمعارك امتدت ثماني سنوات، فانشغل العالم بعد ذلك، بتوريطه، قبل أن يشكل تحالفاً ضده عام 2003 لشن حرب، بمعونة العرب لوجستياً بعد المشاركة عام 1991، ويقتل صبيحة عيد الأضحى 30 ديسمبر 2006. وتسلم العراق لإيران، ضمن صفقات كانت سرية ومستغربة، قبل أن تكشف أحداث الحاضر، عمق العلاقات الإستراتيجية بين الممانعة وشياطينها الكبار والصغار.
وأما الشبه البعيد، فهو ما حدث للحسين سبط رسول الله، عليه الصلاة والسلام بمعركة كربلاء، وقت تركه شيعته وأهله، بمقابلة جيش يزيد بن معاوية عام 680، لينتصر بدمه، ويكون بواقعة الطف وجعاً يستغله تاركو الحسين زوراً، حتى الآن…كما المتوقع أن يستغلوا انتصارات دم أهل غزة، على عالم الغرب الديمقراطي وإسرائيلهم، وتبعهم المتخاذلون من متثاقفين وحكام، عرّاهم الدم وأسقط وريقات التوت، عمّا تبقى من رجولة وكرامة وإنسانية.
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023