الرأي العام

نوافذ الإثنين | القضايا الصغيرة والكبيرة

ميخائيل سعد

تعلمنا منذ الصغر أن نهتم بالقضايا الكبرى، بدأ من الاهتمام بالآخرة والجنة والنار، ونسيان الاهتمام بجنة الحياة الدنيا ونارها، وانتهاء بحلم الوحدة العربية ونسيان وحدة القرى والأحياء التي نعيش فيها، أو الدعوة للوحدة الإسلامية ونسيان الإنسان المسلم، والدفاع عن حقوق الإنسان في العالم ونسيان حقوق جارنا وابن مدينتنا، والدفاع عن قضايا المرأة في العالم، وتجاهلنا لاضطهاد زوجاتنا وأخواتنا وحقوق أمهاتنا.

تعلمنا ممارسة النقد عندما يكون ضد الآخر والمطالبة بإعدامه، في الوقت الذي نبرر فيه سلوكنا اللصوصي ونعتبره شطارةً وحقاً. تعلمنا إطلاق الشعارات الكبرى لأنها لا تتحقق، ونستطيع الاختباء وراءها، وتجاهلنا الشعارات الصغرى، لأن الاهتمام بها لا يليق بذواتنا المتضخمة، وممارستها تكشف عوراتنا، فنرميها خلف ظهورنا. شخصيا أحب القضايا الصغرى، فهي تثير اهتمامي، وأعشق مراقبة من يهتم بها من بني البشر.

قضية أبو حسان

من القضايا الصغيرة التي حدثت معي مؤخرا، أنني استدنت من الصديق الدكتور توفيق الحسامي (أبو حسان) 350 ليرة تركية، قبل سفري إلى تركيا للالتحاق بالجامعة، في شهر تشرين الأول الماضي، على شرط إعادة المبلغ له عند عودتي، ولكن للأسف، توفي أبو حسان وأنا في ماردين، فتساءلت: ماذا أفعل بدَين الرجل الذي في ذمتي؟وأخيرا قررت إعادة المبلغ كما أعطاني إياه المرحوم.

في زاوية المعمرين، طرحت على الأصدقاء موضوع الدين لأبي حسان وسألتهم رأيهم؛ هناك من اقترح إعادة المبلغ إلى زوجة المرحوم، وهناك مَن اقترح إعادته إلى ابنه، وهناك من قال: بما أن المبلغ يعادل عشرين دولارا كنديا، وهو مبلغ زهيد، فهو يقترح أن نشتري به بعض الحلويات ونأكلها ونحن نترحم على صديقنا الطيب الذكر، وهناك من اقترح أن أعيد المبلغ معي إلى تركيا وتقديمه لأي محتاج سوري، ولما رأيت أن كل الاقتراحات معقولة قررت طرح الموضوع على القراء، فقد يكون عندهم اقتراحات أخرى حول التصرف بهذا المبلغ، وهدفي من ذلك ليس إثارة موضوع المبلغ بحد ذاته، وإنما إثارة قضية الأمانة وقضية التضامن الاجتماعي، وخاصة في الظروف السورية الحالية، فقد سمعت عن عدد من الحالات التي تم فيها السطو على أموال بعض الشهداء الذين كانوا شركاء مع آخرين، وقد أنكر هؤلاء حقوق شركائهم، وخاصة عندما لا يكون هناك وثائق مع أهل الشهيد، كما سمعت قصصا رائعة عن سوريين دفعوا ديونهم إلى أهل المتوفين، واستمروا في إعالة بعض العائلات التي لم تعد تجد ثمن الطعام اليومي. إن تسليط الضوء على هذه القضايا الصغيرة ينير، أمامنا كسوريين، طريق التضامن الاجتماعي الذي نحن بأمس الحاجة إليه الآن، والذي يوقف التفتت الاجتماعي، ويعيد اللحمة والترابط بين مكونات الشعب السوري.

قضية الخوف من غضب الوالدين

من القضايا التي نتكلم بها كثيرا في حياتنا اليومية ولكن لا نؤمن بها ولا نترجمها إلى فعل يومي هو البر بالوالدين والخوف من غضبهم، وكنت أحد الناس الذين لم يشاهد ترجمة عملية للبر بالوالدين والخوف من غضبهم على أولادهم إلى أن التقيت في أحد الأيام بطالبة جامعية في العشرين من العمر، تبكي في أحد زوايا حديقة الجامعة، وكانت تربطني بهذه الفتاة صداقة لطيفة رغم فارق العمر، فقد كنت في موقع جدها أو عمها، وكانت تثق بي وتفكر بصوت مرتفع معي، وتسّر لي ببعض مشاكلها، لذلك سألتها بإلحاح عن سبب بكائها فقالت: إنني على خصام مع أبي وأمي، وأعرف أنهما غير راضين عني، لذلك أنا خائفة من غضبهما، ومن أن يكون مصري جهنم، وفي الوقت نفسه لا أريد تنفيذ رغبتهما في تزويجي، فأنا لست جاهزة للزواج، كما أنني أحب متابعة دروسي الجامعية.

بعد أن سمعت ما قالته الفتاة، حاولت أن أخفف عنها، ونصحتها أن تتكلم مع أهلها كلما كان الأمر ممكنا، ولكن ما أدهشني فعلا هو رؤية ولمس فعل الإيمان عند واحدة من البشر، وقناعتها الراسخة بأن غضب الوالدين يؤدي إلى نار جهنم، في الوقت الذي يمارس الكثير من الأولاد ممارسات شنيعة ضد أهلهم، تصل أحيانا إلى حد الاعتداء عليهم جسديا أو طردهم من بيوتهم ورميهم في الشوارع، رغم أنهم يشاركون تلك الفتاة نفس القناعات الدينية. كما أنني رأيت وعرفت بعض الأهل الذين يطردون أبنائهم من البيوت، أو يبيعون بناتهم تحت تسميات الزواج وهن لم يبلغ الرابعة عشر من العمر، فعن أي بر بالولدين يمكننا أن نطلبه هنا من الأولاد.

أخيرا، ما أريد الإشارة إليه فعلا، هو ضرورة النظر إلى جزئيات الحياة اليومية الصغيرة، والتعامل الإيجابي معها، فهي التي تجعلنا نشعر بالسعادة، وهي التي تؤسس لبناء قواعد صلبة للوصول إلى تحقيق قضايانا الكبرى، وأن الثقافة الحقيقية أو الإيمان هو أو هي التي يحولها القارئ من الكتب لتصبح ممارسة يومية في الحياة.

مونتريال في ١١/٢/٢٠٢٤

زر الذهاب إلى الأعلى