المثقف العربي والعلمانية: الموقف من الإسلام السني.. وشرعنة حكم الأقليات!
العربي القديم – عبد القادر موحّد
نشأت العلمانية في المجتمع العربي في سياق الضيق والتوتر الذي يعانيه المثقف العربي في صراعه مع الثقافة السائدة. هذا المثقف الذي يفكر وينتج ويحلل ضمن سجالات الحداثة سواء كان متماهياً معها أو يقف بالضد منها، ولكنه يبقى في الحالتين داخل إطار الخطاب الحداثي بالمعنى الفوكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو).
المثقف العربي في إطار سعيه لنفي النقص عن نفسه في مواجهة الطوفان الحداثي الغربي، يدمج نفسه في هذا التيار ويواجه مجتمعه باستعلاء وطهرانية . فانتماء الولادة إلى ما يراه “الشرق المتخلف”، يستعيض عنه بانتماء الثقافة والإرادة إلى الحضارة الغربية، مع بعض الانتقادات التي تسمح له بإحساس موهوم من الاستقلالية والكرامة الفكرية.
قيم المجتمع الشرقي التي تهمش الفردانية وتعلي من شأن الجماعة وتشكل عاملاً ضاغطاً تعيق تفرد هذا المثقف وإحساسه بذاته المختلفة؛ تدفع هذا المثقف إلى تحدي المجتمع ومواجهته لتأكيد ذاته، بدلاً من البحث عن مصالحة أو حلول مبتدعة.
الموقف من الدين!
الموقف من الدين والذي يشكل سبباً لتبني الموقف العلماني لدى البعض بدلاً من أن يكون نتيجة، هذا الموقف الذي لا يتم إعلانه بجرأة ووضوح ولأسباب مفهومة، يدفع المثقف لأن يطرح موقفه من الدين ضمن مقولات تتعلق ببناء الدولة وتحضر المجتمع وحقوق الانسان والوضعية العلمية، إلى ما هنالك من مفاهيم تنفي الدين في حقيقتها وعمقها، أو تواجه الفهم السائد له، دون الدخول في مواجهة مكشوفة قد تكون تكلفتها عالية.
نقطة البدء في مراجعة العلمانية وقصورها في مجتمعاتنا لدى العلمانيين هي، نفي المسؤولية عن الفكرة وعن دعاتها ورميها على المستهدفين في فاعلية وعمل الفكرة. فمجتمعاتنا متخلفة تحمل عقداً وأمراضاً تكاد تكون غير قابلة للعلاج، والعلمانية هي الدواء الذي يصر مريضنا على رفضه ويفضل بدلاً منه علاج السحر والأعشاب.
تظهر العلمانية أحياناً بوصفها أداة سياسية فقط تسعى إلى السلطة، تشرعن حكم الأقليات الدينية والتي للمفارقة فإن دعاة العلمانية ومنظريها لا يجدون ضرورة لعلمنة هذه المجتمعات أي مجتمع الأقليات*، فالخطاب العلماني في مجتمعاتنا يركز على الاسلام السني والاثنا عشري بدرجة أقل، ولربما نجد بعض عتاة العلمانية لا يجدون حرجاً من التصالح والتعاون مع الولي الفقيه دون استشعار حرج أو تناقض. ويتحول لدى هؤلاء الموقف من الدين إلى موقف من الإسلام السني، مما يخلق ريبة وحذراً ويعمق الفجوة بين دعاة العلمانية والبيئة المستهدفة بدعاويهم.
العلمانية كحقيقة مطلقة!
تتصرف العلمانية حيال قضايا المجتمع بذات الأسلوب الذي تنادي مواجهته لدى الدين، فهي تمارس شكلاً من الاستعلاء والنفي تجاه فئات المجتمع المتدينة وتعبيراتها السياسية، فكما تتهم الحركات الدينية العلمانيين بالكفر أو الردة، فالعلمانيون يسمون هذه الفئات بالتخلف والماضوية، ويؤكدون ضرورة نفي هذه الفئات من أجل اللحاق بركب الحضارة وتجاوز الفوات التاريخي للأمة.
فحقيقة العلمانية هي من منظور هؤلاء حقيقة مطلقة، لا ترتبط بسياقات تاريخية أو اجتماعية، والمشكلة دائماً هي في المجتمع الذي عليه أن يلوي عنق ثقافته وتاريخه وربما ينسلخ عنهما ليتكيف مع مفاهيم ومقولات العلمانية. هذا المجتمع الذي يمارس العلمانيون تجاهه دور الوصاية وأحياناً الوصاية القاسية من أجل تحديثه وعلمنته دون التوقف ولو للحظة والسؤال إن كان الخلل في المفهوم نفسه، أو أيهما يجب تعديله من أجل الاتساق والتوافق، المجتمع وتراثه وقيمه أم العلمانية ومقولاتها.
العلمانية الجاهزة!
في هذا السياق فإن العلمانية العربية تنطلق من مبادئ تعتبرها مسلمات وبديهيات غير خاضعة للنقاش أو المراجعة. وكل ما يمكن الحديث عنه هو آليات وسبل الوصول إليها واستزراعها في مجتمعاتنا العربية، وفي هذا فهي تسلك سبيل المتدينين نفسهم في تقديس المفاهيم والمقولات مع فارق جوهري أن مفاهيم الدين تجد بيئة ملائمة لها في المجتمع الذي تتفاعل ضمنه، وتجد جذوراً في تراثه ووعيه الجمعي والتاريخي ومرونة في دلالاته اللغوية، وهذا كله لا يتوفر لمفاهيم ومصطلحات العلمانية.
تطرح مشكلة العلمانية وتبيئتها في مجتمعاتنا سؤالاً محورياً حول سبيل التطوير وتجاوز القصور الحضاري… فهل هذه السبيل تتم عبر استيراد مفاهيم ومبادئ أنتجها سياق حضاري بناء على عوامل ذاتية وموضوعية خاصة به، ومن ثم العمل على إحداث تغييرات أساسية في البيئة الثقافية والحضارية العربية للتوافق مع هذه المفاهيم، وتصبح بالتالي قابلة للحياة والمساهمة في تطوير المجتمع؟ أم مواجهة التحدي الحضاري والعمل على إعادة قراءة التراث وتطوير مفاهيمه ومبادئه وابداع حلول تتساوق مع طبيعة وأهداف هذا المجتمع؟!
سؤال يحتاج إلى إجابة معمقة وتأمل شامل للواقع العربي وعلاقة المثقف العلماني بقيمه وقوى مجتمعه.