أرشيف المجلة الشهرية

زنزانه بملايين الجدران!

بقلم: نوار الماغوط

يقول رياض الترك بعد الإفراج عنه عام 1998:  “خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير، وعلينا جميعاً أن نسعى إلى فتح أبوابه. أنا لن أتخلى عن حقي في ممارسة السياسة أياً تكن الظروف، وأهلاً بالسجن إذا كان ثمناً للتمسك بالرأي وحرية التصريح بالمعتقد”.

“لم يبق للمجتمع إلا الصمت؛ ليعبّر من خلاله عن وجوده، وعن رفضه للوضع القائم: إذاً الصمت هنا موقف، لكن هذا الصمت لا يمكنه أن يدوم إلى ما لا نهاية، ولا بد للمجتمع بقواه الحية، من أن يفرز تعبيرات جديدة تنتمي إلى عالم البيانات، والمواقف العلنية والفعل”.

بعدها بسنوات، جاء تجمع  “ربيع دمشق”، شارك الترك فيه، فاعتُقل، ثم حُكم عليه بالسجن لمدة عامين، أمضى منها 15 شهراً، ثم أُطلق سراحه، وظل تحت المراقبه الأمنية. ولكنه استمر في نشاطه السياسي داعياً طيفاً واسعاً من المعارضين السوريين من  الديمقراطيين اليساريين والإسلاميين؛ لتشكيل جبهة عريضة؛  للتحريض على الثورة، وهدم مملكة الصمت.

ولكنه، وفي عام 2018 اعترف أنه كان  مخطئاً،  كان يجب أن يقول: لا، بدلاً من نعم، أسوة بباقي اللاءات النضالية التي رفعها، عندما اكتشف أن الإسلام السياسي كان واحداً من الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الفشل.

لقد جاء الاعتراف ب “اللا” متأخراً، وبعد فوات الأوان، لكنه في الواقع رياض الترك شخصية منخرطة بشكل كامل، بالعمل اليومي السياسي تخطئ وتصيب…لكن كان عليه ألا يتخلى عن ماركسيته، ولا عن قراءته العلمية الفلسفية للتاريخ، وأن يتذكر جيداً الحزب الشيوعي الإيراني، وتحالفه مع رجال الدين الذين قادوا الثورة الإسلامية الإيرانية، وبعد نجاحهم واستلامهم السلطة، قاموا باعتقال الأمين العام للحزب، وتصفية هذا الحزب وإبادة أعضائه.

حين مات المناضل الشيوعي رياض الترك في مطلع العام 2024 تذكر الكثير من السوريين صورة ذلك الرجل الذي اعتُقل، لمدة 18 عاماً في زنزانه منفردة بأربعة جدران؛ لأنه شيوعي حقيقي.

قال “لا” لحافظ الأسد، ولخالد بكداش.

لا، للجبهة الوطنية التقدمية

لا، للوجود السوري في لبنان

 لا، للمادة الثامنة في الدستور التي تنص على أن “حزب البعث” هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، ليأتي الشعب السوري بعد ثلاثين عاماً يطالب بإلغاء هذه المادة من الدستور، وينال عقاباً جماعياً في زنزانة بملايين الجدران!

وأذكر عندما حضر رياض الترك إلى سلمية، ومعه مجموعة من السجناء السياسيين السابقين؛ لتقديم العزاء بوفاة عمي محمد الماغوط عام 2006، قام مازن عدي بتعريفه علينا أنا ووالدي..

كان صامتاً يصغي إلينا، ونحن نحتفي به، وكان حوله من بعيد مجموعة من رجال الأمن…

وعندما همّ بالمغادرة؛ من أجل السلام على عبد الكريم الضحاك، تأهب جميع رجال الأمن لمرافقته، ثم تردد بالمغادرة، وعاد وجلس في مقعده وكذلك فعل مرافقوه…

وأمسكت بيده، ورافقته إلى بيت جدي، ثم أوصلته إلى باب السيارة وغادر.

لقد غادر مشيعا بالمهابة والحب. ذلك الحب الذي يشيعه ذلك الرجل الذي جاء بكل  ما يحمله من عبء السنين ومشاق الإرث النضالي  الصعب، كي يؤدي واجب العزاء بشاعر.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى