أرشيف المجلة الشهرية

حماة.... دولة!

العربي القديم- عبد المجيد علواني

لم تكن تمثل حماة لي سوى مدينة يعود أصلي ونسبي لها… وكان بيت جدي الواقع في أحد أرقى أحيائها يختزل مدينة بأكملها. طفولتي المبكرة جداً كانت في دمشق وذاكرتي تقتصر على حي القصور.. ومراهقتي وبداية شبابي في حمص تلك المدينة الوادعة كحال أهلها اللطيفين الودودين.. ورسمت (أمّ الحجار السود) الطريق أمامي مفروشاً بالورود، فالأصدقاء مسالمون والحياة هادئة بسيطة بعيدة عن التكلف.. إلا باختيار اللباس فهو هم واهتمام الحماصنة.


حمص أضرت بي من حيث لا تدري هي ولا أدري أنا.. فالعالم ليس حمص وليس الحماصنة.. فهناك على بعد أربعين كيلومتراً منها عالم مختلف حيث حماة التي أتيتها في ريعان الشباب متحمساً حالماً لأن يكون بيت جدي هو المثال لجميع بيوت المدينة التي تمتلك جمالاً أخاذاً أكاد أجزم بأنه لا يوجد في مكان آخر على هذا الكوكب.

قبل أن أخبركم عن صدمتي بالحمويين… سأخبركم عن ماء وهواء حماة… مدينة الضباب لقب للندن ولكني أعتقد بأن يكون لحماة حق في أن تكنى بلقب شبيه؛ فإن كانت لا تمطر شتاء فسيحضر الضباب نهاراً وليلاً.. عندما تمطر لم أر سماء كحماة تقترب من الأرض في مشهد أشبه بلوحة فنية رسمها خيال مصور مبدع.

الجمال الرباني الذي تتمتع به حماة يخفي وراءه أنيناً يعج بقلوب ناسها الذين يلقبونها بجورة الهمّ… ولم يأت ذلك من فراغ بل من نكبات قست على قلوب أهلها كان مخططاً لها بحكم أنفتهم وعزة نفوسهم وتاريخهم الذي يشهد له القاصي والداني.. ففي حماة عائلات عريقة تهتم بأصلها ونسبها وحسبها وهو الأمر نفسه الذي جلب الويلات عليها من أناس طارئين على سوريا، طال الزمان أم قصر.

أعود لكم لأهل هذه المدينة الجميلة الذين تكالب عليهم الزمن حتى أضحوا قساة كقسوة الزمان عليهم, وعنين النواعير يشرح ما في صدور أهلها السوريين حتى النخاع, فحماة التي تعد المحافظة الوحيدة التي لا تمتلك حدوداً خارجية مع أي دولة جارة لا همّ لأهلها سوى سوريا التي هي بالمناسبة من ظلمتهم وجعلت منهم أناساً قساة لا يجاملون. فما خبرته عن دمشق وحمص لم أره في حماة بل رأيت العكس تماماً، فلا أحد هنا يجامل ولا أحد يهتم بالمشاعر التي تبقى حبيسة الصدور، ولكن للأمر ما يبرره فهم لو لم يصبحوا كذلك لماتوا كمداً.

بالمقابل كان الحمويون فريدين من نوعهم.. كرم وشهامة لن ترى مثيلاً لها ليس في سوريا فقط بل في العالم أجمع.. وإن كان لمدينة سورية أن تكون سورية بالحب والارتباط فستكون حماة وحماة فقط!

حماة دولةٌ بسعة صدر أهلها.. وسوريا عاصمة تسكن تلك الصدور

_____________________________________________

 من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024

زر الذهاب إلى الأعلى