حلب التي جعلت مني تاجراً
العربي القديم – علاء طرقجي
كحال أغلب السوريين، في فترة ما بعد السبعينات كان هدف عائلتي وحلمها في الحياة أن تشتري منزلاً في هذا الوطن المعطاء، وتستطيع عائلتنا الكريمة أن تلتصق بالطبقة الوسطى، وتُحسب عليها، وتلحق بركبها، حتى ولو زحفاً، وعلى الكرسي المدولب، وكانت مهمة وضع الخطط الخمسية، والجداول الزمنية والمنطلقات النظرية؛ لتحقيق هذا الهدف السامي من نصيب الحجة أمي.
أمي، وعلى مدار سنوات اتبعت سياسة مالية تشبه سياسة تبييض الأموال، فكانت تحضر قائمة من الأشخاص، وتدخلهم في جمعية شهرية، كل شهر يدفع الشخص مبلغاً من المال لمدة سنة، أو أكثر، وترتيب الأدوار في هذه الجمعية ″مين بدو يقبض أول اسم ومين بدو يقبض آخر اسم″ يكون بالقرعة، لكن أمي كانت دائماً تقبض أموال الجمعية في الشهر الأول؛ كونها المُرابي الذي نظّم هذا الحدث المالي، بالإضافة إلى أنها بمرتبة خازن بيت المال، وهكذا أًصبحت أمي تحصل على المال من جمعية، ثم تؤسس جمعية ثانية، وتدفع لها من الجمعية الأولى، ثم تؤسس جمعية ثالثة ورابعة، إلى أن استطاعت، وعلى مدار سنين توفير ثمن المنزل، والذي أصدرت فرماناً ديمقراطياً بشرائه في حي صلاح الدين الشعبي في القسم الجنوبي من مدينة حلب.
حي صلاح الدين يشبه في عمرانه وتصميمه الهندسي ما يفعله طفل صغير، عندما تضع أمامه كمية من المكعبات المخصصة للعب، وتطلب منه أن يقوم بإنشاء الأشكال، فتكون النتيجة مجسمات عشوائية، وغير متجانسة فوق بعضها بعض، كتوصيف أدق كان الحي يشبه الأجانب، عندما يرقصون الدبكة على أنغام أغنية سميرة توفيق ″عالعين موليتين″ ترى بيتاً عربياً قديماً بجانب بناء جديد، وبجانبه عدة أبنية مخالفة يتوسطها بناء مهجور وهكذا.
البناء الذي قمنا بشراء منزل فيه كان مؤلفاً من خمسة طوابق، في كل طابق ست شقق، أي بمجموع ثلاثين منزلاً، لذلك كان سكان الحارة يطلقون عليه ″شعبة التجنيد″ أو ″قطرميز المخلل″، وذلك كناية عنا، نحن المخللات المحشورين في بيوت هذا البناء الذي يشبه من الداخل علب السردين.
انطلقت رحلتي؛ للتعرف على حي صلاح الدين من الحارة التي سكنا فيها، والتي كانت حارة حلبية، وغير حلبية في الوقت ذاته، حيث إن هنالك عدداً من العائلات الحلبية تسكن الحارة منذ زمن طويل، وهنالك عائلات حلبية قدمت إليها، كونها الخيار الأنسب لشراء منزل بتحويشة العمر كحالتنا، ويسكن الحي أيضاً العديد من المستأجرين، وهم في الغالب من فئة العرسان الجدد، أو طلاب الجامعة، بالإضافة الى تشكيلة واسعة من أبناء إدلب، وريفها، ودير الزور، والرقة الذين كان لهم حضور قوي في الحي، والذين قدموا إلى مدينة حلب، في هجرة داخلية للعمل فيها، وطبعاً هؤلاء كما تعلمنا في المدراس السورية هم سبب التصحّر، وانجراف التربة والازدحام المروري.
حارتنا كأغلب حارات حي صلاح الدين سكانها لا يرتبطون ببعض عبر روابط عشائرية، أو قبلية، أو طائفية، أو قومية، بل يجمعهم رابط وحيد على اختلاف انتماءاتهم، وخلفياتهم وهو رابط الحارة.
عندما انتقلنا إلى حارتنا الجديدة كنت أنا في الصف الخامس، أذكر أن الموضوع الأول الذي تعلمته في الحارة، وهو بمثابة القاعدة الأساسية للساكنين الجدد، وينص على: (عندما تتقاتل مع أي شخص خارج الحارة، حاول أن تستدرجه إليها، من ثم اصرخ بصوت عالٍ حااااااارة. وشباب الحارة تقوم بالباقي).
أعجبتني هذه القاعدة، وشعرت بالأمان، وكأني في دار أبي سفيان، وقررت أن أكون جزءاً من هذه الحارة، وفرداً مخلصاً لها، ومن ثم للوطن الأكبر حي صلاح الدين، وأخيراً للأمة الحلبية بمفهومها الواسع.
أذكر أيضاً من مظاهر التعاضد والتلاحم كان لدينا في الحارة بائع فول اسمه أبو أحمد لم يكن يجيد طبخ الفول وتحضيره، بل كان يرفض تنقية الفول من الحجارة؛ بحجة أنها تساعد في عملية هضمه، وبالرغم من وجود العديد من بائعي الفول في الحارات الأخرى، ومن بينهم من هو مشهور على مستوى حلب، إلا أن أهالي الحارة في كل يوم جمعة تشتري الفول من أبي أحمد، ثم تشتمه وتعود في الجمعة القادمة لتشتري منه.
في حلب لدينا حب صباح فخري، وصبري مدلل، وحسن حفار، وأديب الدايخ في الجينات، لكن نتيجة التنوع السوري في حارتنا، وحي صلاح الدين عموماً تعلمت أن أستمع للمطربين العراقيين، أذكر أن أحد الجيران، وهو طالب من دير الزور أسمعني أغنية للمطرب العراقي حسين نعمة اسمها “يا حريمة”، وكان مطلعها:
“يا حريمة انباقت الكلمات من فوق الشفايف
يا حريمة سنينك العشرين ما مرها العشق
والعشق خايف
لا ولك لا، لا على بختك ماني سالوفة صرت بين الطوايف
يا حريمة، يا حريمة”
عندما سمعت هذه الأغنية يومها كنت صغيراً بكيت لا أدري لماذا ؟ مع أني لم أفهم كلمة واحدة منها، وسألته للشاب يومها (يعني هي الأغنية عربي؟)
تعرفت في الحارة أيضاً على صديقي أمجد من ريف إدلب الذي يكبرني بعامين، وهو كان صاحب الفضل الأول في استقلالي المادي، وتكوين ثروتي لاحقاً، أمجد علمني كيف أشتري الذرة (البليلة) من سوق الهال، وكيف أقوم بتنظيفها، وسلقها في البرميل، ثم علمني مهارات البيع، بالقرب من ملعب الحمدانية لكرة القدم يوم الجمعة، (الملعب القديم طبعاً، كون ستاد حلب الأولمبي كان لايزال قيد الإنشاء منذ 17 عاماً فقط).
وهكذا حصلت على أول مئتي ليرة في حياتي، وهذه طبعاً كانت بمثابة الثروة لطفل في الصف الخامس أو السادس. الجدير بالذكر أن هذه الأموال الطائلة لم تغيرني، ولم تجعلني أنحرف، وأقوم بصرفها على ملذاتي، كشراء البسكويت والجيلي كولا والشيبس، وباقي هذه السفاسف، والأمور الثانوية بالنسبة للأطفال. طبعاً ذلك حصل بمساعدة صديقي أمجد الذي كان يضاهي كارل ماركس في الاقتصاد، حيث قال لي: ضع أرباحك مع رأس المال في تجارة أخرى؛ كي يزداد المبلغ، وتصبح تاجراً. ومن هنا أتى التحول، وقررنا أن نبدأ بالتجارة على مستوى عالٍ وكبير، وكانت التجارة بيع وشراء الأرانب والحمام.
لم تدم تجارتنا طويلاً؛ لأن الأرانب والحمام لقوا مصرعهم نتيجة سوء التغذية التي كانت عبارة عن خبز يابس. وراحت ثروتي تتلاشى، بالرغم من امتلاكي وقتها لجدوى اقتصادية مميزة، ودراسة دقيقة عن السوق، إلا أن الظروف دائماً ما تقهر التجار، ورجال الأعمال، وفي حالتي كانت هذه الظروف التي منعتني من النهوض مجدداً متمثلة بأمي والنظام الذي وضعته مدينة حلب لأهلها وسكانها.
أمي التي كانت تُعرف بالشدّة والحزم في تربيتها، حتى إن أقرباءنا كانوا يتهامسون سراً في ما بينهم، ويشبهونها بحافظ الأسد. كنت أحزن كثيراً عندما يرد إلى مسامعي هذا التشبيه، لكني لم أكن أحزن على أمي، بل كنت أحزن على القائد الخالد، هل يعقل أن يتم تشبيهه ببشر؟! غفر الله لأقربائي هذه الزلّة.
على عكس حافظ الأسد، وخسارته لحرب الـ 67 عندما كان وزيراً للدفاع، انتصرت أمي في حربها علي حي صلاح الدين، واستطاعت أن تحرمني من تجارتي المزدهرة في حارات الحي وشوارعه، وعلي غرار تسليم المكسيك لتاجر المخدرات ″إل شابو″ للولايات المتحدة الأميركية، قامت أمي بتسليمي إلى خالي؛ لكي أعمل لديه في مصنع النسيج في المنطقة الصناعية بحي الكلاسة في فصل الصيف، وذلك لخوفها أن أصبح ابن شوارع، لا ابنها.
بإرسالي إلى المنطقة الصناعية، والتي تشبه معاملها معسكرات الاعتقال النازية في فترة الحرب العالمية الثانية انتصرت حلب عليّ أيضاً، بعد أن حاولت أن أعاندها، وأتمرد على نظامها الاقتصادي، حلب لا تسمح لأحد أن يبدأ تاجراً فيها، وأن يصبح من أصحاب الثروات فوراً، دون أن يمر ضمن المراحل الاقتصادية المتسلسلة المرسومة من قبلها، من يريد أن يعيش في حلب ويعمل فيها، ويحقق الإنجازات ويستمتع بجمالها، لا بد أن يتعامل معها بتواضع، وألا يأتيها من أعلى وبأنف مرفوع.
لم ينجح كثير، ممن عاشوا في مدينة حلب، سواء كانوا من أبنائها، أو من محافظات أخرى في فهم تركيبة هذه المدينة المعقدّة والمتناقضة، أو فهم المعادلة الناجحة للعيش فيها، أما أنا ففهمت كل ذلك في سنّ مبكرة، وبدأت بتطبيقه، فتدرجت في العمل من رتبة أجير في معمل نسيج، وهي الرتبة الأدنى على سلم العمل البشري، ثم انتقلت إلى مرتبة صانع نسيج لأمسح ولأكنس أرضية المعمل، وبعدها أصحبت شريكاً في محل ألبسة إلى أن وصلت إلى قمة المجد، واستطعت من خلال تجاربي الكثيرة أن أفهم مدينة حلب وتركيبتها، وأصبحت تاجراً لي كلمة مسموعة بين التجار، وأصبح علي ديون لا تقل عن ثلاثة ملايين ليرة سورية.
_____________________________________________
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024