نصوص أدبية || الأخبار المنوّعة (قصة قصيرة)
قصة قصيرة كتبها: صخر بعث
تنظّم مدينة “روفيري” في إيطاليا مهرجاناً سنوياً للقطط، يقوم فيه أهل المدينة بالاحتفاء بقططهم وقطط جيرانهم وقطط الشوارع لمدّة يومين، ويقدّمون لها “أي القطط” ما لذّ وطاب من الأطعمة القططية المعروفة، يحمّمونها ينشفونها ويدلّلونها إلى أقصى درجة ممكنة، ثم ينتخبون ملكة جمال القطط وملك جمال الهوارين، ويحصل أصحاب القطط الفائزة من الجنسين على مبالغ كبيرة تتجاوز خمسمائة ألف فرنك إيطالي.
تلقّيتُ تنبيهاً من رئيس التحرير إلى ضرورة الانتباه إلى أنّ عملة إيطاليا هي “اللير” وليس الفرنك، قال:
- كمان هالمرّة بلعناها.. أرجوك يا أستاذ حسين انتبه جيّداً لأخبارك فأنت دائماً تفسدها بأخطاء تافهة، والقرّاء أصبحوا ينتبهون لكل شاردة وواردة في الخبر، الناس الآن واعون مثقّفون ومتابعون، قد تثير شكوكهم بأخطاء كهذه..
- كان ينبغي أن أقول لير؟
- نعم..
- واليورو؟
- نعم نعم أقصد اليورو.. أنسيتني أنهم وحّدوا العملات الأوروبية، الله عليك يا أستاذ حسين، جينا لنصلّح غلط فغلطنا.. .
صار يضحك مع أنه “تعكنن” من هذا الموقف الذي حاول فيه “كعادته” أن يكون فهيماً.
***
أعمل في قسم الأخبار العالمية المتنوّعة أو المنوّعة في جريدة “النهار الطويل” التي يملكها ويرأس تحريرها ويديرها هذا الجحش، ولم أنشر خبراً واحداً في بداية عملي إلا وعلّق عليه، ولكنّه لم يعلّق مرّةً واحدةً بالطريقة التي كنت أخشاها!.
مثلاً.. اكتشف علماء الأحافير في تشيلي هيكلاً عظمياً لحيوان ضخم يشبه الحمار، ويفوقه بالحجم كثيراً، ولقد أكّد الباحثون أنّ الحمار الكبير الذي اكتشفوه يشبه كثيراً الخيول العربية، ولكنّه من اللواحم وذلك بسبب أنيابه الحادّة، على عكس جميع الحمير الصغيرة التي تعيش في عصرنا الحالي، وقال عالِم الأحياء-الأموات “ماركو باندوريتش” في تصريح لجريدتنا: إنّ الحيوان المكتشف هو حمار في كلّ شيء ما عدا طبيعة غذائه التي تعتمد على الحيوانات الصغيرة، ولو كان نباتياً لربّما صنّفناه في زمرة الأحصنة.
- يا أستاذ حسين.. ينبغي أن تقول علماء الأحفورات وليس الأحافير.. أحفورات يا أستاذ حسين ومفردها أحفورة واحدة، أرجوك انتبه إلى اللغة، القرّاء هذه الأيام مختلفون، سيقف الكثيرون عند هذا الخطأ ويتّهمون المحرّر بالجهل في قواعد اللغة، اللغة يا أستاذ أرجوك انتبه.
- حسنا سأبذل جهدي، أعدك.
في التحقيق الذي قدّمته مترجماً عن جريدة (نيوز ويز ويز)، اتّصل بي هذا المعتوه الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهنّأني على المقال، وفي اليوم التالي قام بتوبيخي لأنني لم أذكر اسم الكاتب الأصلي للمقال المُترجَم.
- يا أستاذ حسين، العمل الصحفي يقوم على مبدأ أخلاقي أساسي وهو الصدق في النقل، هذه حقوق محفوظة لأصحابها، وعليك كصحفي ألا تنسى ذلك، لا ينبغي لنا أن نُغفل أسماء أصحاب الأعمال التي نترجمها، مفهوم؟.
- مفهوم.. حسناً لن أكرّر ذلك.
- القرّاء يا أستاذ حسين.. القرّاء هذه الأيّام مختلفووون.
في الأسبوع التالي جنّ جنونه لمّا قرأ هذا الخبر:
يحتاج الناس في اليابان ما معدّله خمس ساعات يومياً للتأمّل.
ففي إحصائية أجراها معهد “تو بي نو أور يس” لأبحاث الأعصاب الوطنية الياباني تبيّن أن المواطن الياباني يمضي نحو خمس ساعات من يومه في حالة تأمّل، ويؤكّد الباحثون في المعهد أن قدرة هذا المواطن على التأمّل تتناسب طرداً مع الطقس العامّ، فتزداد كلما زاد “اكفهراره”.
لم أستطع إقناعه أن الاكفهرار كلمة عربية فصيحة، اكفهرّ يكفهرّ اكفهراراً، وأنها صفة للّيل الذي يشتدّ ظلامه، صاح بي:
- اكفهرار يا أستاذ حسين؟ من وين هي؟
- والله يا أستاذ من المعجم، اكفهرّ يكفهرّ اكفهراراً.
- شوف يا أستاذ القرّاء أصبحوا واعين، لا يمكن تقبّل كلمة كهذه في خبر صحفي عن اليابان، قل: كلما زاد الطقس سوءاً، مفهوم؟
- حسنا كما تريد.
هكذا دائماً، ينبش في أخباري العالمية حتى يقع على ما يمكن التعلّق به من أجل توبيخي أو توجيه ملاحظة في أحسن الأحوال.
مرّةً كتبت الخبر التالي: يبدو أن الشباب العاطلين عن العمل في جمهورية الدانمرك قرّروا ضرب وعود الحكومة لهم عرض الحائط، فخرجوا منذ صبيحة اليوم الفائت في مظاهرة حاشدة تستهدف منزل رئيس الدولة للتنديد بسياسات الحكومة حول هذه القضية، وأكّد النائب “بولتون نورث” من المعارضة الدانمركية في حديث إلى جريدتنا أن السبب الرئيسي لتخلّف الحكومة عن حلّ مشاكل أولئك الشباب هو عدم قدرتها على محاربة الفساد الذي انتشر كالهشيم في أروقة الوزارات الدانمركية، وأسفرت المواجهات عن عقد جلسة طارئة للبرلمان.
- أرجوك أستاذ حسين لا تتدخّل بالأخبار السياسية، أنت في قسم الأخبار العالمية المنوّعة، تذكّر ذلك، هذا خبر لا علاقة له بالقسم الذي تعمل فيه، مفهوم؟
- مفهوم.
***
مع مرور الأيّام اعتدت على السيّد مالك ورئيس ومدير الصحيفة، واستطعت أن أساير توجهاته في العمل.
أيقنت أنه يريد خبراً صحفياً متقناً ومتكاملاً لا غلط فيه، ولم يكن يهتمّ إن كان الخبر نفسه صحيحاً أم لا.
لا مشكلة إن كانت روفيري مدينة إيطالية أصلاً، أو كان اكتشاف الحمار اللاحم حقيقةً، أو أنّ ثمّة جريدة تدعى نيوز ويز ويز، أو أنّ المواطن الياباني لا يكفهرّ لأنه يعمل ولا يتأمّل، أو كانت الدانمرك مملكة وليست جمهورية، كل هذا غير مهمّ.
فالقرّاء أصبحوا واعين جدّاً ولا ينبغي أن يخطئ المحرّر في الخبر الذي ينقله، حتّى وإن كان الخبر كلّه مجرّد كذبة.
لذلك توخّيت الكذب وقصدته، حتّى حصلتُ بعد أعوام على جائزة أفضل خبر عالمي “منوّع” على الإطلاق:
قال وأفاد وصرّح مواطن سوري اسمه “سليم ميخا الحوت” أنّه شاهد بأمّ كلّ عين من عينيه، مئات من أشباه جثث ملقاة في ساحات مجهولة ضمن مبانٍ معروفة، جثث مشوّهة هزيلة، لشباب ورجال ماتوا بلا سبب معروف، لكنّما بالتأكيد أو غالباً أو ربّما.. بسبب الريجيم المُفرط أو الرياضة القاسية، ولقد انزعج “سليم” من هذا المشهد المُرعب كثيراً، فقام بالتقاط صور لأكثر من عشرة آلاف واحد منهم، ثمّ أرسلها إلى الاتّحاد الرياضي العامّ في الأمم المتّحدة، احتجاجاً على تفشّي هذه الظاهرة في سوريا وعدم اكتراث العالم بها، فلماذا يقوم الآلاف من السوريين بقتل أنفسهم بهذه الطريقة الغريبة العجيبة الرهيبة؟.
بعدما حصلتُ على الجائزة قال لي رئيس التحرير: الله يسلّم إيديك رفعت راسنا، هذا هو الخبر المنوّع المتوازن المعقول الذي يلامس عقول الناس ويقنعهم، لكن.. قُلْ لي يا أستاذ حسين: كيف صنعتَ كلّ هذا الخيال؟